على سبيل البدء:
قد تبدو الوحدة العابرة للنصوص والتي تسلكها في خيط ناظم وللوهلة الأولى غير موجودة وكأن المجموعة لا يجمع بين نصوصها سوى دفتي الغلاف؛ وهو أمر مستبعد فهناك وحدة لاحمة بينها؛ ولان الحديث عن الانسجام ليس شيئا آخر سوى تحديد علاقة داخلية أو بالأحرى علاقات. فالبحث سيقود إلى اكتشاف علاقة داخلية تربط نصوص المجموعة وتلحم بعضها ببعض؛ إنها علاقة ضمنية لا تتكشف وتنكشف إلا ببذل جهد كبير وإعمال النظر للقبض عليها؛ وبلوغها سيؤكد بما لا يدع مجالا لأي شك تماسكها ووحدتها. فقد تظهر النصوص من حيث المعنى الظاهري متباينة ومختلفة وكأنها جزر مستقلة بذاتها وتدور حول نفسها بيد أن هذا الظاهر والتصور سيتحول انسجاما حين ندرك أن النصوص جميعها وفي أحسن الأحوال معظمها ما هي إلا محاولة الإجابة عن السؤال المحوري: ما سبب القبح الذي يعم حياتنا ويخترق كل مفاصلها مدار البحث وبؤرة الاهتمام. فكأن مقال الحال هو: لا يمكن أن تكون هناك خيبة مدوية إلا لوجود أسباب عميقة تقف وراءها وتنتجها. إنها ليست وليدة لحظتها بل هي ثمرة سيرورة وتراكم .والمعنى أو الخيط الناظم سيكون المدخل المهم لولوج النصوص تقليبا وبحثا واستخلاصا....
وتأكيدا لما سبق، نجد النصوص، ترتبط فيما بينها وكأنها نص واحد متعدد المشاهد، كل مشهد يروم قراءة جانب من جوانب الحياة برؤية نقدية صيغتها البلاغية السخرية وعمودها الحوار الخارجي، وشكلها البناء التناص كشكل من أشكال إغناء القصص وتدعيم منحاها الدلالي والمعنوي
عن العنوان:
محض خيال
يضعنا القاص أحمد بلقاسم أمام عنوان مخاتل، يتحدى القارئ ويدعوه إلى فك رموزه والقبض على معانيها المحتملة، فإذا كانت كلمة "محض" لا تثير الكثير من الغموض لكونها تدل على الصفاء والخالص من كل شائبة، فإن كلمة "خيال" تحمل معاني كثيرة وذات حمولة معرفية مهمة، من ذلك التعريف الذي قدمه شاكر عبد الحميد : هوعمليّة يقوم بها الإنسان بإرادته وبكل مرونة، يستطيع من خلالها أن يتجول في عالمه الخاص بواسطة عقله، وتكوين الصور وتحريكها حتى يصل إلى ما يريده، وهي عمليّة كلية ذات فروع خاصة بها
. أنواع الخيال وأقسامه
والخيال أنواع، منها:
الخيال الذي بواسطته يستطيع الإنسان استذكار المشاهد المعقّدة التي قام برؤيتها مسبقاً بكل تفاصيلها وكأنها أمامه.
الخيال الناجم عن الأحلام عند النوم.
. الخيال الناجم عن الحرمان، والذي يسمى بالهلوسة.
التخيل التأليفي والإبداعي، بحيث يستخدم الإنسان كافة حواسه لكي يقوم بإنتاج العديد من الأفكار الإبداعية، كالكتاب والمؤلفين.
والبين أن المعنى الأخير هو المقصود في العنوان. ولا يعارض الواقع بل بندغم معه ويكونان وحدة لا انفصام لها. فالخيال، هنا، هو الواقع، والواقع هو الخيال، وإن كانت كلمة "محض" تسعى إلى الفصل بينهما، فإن ذلك يدخل ضمن لعبة الكتابة التي تستمد نسغها من الواقع، لكنها لا تنفصل عن الخيال الذي هو لبها.
