عماد فؤاد - أزقّة باريس... الزوايا المنسية بعيون بلجيكيّة

✦ ارتبط التصوير الفوتوغرافي منذ بداياته الأولى بفكرة التوثيق، كلحظة زمنية أو فنية يتم الاحتفاظ بها ساكنة، لكنها رغم هذا السكون لا تزال توحي لمن يشاهدها بالأفكار والمرجعيات التي تقف خلفها. لكن سرعان ما بدأت إنجازات التصوير الفوتوغرافي تتخذّ، خاصة مع التطور التقني الذي تسارع في بدايات القرن العشرين، معاني أخرى أهم وأعمق من مجرد فكرة "التوثيق"، فتلاحظ سوزان سونتاغ، في كتابها الهام "حول الفوتوغراف" (ترجمة عباس المفرجي، المدى 2013): "تكمن قوّة الصورة في أنها تفتح إمكانية تفحّص لحظات تُستبدل على الفور، في مجرى الزمن العادي، بلحظات أخرى. هذا التجمّد في الزمن - الركود الوقح في كل صورة - أنتج قوانين جمال جديدة، وأكثر شمولية".
✦ الجانب غير المرئي
بهذا المعنى الذي تطرحه سونتاغ، يمكننا الدخول إلى تجربة المصورة الفوتوغرافية البلجيكية كارين بورغاوتس، والتي قرّرت تصوير أزقة العاصمة الفرنسية باريس وشوارعها المسدودة، في مشروع لا يقتصر فقط على توثيق هذه الأماكن، بقدر ما يسعى إلى تحويل هذه الأزقة المسدودة إلى لوحات يمكن النظر إليها بمعزل عن فوتوغرافيتها الساكنة، وخاصة أن أغلب هذه الصور تخلو من أي عنصر بشري، فلا نرى فيها إلا أبنية تتباين في معمارها بين القديم والحديث، يتجاور فيها المتهالك الذي أتلفته مياه الأمطار، مع الجديد ذي الألوان الموحّدة، إلا في ما ندر، وليس من أثر للحياة فيها إلا شجرة هنا ونبتة هناك، في تحدّ حقيقي للصورة المشهورة عن مدينة النور في أذهان محبّيها حول العالم، كأن الفوتوغرافية أرادت أن تكشف عن الجانب الخلفي غير المرئي من المدينة التي ظلّت لقرون عاصمة أوروبا الحضارية الأهم.
✦ المباني العتيقة
كانت الطريقة المثالية لاستكشاف باريس من قبل كارين بورغاوتس (61 عاماً)، كما تقول في حوارها مع صحيفة "ده ستاندارد" الفلمنكية قبل أيام، هي "التجوّل على غير هدى في الشوارع الخلفية للعاصمة الفرنسية، بعيداً عن المناطق السياحية المعروفة"، موضّحة: "أحب تصوير المباني العتيقة والشوارع المنسية، ومن طبيعتي التجوّل والتقاط الصور في أي مكان، ولأني أزور باريس كل عام لزيارة المعارض، فغالباً ما أمشي لمسافات طويلة، وحين ينتهي بي الحال إلى طريق مسدود كنت أصوره، ومن هنا ولد المشروع.
أعيد تخطيط وبناء باريس في القرن التاسع عشر على يد المعماري الفرنسي جورج أوجين هوسمان (1809 - 1891)، وعُرف تخطيطه لعاصمة النور باسم "المخطّط الهوسماني"، وهو الذي وضع كذلك نظام البوليفارد الموجود حتى يومنا هذا، وعلى الرغم من فقدان العديد من أزقة باريس الشهيرة على مدى عقود القرنين الماضيين، إلا أنه ما زال في إمكاننا العثور على ما يقرب من 600 من أزقتها التاريخية تلك، وهي الملاحظة التي لفتت نظر الفوتوغرافية البلجيكية المولعة بالعاصمة الفرنسية، فتقول: "سيطرت عليّ هذه الملاحظة لشهور، ودفعتني إلى توثيق هذه الأزقة من خلال الكاميرا، قبل أن تختفي هي الأخرى، ناهيك عن أن هذه الأزقة لا تتوافق إطلاقاً مع صورة باريس التي نعرفها اليوم، وهو ما دفعني إلى خوض التجربة، أولاً من باب التوثيق الفوتوغرافي، وثانياً إشباعاً لرغبتي المستمرة في تحويل الصور الفوتوغرافية إلى لوحات".
✦ لا عناصر بشريّة
وإذا كان الفوتوغرافي السويسري الشهير روبرت فرانك قد قال ذات يوم: "بإمكانك الآن تصوير أي شيء"، فإن كارين بورغاوتس صورت في المجموع ما يقرب من 400 زقاق من أزقة باريس المنسية في الفترة من 2015 وحتى 2019، لتصدر أخيراً كتاباً ضخماً تحت عنوان Paris Impasse، متضمناً هذا الأرشيف الفوتوغرافي للمدينة في 304 صفحات عبر 225 صورة تم اختيارها للكتاب، رصدتها بورغاوتس بعين انحازت فيها إلى الأبنية وحدها، فلا يوجد أي عنصر بشري في صور الكتاب كما أشرنا، وكأن المصورة تستدعي، بشكل ما، مقولة مصور الشارع الأميركي الشهير غاري وينوغراند حين قال: "أنا أصوّر كي أكتشف ما سيبدو عليه الشيء وهو مُصوّر". النقطة ذاتها تتناولها بورغاوتس قائلة: "أشعر دوماً أن وجود العنصر البشري في الصور يجلب معه دائماً قصّة ما، وهو ما يدفع المتلقّي على الفور إلى التساؤل عما يفعله هذا الشخص أو ذاك في فضاء الصورة، وينسى أن ينظر إلى الأبنية الموجودة في الخلفية بمعزل عن هذا الوجود البشري، هنا تتحوّل الأبنية، كما قلت، إلى مجرد خلفية، وهذا ما لم أرده في هذه التجربة، بل أردت أن تكون هذه الأزقة هي الموضوع الرئيسي في الصور بشكل عام".
منذ بداية مشوارها مع التصوير الفوتوغرافي، تميّزت كارين بورغاوتس بتصوير الأماكن والبنايات الأثرية والمساحات المعمارية والديكورات الداخلية، ما جعل صورها تحتل موقعاً خاصاً بين التصوير الفوتوغرافي والفن المرئي، الذي يحيلك على الفور إلى الفن التشكيلي، وهو الأسلوب الذي أغنته المصورة من خلال خبرتها الطويلة في العمل مع العديد من المنظمات الفنية والثقافية والتراثية والمتاحف ومجالس المدن، وساعدتها في ذلك دراستها للرسم والنحت والتصوير والغرافيك، لكل هذه الأسباب تم ترشيح كتاب بورغاوتس أخيراً لجائزة LUMA Rencontres Dummy الفرنسية العريقة.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...