كاظم حسوني - الثلج الكبير..

لما ازيحت قطعاتهم، عقب هجومنا المقابل، شرعنا ننتزع جثث رفاقنا المطمورة في الجليد عثرنا على الأحياء داخل الخنادق المنهارة. اخرجنا أسلحة ومدافئ حديدية وخوذا وحقائب .. نحن حجابات الثلج كنا نتزاحم في الصباحات مندفعين ورفوشنا تتسابق بحماسة لنوقف هول الثلج الزاحف خشية أن يغرقنا ويبتلع خنادقنا. كان قد امتزج الضباب بالثلج المنهمر وما كان لأحد أن يرى لأبعد من خطوتين. نعوم في موج ابيض كثيف يحجب رؤيتنا فنضل الطريق حيثما اتجهنا .. نلسع أقدامنا المنتفخة بنار المدافئ لنحتمي من برد يخترقنا حتى العظام. نلف رؤوسنا نرتدي اثوابنا بعضها فوق بعض فتلتبس اشكالنا ولم نعد نميز بعضنا بعضا قبل أن يلفنا ليل أشد عنفا من ليلنا العصيب الذي يطبق علينا بالبرد الفاتك والمجهول وتؤذن كل لحظة فيه بخطر مبهم وشيك الوقوع وسط الحلكة المدلهمة نتفرق ضاربين في جهات شتى لا دليل فيها. هائمين في السهوب والمرتفعات. نلوذ أو نقترب من بعضنا البعض لئلا نضيع في متاهات الصقيع المظلمة. ليلنا يمطر ظلاما كثيفا يشل قدرتنا ويعشي أبصارنا ويملؤنا بالتوجس ونحن نحدق بعيون مدماة أحرقها الترقب مترصدين حركة الاطياف التائهة وغلالات الضباب والتسلل. ننصب افخاخاً وكمائن في آماد متجمدة لنقطع طرق تدفق اسراب الاشباح المكفنة بالبياض التي تخرج مع اكتظاظ الظلام تتستر به وتنطلق احفة صوب خنادقنا ولطالما انخدعنا فنمضي نطارد سحابة من الثلج تضربها الريح. نلاحق زوابع وكتل القطن العائمة وهي تخطف من حولنا فنحاصرها ونحرقها بنار البنادق. وفي غير مرة كنا نشاهد ذاهلين اشباحاً حقيقية تتطاير إلى أعلى وتتفجر مثل نافورات مشعة عند اجتيازها حقول الألغام والكمائن تحت الاسلاك الشائكة في المرتفعات ويتدحرج الناجون كتلا بيضاء سابحة في زوابع الثلج. ظلال مبهمة سائرة في الهواء تبغي التسلل واقتحام الخنادق. لكنما يعترضهم ويبرز لهم الأخوة الذين انتظروهم واختبأوا لهم فينشب قتال ضار يشتد خبط الأسلحة ويشتعل بريق الحراب تلتحم في انقضاض مريع فتهدر فوضى وهول لا حد له يزلزل الليل بعاصفة رصاص كثيف يعقبها ركض واستغاثات ويتعالى صراخ وعويل متشنج ثم يكشف النهار ما خلفته معارك الليل بالاشلاء المبعثرة والثلج المدمى .. وما عليك سوى أن تضرب معولك في الثلج حتى يتدفق الدم! أثر معارك الشتاء الطويل.
الدم الذي استدرج فضول زائرين اشد فتكا. الذئاب التي تركت اوجارها وكانت تظهر امامنا بغتة وعيونها تبرق في العتمة. تنتظر الانقضاض وكنا نبعدها باطلاق الرصاص. عقب انتصاف الليل حسم الأمر لف رأسه بعناية التف بمعطفه ارتدى فوقه كيس الخيش الأبيض وشرع يخوض الجليد دافعا خطاه بتصميم وعزم. ربما تسعفه قدماه وينجح في ادراكه رغم أنه يشك في ذلك وهو يحملق في حلكة الظلام انما وجد أن مهمته ان يمضي يتلمس الطرق مقتفياً أثره. كان ذلك أمله قال لنفسه عم يعقوب يا أبي سأعبر اليك واكون معك. والعم خرج. كان ذلك قبل ساعة لمطاردة ثلة اشباح اخبر انها ارتقت الجبل وقتها استشاط غضبه قال هاتوا كفني وتلثم ثم اخفى جسده بعجالة في كيس ابيض وجرى مسرعا. وللتو أدركنا عمق الهوة التي لحقت بنا إذ ترك غيابه فراغاً هاجنا واربكنا جميعا متوجسين بيقين غامض، عدم عودته شأن من ذهبوا قبله! وكاد ينفرط عقد حضيرتنا والأخوة يغيبون واحدا تلو الآخر في مجاهل الجليد .. كانت أقدامه تتعثر في لجة الظلام لا يعلم اين تتجه به. فكر انها نهاية مطافه مدركا انه سيقضي من البرد أو تطوح به زوابع هوجاء في شعاب مظلمة وربما يغرق في جزر الثلج أو يغيب في متاهات ومسالك مجهولة كالذين ضاعوا وطواهم ليل مبهم بعيد وانطوت أثارهم..