وإذا كان القاص يبغي إيهامنا بابتعاده عن الواقع والعيش في الخيال، فإن ممارسة فعل الكتابة لديه وما تنطوي عليه نصوصه من أبعاد، تؤكد بلا مناقشة أنه ينهل من الواقع ويصب فيه، وأن المسعى ليس الفصل بل الوصل بين العنصرين. إن كتاباته غارقة في واقعيتها من دون جفاف لكون الخيال يمدها بماء الحياة.
والسؤال المهم ونحن بصدد الحديث عن الخيال؛ هل تقوم الكتابة باستنساخ الواقع؟ لو قامت بذلك لكان الواقع أفضل؛ فالأصل أحسن من النسخة. فليس جيدا أن ينقل المبدع الواقع بحذافيره وكأنه ببغاء أو آلة تصوير بلهاء، وإنما يُعمِل عقله وخياله فيربط بين التفاصيل، ويجرد منها أنماطاً متكررة تساعده على فهم الواقع بطريقة أعمق وأشمل، فجوهر البحث والإبداع هو أن يكتشف الإنسان علاقة بين شيئين أو ظاهرتين لم يكتشفها أحد من قبل ويربط بينهما.1
ذلك أن الإبداع خلق للواقع أو إعادة كتابته وفق ضوابط الجنس الذي اتخذ وعاء. ومن هنا يمكن القول إن الكتابة تضاهي الواقع وهي تستلهمه إذ تحقق المتعة والفائدة وقبل ذلك الدهشة. كثيرا ما سبق الخيال الواقع وصاغه ثم قام بتجاوزه إلى واقع جديد.
فالقاص يطلِق العنان لخياله غازيا فضاءات جديدة وراسما مسارات عديدة، إيمانا منه أن ليس بالحقائق وحدها تتقدم البشرية، بل بالخيال دائماً وأبداً، وهو ما يؤكده ألبرت آينشتين بقوله: " الخيال أهم من الحقيقة، فالحقيقة محدودة أما الخيال فيطوف العالم ويحيط به".
فالخيال هو خطوة ما بعد الواقع، ثم بعد أن تتحقق تتحول لواقع وحقيقة، لتبدأ خطوة جديدة لخيال جديد وهكذا ترتقي البشرية في سلم الحضارة، لذا سنظل ندعو دائماً لاستدعاء لحظات الخيال القصوى النائمة في أعماقنا، ليصبح الخيال بمثابة فريضة إنسانية.2
وقد أثمر لنا هذا الخيال نصوصا بالغة الدقة والتركيز والاختزال والكثافة في السرد. فالاقتصاد بلغة السرد يعني الإمساك بالمعنى بأقل المفردات. وهذا يتطلب اليقظة في ممارسة فعل السرد، وعدم الذهاب في النص باتجاه الإنشاء والزيادة في اللغة.
**
1 و2_ محمد عمارة تقي الدين: حين يموت الخيال على مذبح الواقع، موقع الحوار المتمدن.
لعل ما يشد انتباه قارئ المجموعة أنها تقوم على ثلاثة عناصر أساسية تعضد السرد وتسير به إلى منتهى النقد اللاسع؛ تلك الأقانيم هي: السخرية كبلاغة، والتناص، وبخاصة مع القرآن، كتوليد، والحوار كعنصر بان من عناصر الكتابة القصصية. هذا العنصر الذي يعبر غالبة النصوص، وقد بني بطريقة فنية تقود إلى الغاية منه. بطريقة حجاجية تبغي الإقناع؛ إقناع المحاور ومن ورائه القارئ.
كل تلك العناصر، إضافة إلى الحكائية والسرد الناظم لها جميعا، جعلت من القصص كبسولات سريعة الهضم قوية المفعول، تجعل قارئها يطرح تساؤلاته وهو يسعى إلى الإجابة عن أسئلة النصوص، في حوار خلاق. إذ لا تترك القصص متسعا لسلبية القارئ، بل تورطه في أسئلتها، وتحثه على توليد أسئلته الخاصة وهو يحاورها.
