الحياة فوضى، لذلك يحاول الإنسان تنظيمها بوسائل شتى، بما في ذلك ارتكاب الجريمة. فالدوافع تمرد على الفوضى، ولذلك فرِح الإنسان باكتشافه لقوانين الطبيعة. وشعر بقليل من الأمان، حتى أنه عندما اتجهت النظريات الحديثة إلى تأكيد الفوضى، رفضها بعض العلماء مثل آينشتاين، لأن هذا يلغي تلك الطمأنينة القديمة، التي جعلت علم الفلك (السماء البعيدة عن يد الإنسان) من أوائل العلوم التي انتجها الإنسان. وارتبط (علم الفلك) القانون الطبيعي بالجوانب الاقتصادية والسياسية والعسكرية، مثل مواقيت الزراعة والحصاد والرعي، وشن الحرب. ونتيجة لأن قوانين الطبيعة لم تكن كافية لترتيب الفوضى، أنتج الإنسان القانون، عبر الأعراف في الثقافات المحلية، ثم الحضارات المحلية بعد اكتشاف الزراعة. وفي اللحظة التي يفشل فيها الإنسان في ترتيب الفوضى فإنه يلجأ إلى الغيبيات، فنشأ السحر، والدين، والتنجيم، والتنبؤات الاستبصارية. ولمزيد من السيطرة، بحث الصينيون عن إكسير الحياة، ونتيجة لذلك ظهرت الكيمياء، وانتقلت الكيمياء للحضارات الاخرى، وبدأت محاولة تحويل المعادن إلى ذهب. وكانت أغلب دوافع إنتاج العلوم نفعية، ففي بابل ظهرت الرياضيات عبر التجار، ومعهم الصينيون وانتقلت للمصريين واليونانيين. إذ لا يوجد علم من أجل العلم، ففي أقصى حالات التجريد يكون الغرض من العلم هو فهم العالم (ترتيب فوضى الذهن). وفي العصر الحديث، وانتصار الرأسمالية، ارتبطت العلوم بالتجارة، اي بقانون السوق، وفوق ذلك، أضحى هناك استخدام سياسي للعلم، لقد كان فن الخطابة أقدم الفنون السياسية، واليوم هناك علوم التحكم المختلفة. لكن لأن الحياة فوضوية، فإن العلوم لم تتمتع أبداً بالثبات، ففيزياء الكم اليوم تنسف الفهم القديم للعلم لو صدقت فرضياتها. أما العلوم الإنسانية، فهي أيضاً تؤكد نزعتنا كبشر لمجابهة الفوضى. لذلك فكل علومنا البشرية هي أقل بكثير من الحقائق المجهولة. وبين العلم والجهل نشأت الفلسفة أيضاً، لتتناول المجهول، ولكنها لم تنجح في ترتيب الفوضى، بل ربما زادتها التهاباً.
حياتنا الفوضوية أثرت فينا كبشر، فاختلقنا المؤسسات؛ وأعتقد أن نزوعنا إلى المؤسسية دليل كافٍ على الفوضى. فهناك المؤسسات الاجتماعية كالقبيلة والعائلة والأسرة، وهناك مؤسسات مهنية، كالنقابات والاتحادات والأخويات. وهناك مؤسسات عدلية، كالقضاء والبرلمان، وهناك مؤسسات سياسية، كالأحزاب والحكومات، وهناك مؤسسات اقتصادية كالتكتلات والتوطين، وهناك مؤسسات ثقافية وفنية وأدبية، كالمنظمات والمعارض والمدارس المختلفة، وهناك مؤسسات دينية، وفلسفية ورياضية...الخ. هكذا يحاول الإنسان تنظيم الفوضى العميقة. ونتيجة لهذه الفوضى فإن الصراع بين المؤسسات حتمي، إذ ان المصالح تتعارض وتتناقض وتتقابل وتتبدل (صديق اليوم عدو الأمس أو العكس). وهكذا تبدأ تحالفات جديدة، فتنتج تلك المحاولات اليائسة لتنظيم الفوضى المزيد من المؤسسات، ثم المزيد فالمزيد. والأخطر من ذلك أنه مع نشوء أي مؤسسة جديدة، ينشأ صراع حتمي جديد. وتبدو فرضية هيجل وماركس سطحيتان جداً بالمقارنة بذلك الزخم المتمدد من الفوضى والصراع وإنتاج المؤسسات.