كان الخطر يرافقه واللحظات تضرب بوق النذير. قال لتكن النهاية أنه لم يعد يخشى شيئا هو الوحيد الذي تسنى له البقاء على قيد الحياة مع العم عقب سلسلة معارك وسط الثلج فوق مرتفعات خطوط الحجاب.
لذا حتم على نفسه أن يلحق به ويبحث عنه. رأى في خياله صورة العم استحضر وجوه رفاقه الذين غابوا الواحد بعد الآخر. حدث نفسه أمس قبل هبوط الظلام.. جلسنا في مخبئنا الصغير وكنا سنخرج بعد حين إلى وهاد الجليد مثل كل ليلة بدا العم غريبا وجهه يفيض بالذهول وينطق بالحزن. قلت –ما الذي حدث عم يعقوب؟. نظر مليا وشد يدي برفق ثم تهدج صوته –اريد أن تمهلك الحرب يا بني. تشبث بحياتك. لتحيا هناك فيما وراء الثلج. صحيح أن الموت يلتف على اعناقنا لكن الحياة تدافع. الحياة ستستمر ونحن أقوياء ما دمنا نعتصم بها.
- ربما يكون هذا بعد الحرب. ومضت عيناه الصغيرتان بعاطفة ملتاعة حين قال (يا أسفي) على ولدي الصغير الذي غيبته الحرب عني. لم ينقطع أملي من عودته. كان يشبهك كأنه انت. رأيته يخرج من جيبه صورة وضعها أمامي وادهشني انها تشبهني حقا. ثم تحشرج صوته وتغيرت سحنته –يا يوسف أريد رؤيته!. –هذا عذاب كبير يا عم.
كنت اخشى تماديه، ولم يعد باستطاعتي النظر في عينيه، وكنت أغالب نفسي لئلا يكتظ صدري بالعبرات ويتفتت تماسكي. تملى الصورة لحظات ودسها تحت معطفه ثم طبعت وجهه موجة وجد جارف.
- يا يوسف (أني ليحزنني) فراقه وأخاف فراقك عني. كنت ارتعد .. تمنيت أن أطلق سراح مشاعري وابوح بحزني. خجلت قلت :
- - أيها العم أنا معك حيثما حللت (فلا تبتئس). ثم ذاب صوتي وتلعثمت خنقتني خواطر هاجت روحي وانهكت توازني. اردف :
- أنما الحرب تفوق طاقة فتى يافع مثلك ومثله. بقدر ضئيل من الأعوام حملته من أقصى الجنوب إلى الجبل.