الحوار:
يضعنا الحوار في المجموعة بين صوتين؛ صوت السارد وصوت محاوره، ويجعلنا نتابع المشهد وكأننا أمام مناظرة أو صراع بين رؤيتين متعارضتين لا يمن الجمع بينهما، يقوم السارد باستدراج خصمه في حوار منطقي يعتمد الحجج والبراهين، ليظهر تهافت خصمه؛ السارد في هذا الحوار يتخذ سمت سقراط وهو يحاور الناس بطريقة ساخرة ليبين مدى تهافت آرائهم، وتساقط حججهم، وبطلان تصوراتهم، يظهرهم عرايا من كل معرفة حتى يستعيدوا وعيهم المستلب بفعل يقينيات متهافتة لا تراجع نفسها لأنها جامدة ومن ثم متسلطة.
ينبئ الحوار بتواصل بين طرفيه لكن الحقيقة هي أن هذا التواصل لا يقود إلى تفاهم، بل إلى انفصال. مبرره تناقض الطرفين، وعدم القدرة على خلق جسر تفاهم يلحم بينهما، إن الفجوة تبدو جلية مع توالي أطوار الحديث؛ تلك الفجوة التي تمنع أي تفاهم أو تواصل بناء، من هنا، نفهم تلك الجملة التي ختم بها السارد أحد حواراته: هذا فراق بيني وبينها، هذا ما لم أستطع عليه صبرا ص 14.
واستثمار الآية القرآنية الكريمة، كتناص يغذي النص ويقوي من موقف الرجل وإصراره على الطلاق، وهو بصدد الحديث عن القصة القصيرة جدا، كونها لم تعد تستجيب لطموحاته الساعية إلى الطول مثل الرواية التي صارت تشكل طموحه. يقود إلى الحديث عن التناص؛ هذا العنصر الجمالي الموظف بذكاء لتقوية المواقف، وتسفيه الخصوم.
التناص:
نصوص المجموعة مشبعة بهذا العنصر الذي منح العمل عمقا وجمالا، فلا يمكنك قلب صفحة من الصفحات دون أن تصادف في طريق قراءتك هذا الجانب؛ إنه حاضر باستمرار وعابر لكل النصوص ومعبر عن تأثر القاص بالكتاب المقدس الذي يشكل خلفيته الإبداعية. ولا يعني هذا أن القرآن هو المصدر الوحيد الذي يستدعيه في نصوصه بل هناك مصادر أخرى كالحديث والشعر العربي والأمثال...وهو ما يؤكد خصوبة ذاكرة القاص وتنوع مصادره وغزارة ينابيع ثقافته.
السخرية:
. تعد السخرية نوعا من أنواع "العنف الواعي، الذي يمارسه العقل على نفسه، كي يتحمل رداءة العالم. هي أيضا الوجه الإيجابي للعدمية، والمحرك الأقوى للمخيلة المبدعة، حين تصبح أحداث العالم ووقائعه، غارقة في آفة التشابه والتكرار الروتيني القاتل، وتتحول الجزئيات التافهة إلى علم قائم بذاته.. السخرية تحمي العقل البشري من السقوط في اللامبالاة السلبية، تجعله آلة لتكرير ورسكلة القوانين الصارمة للعادة ، بكل جوانبها وتناقضاتها المملة، وسماجتها أحيانا، وتحوِّلها إلى مادة أولية للتجاوز و الإبداع
بالسخرية نواجه الموت اليومي وقبح العالم؛ نسخر من الوجود، من الأحداث، من الإيديولوجيات والثقافة، وأحيانا كثيرة من أنفسنا. لا شيء يستحق كل هذه الأقنعة الجادة/ السخيفة، التي يلبسها البعض، اعتقادا منهم أنها طريقة ناجعة، أو وسيلة جائزة لتغيير العالم.2
تطال السخرية كل مناحي الحياة؛ الاجتماعية والسياسية والثقافية والفنية، تخرج لسانها في وجه القبح منددة به وبتهافت المثقفين المهرولين في كل الاتجاهات بعد أن فقدوا حاستهم النقدية وبوصلتهم العقلية.
يضع السارد الجميع صوب مرماه ويرسل عليهم شواظ تهكمه وسخريته اللاذعة ليثير ضحك القارئ حتى يتخذ منها موقفا محددا بعد أن أسقط عنها ورقة التوت فصارت عارية من كل استعارة تخفي قبحها.