إنما الأشد خطورة من كل ذلك، هو تجاهل تلك الفوضى، بل وتشذيب أذهان الأطفال على أساس حضورهم في عالم منظم. ولذلك فالمدارس هي من أسوأ المؤسسات التي تصور للطفل بأن العالم منظم من خلال طرح العلوم المختلفة كخاتمة محسومة للواقع. وهذا غير صحيح، وربما كانت -من فوائد الفلسفة الضئيلة- أن تدريسها فقط يفتح أذهان الطالب على حقيقة عالمنا الفوضوي، وبالتالي امتلاك الذهن منذ الصغر للتصور الحقيقي للعالم الذي يجعله مرناً في المستقبل. فكلمة "نسبي" تعني في حقيقتها الفوضى، فعدم ثبات القانون يعني التخبط. لكننا نحاول حتى وضع المصطلحات المفجعة داخل قوالب أخف تأثيراً، لكي لا نعترف بالفوضى التي تحيط بنا. ونتيجة لأن العدمية -كإحساس أصيل عند الإنسان- تبعث على القنوط بإعتبارها تتويجاً لفوضى الحضور الإنساني زمكانياً، فإن الإنسان عاد فنظر إلى السماء ليجد فيها الوعد بالنظام، منتجاً مئات الآلاف من الأنظمة لما بعد الموت أو ما وراء الحياة، فالموت لحظة فاصلة فقط، يجب تجاوزها، وهذا كان دافعاً طيباً للعمل والاجتهاد، منذ الأزمان الغابرة، بل وإنتاج معجزات كالأهرامات وسور الصين. لو بحثنا في الحضارات القديمة ولتكن المصرية، فنجد أنها اهتمت بما بعد الموت أكثر من الحياة، ولو كانت تلك الأهرامات الشاهقة كالجبال والمتينة كالفولاذ هي مقابر بالفعل، في حين لا نجد بقربها قصوراً بذات العظمة والقوة والتعالي، فلا دليل أكبر من ذلك، على أن دوافع تلك الحضارات كانت -مثل حاضرنا اليوم- محاولة لتجاوز فوضاها الوجودية.
حياتنا الفوضوية أثرت فينا كبشر، فاختلقنا المؤسسات؛ وأعتقد أن نزوعنا إلى المؤسسية دليل كافٍ على الفوضى. فهناك المؤسسات الاجتماعية كالقبيلة والعائلة والأسرة، وهناك مؤسسات مهنية، كالنقابات والاتحادات والأخويات. وهناك مؤسسات عدلية، كالقضاء والبرلمان، وهناك مؤسسات سياسية، كالأحزاب والحكومات، وهناك مؤسسات اقتصادية كالتكتلات والتوطين، وهناك مؤسسات ثقافية وفنية وأدبية، كالمنظمات والمعارض والمدارس المختلفة، وهناك مؤسسات دينية، وفلسفية ورياضية...الخ. هكذا يحاول الإنسان تنظيم الفوضى العميقة. ونتيجة لهذه الفوضى فإن الصراع بين المؤسسات حتمي، إذ ان المصالح تتعارض وتتناقض وتتقابل وتتبدل (صديق اليوم عدو الأمس أو العكس). وهكذا تبدأ تحالفات جديدة، فتنتج تلك المحاولات اليائسة لتنظيم الفوضى المزيد من المؤسسات، ثم المزيد فالمزيد. والأخطر من ذلك أنه مع نشوء أي مؤسسة جديدة، ينشأ صراع حتمي جديد. وتبدو فرضية هيجل وماركس سطحيتان جداً بالمقارنة بذلك الزخم المتمدد من الفوضى والصراع وإنتاج المؤسسات.
إنما الأشد خطورة من كل ذلك، هو تجاهل تلك الفوضى، بل وتشذيب أذهان الأطفال على أساس حضورهم في عالم منظم. ولذلك فالمدارس هي من أسوأ المؤسسات التي تصور للطفل بأن العالم منظم من خلال طرح العلوم المختلفة كخاتمة محسومة للواقع. وهذا غير صحيح، وربما كانت -من فوائد الفلسفة الضئيلة- أن تدريسها فقط يفتح أذهان الطالب على حقيقة عالمنا الفوضوي، وبالتالي امتلاك الذهن منذ الصغر للتصور الحقيقي للعالم الذي يجعله مرناً في المستقبل. فكلمة "نسبي" تعني في حقيقتها الفوضى، فعدم ثبات القانون يعني التخبط. لكننا نحاول حتى وضع المصطلحات المفجعة داخل قوالب أخف تأثيراً، لكي لا نعترف بالفوضى التي تحيط بنا. ونتيجة لأن العدمية -كإحساس أصيل عند الإنسان- تبعث على القنوط بإعتبارها تتويجاً لفوضى الحضور الإنساني زمكانياً، فإن الإنسان عاد فنظر إلى السماء ليجد فيها الوعد بالنظام، منتجاً مئات الآلاف من الأنظمة لما بعد الموت أو ما وراء الحياة، فالموت لحظة فاصلة فقط، يجب تجاوزها، وهذا كان دافعاً طيباً للعمل والاجتهاد، منذ الأزمان الغابرة، بل وإنتاج معجزات كالأهرامات وسور الصين. لو بحثنا في الحضارات القديمة ولتكن المصرية، فنجد أنها اهتمت بما بعد الموت أكثر من الحياة، ولو كانت تلك الأهرامات الشاهقة كالجبال والمتينة كالفولاذ هي مقابر بالفعل، في حين لا نجد بقربها قصوراً بذات العظمة والقوة والتعالي، فلا دليل أكبر من ذلك، على أن دوافع تلك الحضارات كانت -مثل حاضرنا اليوم- محاولة لتجاوز فوضاها الوجودية.