من ذلك نص "يقطينة" ص 67، والذي يقسم الحكي بين طرفين؛ طرف جمع يعتد بسباحته وترديده للأغاني وفرحه بالكم الهائل الذي يملأ رأسه من المعلومات والمعارف، وطرف فرد يحتمي بصمته. يسخر الطرف الأول من الثاني ويرميه بصفة فيها تصغير وتحقير؛ لكن النتيجة النهائية آلت لصالحه حيث بلغ الضفة التي لم يبلغها سواه فعاد محملا بما يثير الحسد مرددا أغنية تعبر عن نجاحه رغم تحريفها بل تعمد تحريفها ليغيظ من أساء إليه ذات حكي.
وفي نص "شيء يستحق الذكر" ص87
يقول محاور السارد مستغربا:
أما من شيء جميل في هذا البلد الأمين يستحق الذكر؟
لا تفعل أنت مثلهم اكتب شيئا جميلا عن وطنك وأهله.
فما كان من السارد إلا طلب الصبر مرارا إلى أن نفذ مخزونه منه فآثر الفراق متبرما كون الكتابة لا تستجيب لأوامر خارجية تحدد الموضوع والشكل بل هي رغبة حرة قادمة من الداخل، فقال غاضبا: وهذا فراق بيني وبينك.
وهي الجملة نفسها التي ختم بها النص السابق "سيلفي" ص11، مع حضور كلمة الصبر، مما يؤكد قولنا السابق إن النصوص مترابطة بخيوط السخرية والتناص والحوار.
_ 1 و2: علي أزحاف: في مديح السخرية، جريدة الاتحاد الاشتراكي.
في النهاية فهذه القراءة للمجموعة القيمة والمثيرة لشهوة السؤال والقبض على معانيها المحتملة لا تسمو إلى مستوى النظر الكلي والعام بل هي مجرد مقاربة خاصة على سبيل الإجمال ولا تدعي الإحاطة ولا بتقديم المعاني الحقيقية أو الرهان الأساس والمحوري للعمل. إنها قراءة تدرك نسبيتها وتدرك أن قراءات أخر قد تختلف معها؛ تؤكدها أو تنفيها أو تنسفها من أساسها.
**
أحمد بلقاسم: محض خيال، مجموعة قصصية، مطبعة نجمة الشرق، الطبعة الأولى سنة 2020 Voir moins
قد تبدو الوحدة العابرة للنصوص والتي تسلكها في خيط ناظم وللوهلة الأولى غير موجودة وكأن المجموعة لا يجمع بين نصوصها سوى دفتي الغلاف؛ وهو أمر مستبعد فهناك وحدة لاحمة بينها؛ ولان الحديث عن الانسجام ليس شيئا آخر سوى تحديد علاقة داخلية أو بالأحرى علاقات. فالبحث سيقود إلى اكتشاف علاقة داخلية تربط نصوص المجموعة وتلحم بعضها ببعض؛ إنها علاقة ضمنية لا تتكشف وتنكشف إلا ببذل جهد كبير وإعمال النظر للقبض عليها؛ وبلوغها سيؤكد بما لا يدع مجالا لأي شك تماسكها ووحدتها. فقد تظهر النصوص من حيث المعنى الظاهري متباينة ومختلفة وكأنها جزر مستقلة بذاتها وتدور حول نفسها بيد أن هذا الظاهر والتصور سيتحول انسجاما حين ندرك أن النصوص جميعها وفي أحسن الأحوال معظمها ما هي إلا محاولة الإجابة عن السؤال المحوري: ما سبب القبح الذي يعم حياتنا ويخترق كل مفاصلها مدار البحث وبؤرة الاهتمام. فكأن مقال الحال هو: لا يمكن أن تكون هناك خيبة مدوية إلا لوجود أسباب عميقة تقف وراءها وتنتجها. إنها ليست وليدة لحظتها بل هي ثمرة سيرورة وتراكم .والمعنى أو الخيط الناظم سيكون المدخل المهم لولوج النصوص تقليبا وبحثا واستخلاصا....
وتأكيدا لما سبق، نجد النصوص، ترتبط فيما بينها وكأنها نص واحد متعدد المشاهد، كل مشهد يروم قراءة جانب من جوانب الحياة برؤية نقدية صيغتها البلاغية السخرية وعمودها الحوار الخارجي، وشكلها البناء التناص كشكل من أشكال إغناء القصص وتدعيم منحاها الدلالي والمعنوي
عن العنوان:
محض خيال
يضعنا القاص أحمد بلقاسم أمام عنوان مخاتل، يتحدى القارئ ويدعوه إلى فك رموزه والقبض على معانيها المحتملة، فإذا كانت كلمة "محض" لا تثير الكثير من الغموض لكونها تدل على الصفاء والخالص من كل شائبة، فإن كلمة "خيال" تحمل معاني كثيرة وذات حمولة معرفية مهمة، من ذلك التعريف الذي قدمه شاكر عبد الحميد : هوعمليّة يقوم بها الإنسان بإرادته وبكل مرونة، يستطيع من خلالها أن يتجول في عالمه الخاص بواسطة عقله، وتكوين الصور وتحريكها حتى يصل إلى ما يريده، وهي عمليّة كلية ذات فروع خاصة بها
. أنواع الخيال وأقسامه
والخيال أنواع، منها:
الخيال الذي بواسطته يستطيع الإنسان استذكار المشاهد المعقّدة التي قام برؤيتها مسبقاً بكل تفاصيلها وكأنها أمامه.
الخيال الناجم عن الأحلام عند النوم.
. الخيال الناجم عن الحرمان، والذي يسمى بالهلوسة.
التخيل التأليفي والإبداعي، بحيث يستخدم الإنسان كافة حواسه لكي يقوم بإنتاج العديد من الأفكار الإبداعية، كالكتاب والمؤلفين.
والبين أن المعنى الأخير هو المقصود في العنوان. ولا يعارض الواقع بل بندغم معه ويكونان وحدة لا انفصام لها. فالخيال، هنا، هو الواقع، والواقع هو الخيال، وإن كانت كلمة "محض" تسعى إلى الفصل بينهما، فإن ذلك يدخل ضمن لعبة الكتابة التي تستمد نسغها من الواقع، لكنها لا تنفصل عن الخيال الذي هو لبها.
وإذا كان القاص يبغي إيهامنا بابتعاده عن الواقع والعيش في الخيال، فإن ممارسة فعل الكتابة لديه وما تنطوي عليه نصوصه من أبعاد، تؤكد بلا مناقشة أنه ينهل من الواقع ويصب فيه، وأن المسعى ليس الفصل بل الوصل بين العنصرين. إن كتاباته غارقة في واقعيتها من دون جفاف لكون الخيال يمدها بماء الحياة.
والسؤال المهم ونحن بصدد الحديث عن الخيال؛ هل تقوم الكتابة باستنساخ الواقع؟ لو قامت بذلك لكان الواقع أفضل؛ فالأصل أحسن من النسخة. فليس جيدا أن ينقل المبدع الواقع بحذافيره وكأنه ببغاء أو آلة تصوير بلهاء، وإنما يُعمِل عقله وخياله فيربط بين التفاصيل، ويجرد منها أنماطاً متكررة تساعده على فهم الواقع بطريقة أعمق وأشمل، فجوهر البحث والإبداع هو أن يكتشف الإنسان علاقة بين شيئين أو ظاهرتين لم يكتشفها أحد من قبل ويربط بينهما.1
ذلك أن الإبداع خلق للواقع أو إعادة كتابته وفق ضوابط الجنس الذي اتخذ وعاء. ومن هنا يمكن القول إن الكتابة تضاهي الواقع وهي تستلهمه إذ تحقق المتعة والفائدة وقبل ذلك الدهشة. كثيرا ما سبق الخيال الواقع وصاغه ثم قام بتجاوزه إلى واقع جديد.
فالقاص يطلِق العنان لخياله غازيا فضاءات جديدة وراسما مسارات عديدة، إيمانا منه أن ليس بالحقائق وحدها تتقدم البشرية، بل بالخيال دائماً وأبداً، وهو ما يؤكده ألبرت آينشتين بقوله: " الخيال أهم من الحقيقة، فالحقيقة محدودة أما الخيال فيطوف العالم ويحيط به".
فالخيال هو خطوة ما بعد الواقع، ثم بعد أن تتحقق تتحول لواقع وحقيقة، لتبدأ خطوة جديدة لخيال جديد وهكذا ترتقي البشرية في سلم الحضارة، لذا سنظل ندعو دائماً لاستدعاء لحظات الخيال القصوى النائمة في أعماقنا، ليصبح الخيال بمثابة فريضة إنسانية.2
وقد أثمر لنا هذا الخيال نصوصا بالغة الدقة والتركيز والاختزال والكثافة في السرد. فالاقتصاد بلغة السرد يعني الإمساك بالمعنى بأقل المفردات. وهذا يتطلب اليقظة في ممارسة فعل السرد، وعدم الذهاب في النص باتجاه الإنشاء والزيادة في اللغة.
**
1 و2_ محمد عمارة تقي الدين: حين يموت الخيال على مذبح الواقع، موقع الحوار المتمدن.
لعل ما يشد انتباه قارئ المجموعة أنها تقوم على ثلاثة عناصر أساسية تعضد السرد وتسير به إلى منتهى النقد اللاسع؛ تلك الأقانيم هي: السخرية كبلاغة، والتناص، وبخاصة مع القرآن، كتوليد، والحوار كعنصر بان من عناصر الكتابة القصصية. هذا العنصر الذي يعبر غالبة النصوص، وقد بني بطريقة فنية تقود إلى الغاية منه. بطريقة حجاجية تبغي الإقناع؛ إقناع المحاور ومن ورائه القارئ.
كل تلك العناصر، إضافة إلى الحكائية والسرد الناظم لها جميعا، جعلت من القصص كبسولات سريعة الهضم قوية المفعول، تجعل قارئها يطرح تساؤلاته وهو يسعى إلى الإجابة عن أسئلة النصوص، في حوار خلاق. إذ لا تترك القصص متسعا لسلبية القارئ، بل تورطه في أسئلتها، وتحثه على توليد أسئلته الخاصة وهو يحاورها.
الحوار:
يضعنا الحوار في المجموعة بين صوتين؛ صوت السارد وصوت محاوره، ويجعلنا نتابع المشهد وكأننا أمام مناظرة أو صراع بين رؤيتين متعارضتين لا يمن الجمع بينهما، يقوم السارد باستدراج خصمه في حوار منطقي يعتمد الحجج والبراهين، ليظهر تهافت خصمه؛ السارد في هذا الحوار يتخذ سمت سقراط وهو يحاور الناس بطريقة ساخرة ليبين مدى تهافت آرائهم، وتساقط حججهم، وبطلان تصوراتهم، يظهرهم عرايا من كل معرفة حتى يستعيدوا وعيهم المستلب بفعل يقينيات متهافتة لا تراجع نفسها لأنها جامدة ومن ثم متسلطة.
ينبئ الحوار بتواصل بين طرفيه لكن الحقيقة هي أن هذا التواصل لا يقود إلى تفاهم، بل إلى انفصال. مبرره تناقض الطرفين، وعدم القدرة على خلق جسر تفاهم يلحم بينهما، إن الفجوة تبدو جلية مع توالي أطوار الحديث؛ تلك الفجوة التي تمنع أي تفاهم أو تواصل بناء، من هنا، نفهم تلك الجملة التي ختم بها السارد أحد حواراته: هذا فراق بيني وبينها، هذا ما لم أستطع عليه صبرا ص 14.
واستثمار الآية القرآنية الكريمة، كتناص يغذي النص ويقوي من موقف الرجل وإصراره على الطلاق، وهو بصدد الحديث عن القصة القصيرة جدا، كونها لم تعد تستجيب لطموحاته الساعية إلى الطول مثل الرواية التي صارت تشكل طموحه. يقود إلى الحديث عن التناص؛ هذا العنصر الجمالي الموظف بذكاء لتقوية المواقف، وتسفيه الخصوم.
التناص:
نصوص المجموعة مشبعة بهذا العنصر الذي منح العمل عمقا وجمالا، فلا يمكنك قلب صفحة من الصفحات دون أن تصادف في طريق قراءتك هذا الجانب؛ إنه حاضر باستمرار وعابر لكل النصوص ومعبر عن تأثر القاص بالكتاب المقدس الذي يشكل خلفيته الإبداعية. ولا يعني هذا أن القرآن هو المصدر الوحيد الذي يستدعيه في نصوصه بل هناك مصادر أخرى كالحديث والشعر العربي والأمثال...وهو ما يؤكد خصوبة ذاكرة القاص وتنوع مصادره وغزارة ينابيع ثقافته.
السخرية:
. تعد السخرية نوعا من أنواع "العنف الواعي، الذي يمارسه العقل على نفسه، كي يتحمل رداءة العالم. هي أيضا الوجه الإيجابي للعدمية، والمحرك الأقوى للمخيلة المبدعة، حين تصبح أحداث العالم ووقائعه، غارقة في آفة التشابه والتكرار الروتيني القاتل، وتتحول الجزئيات التافهة إلى علم قائم بذاته.. السخرية تحمي العقل البشري من السقوط في اللامبالاة السلبية، تجعله آلة لتكرير ورسكلة القوانين الصارمة للعادة ، بكل جوانبها وتناقضاتها المملة، وسماجتها أحيانا، وتحوِّلها إلى مادة أولية للتجاوز و الإبداع
بالسخرية نواجه الموت اليومي وقبح العالم؛ نسخر من الوجود، من الأحداث، من الإيديولوجيات والثقافة، وأحيانا كثيرة من أنفسنا. لا شيء يستحق كل هذه الأقنعة الجادة/ السخيفة، التي يلبسها البعض، اعتقادا منهم أنها طريقة ناجعة، أو وسيلة جائزة لتغيير العالم.2
تطال السخرية كل مناحي الحياة؛ الاجتماعية والسياسية والثقافية والفنية، تخرج لسانها في وجه القبح منددة به وبتهافت المثقفين المهرولين في كل الاتجاهات بعد أن فقدوا حاستهم النقدية وبوصلتهم العقلية.
يضع السارد الجميع صوب مرماه ويرسل عليهم شواظ تهكمه وسخريته اللاذعة ليثير ضحك القارئ حتى يتخذ منها موقفا محددا بعد أن أسقط عنها ورقة التوت فصارت عارية من كل استعارة تخفي قبحها.
من ذلك نص "يقطينة" ص 67، والذي يقسم الحكي بين طرفين؛ طرف جمع يعتد بسباحته وترديده للأغاني وفرحه بالكم الهائل الذي يملأ رأسه من المعلومات والمعارف، وطرف فرد يحتمي بصمته. يسخر الطرف الأول من الثاني ويرميه بصفة فيها تصغير وتحقير؛ لكن النتيجة النهائية آلت لصالحه حيث بلغ الضفة التي لم يبلغها سواه فعاد محملا بما يثير الحسد مرددا أغنية تعبر عن نجاحه رغم تحريفها بل تعمد تحريفها ليغيظ من أساء إليه ذات حكي.
وفي نص "شيء يستحق الذكر" ص87
يقول محاور السارد مستغربا:
أما من شيء جميل في هذا البلد الأمين يستحق الذكر؟
لا تفعل أنت مثلهم اكتب شيئا جميلا عن وطنك وأهله.
فما كان من السارد إلا طلب الصبر مرارا إلى أن نفذ مخزونه منه فآثر الفراق متبرما كون الكتابة لا تستجيب لأوامر خارجية تحدد الموضوع والشكل بل هي رغبة حرة قادمة من الداخل، فقال غاضبا: وهذا فراق بيني وبينك.
وهي الجملة نفسها التي ختم بها النص السابق "سيلفي" ص11، مع حضور كلمة الصبر، مما يؤكد قولنا السابق إن النصوص مترابطة بخيوط السخرية والتناص والحوار.
_ 1 و2: علي أزحاف: في مديح السخرية، جريدة الاتحاد الاشتراكي.
في النهاية فهذه القراءة للمجموعة القيمة والمثيرة لشهوة السؤال والقبض على معانيها المحتملة لا تسمو إلى مستوى النظر الكلي والعام بل هي مجرد مقاربة خاصة على سبيل الإجمال ولا تدعي الإحاطة ولا بتقديم المعاني الحقيقية أو الرهان الأساس والمحوري للعمل. إنها قراءة تدرك نسبيتها وتدرك أن قراءات أخر قد تختلف معها؛ تؤكدها أو تنفيها أو تنسفها من أساسها.
**
أحمد بلقاسم: محض خيال، مجموعة قصصية، مطبعة نجمة الشرق، الطبعة الأولى سنة 2020 Voir moins