- لقد أنتهى الصبي يا أبي. الحرب حسمت كل شيء نفخت فينا روحا أخرى ملأنا دخانها ووضعنا على اعتاب رجولة طاعنة. خفض رأسه ونطق بصوت كالهمس : -في ليلة باردة. لما أذنت ساعة النحس في الشتاء الماضي خرج ولدي الذي يشبهك وذاب في ضباب الليل. فتشت الجبال والأدوية. غصت في الثلج دونما جدوى. أضاف : -يا يوسف حذار من هذه الساعة لئلا يطويك الظلام فيأكلك الذئب أو تخفك أشباح الموت. اعترت صوته رجفه ثم هتف بغتة: الأشباح ياللعنة أنني أعرفهم استطيع أن أميزهم في فحمة الليل. أنهم يأتون في هذه الساعة اني أخاف أن ينالك عبث الحرب وتسلبك مني مثل أخيك! ولما صمت برهة قال : - لا تسألني عن الذين ضربوا في البراري الموحشة فاستدرجتهم الأرض الهشة وتبددوا كالدخان. لم أحر جوابا. وما كنت أملك غير أن احتمي بصمتي الموجع واستدعي رصانة زائفة وانما المس جرحه العميق. وألمه الأبوي أثارني حقا وكنت قد سمعته من قبل يدعوان نحتاط لهذه الساعة، نتأهب لملاقاة الاشباح. يقول لنا مشيرا بيده. انتم أخوة حذار أن يجركم سراب الجليد ويضلكم الليل. تريثوا أياماً قليلة وستعقب هذا الثلج الكبير شمس دافئة، يتشقق الجليد. تنبع سيول ونهيرات دافئة وتنبعث من أعماق الثلج جثث الموتى تهبط من قمم الجبال والمنحدرات وتنطلق مياه مدماة. ترمي التيارات لجريانها العنيف فوق الصخور حطام أشلاء واسلحة. بدلات حائلة وخوذا وشجيرات ميتة وأشياء أخرى وتنفتح الطرق. فتنسحب الذائب إل تخوم الجبل ثم تغسل المياه كل شيء وتنفر الحياة مجدداً..
كان يترنح وسط الظلام وبندقيته وترتطم بجسده. يلحفه الثلج المتساقط بغزارة لا يعمل أي جهه سيسلك بغية التأكد من الاتجاه الذي يفضي إلى الجبل الأحمر حيث يترصد العم هناك منتظرا أو أن الثالثة لمرور الاشباح ويمكنه الاقتراب من خطوط الحجاب إذ تبرز الاسلاك الشائكة كجبال بيضاء غليظة فوق اخدود كبير خلف هذا الجبل الحدودي المدمى أثر نشوب اعنف المعارك طوال الشتاء. أنما كانت تقلقه فكرة أن يكون قد ضل الطريق في العتمة إلى الجبل. لكنه بعد وقت قصير ادرك أنه سيهتدي اليه لما تعترض سبيله الجثث المنكفئة فوق الصخور والممرات ويتناهى اليه أنين الاحياء والموتى وأصوات ضواري الليل التي تأكل الجثث وتعبث بالإشلاء قال ذلك لنفسه وتوقف بمكانه متطلعا إلى ساعة يده رأى أن نذير الثالثة لم يحن بعد ...
كان الليل موحشا يمطر بالثلج والمجهول والخطر الذي بات يزحف حثيثاً مع اقتراب الساعة المنذرة. ثمة حركة اجفلته بغتة ولطمته موجة من الخوف لما اصطدمت قدمه بجثث مطروحة لم يتبينها في الظلام لكنه تحسسها وللتو أنبأه ذلك أنه قد بلغ الجبل حقا. لكنما ارتعدت فرائصه مجددا حينما شعر أن ثمة من يعوقه ويجرجره من الخلفَ ثمة أصوات لا يمكن لأذنيه انكارها لأخوة رفاق كانوا قد رحلوا جميعا أو فقدوا، شرعت تهتف له وتكرر النداء اليه. أصوات انبثقت من عمق الثلج شرعت تسد عليه السبل.
أحسَ بأذرع تبرز من الأرض المتمجدة وتمتد نحوه! تتعلق ببنطاله متشبثه به جاذبه إياه من الخلف معيقة سيرة. فيما أصوات المدفونين الذين ما برحوا يتشبثون بالحياة وقد أعياهم الانتظار. غدت تلاحقه متوسلة مستغيثة.
أخرجنا يا يسوف، أخرجنا يا يوسف. اغثنا بالله عليك يا أخانا، ما لبثت أن امتزجت بصوت جماعي راح يتصاعد في نوبات عالية مختلطا بحشرجة محتضرين وانين موجوعين تعول وتنوح خلفه، شله الفزع أوشك أن يتهاوى ويسقط لفرط هلعه وخوفه لكنه في غمرة ذلك واتته جرأة غامضة إذ آلمه مصيرهم وقف حائرا مشتتاً عما سيفعله لانقاذهم من بئر الثلج. فيما اشرأبت الأذرع متدافعة للتشبث به و أمساكه وسط ضجة أصواتهم وتعثرت أقدامه المرتبكة بخوذهم المتناثرة على الجليد. فخلع بعجالة كيسه الأبيض عن جسده وشرع يلتقط ما عثر عليه وسط الظلمة وأودعه فيه. ثم رمى الكيس الممتلئ بخوذ الأخوة على ظهره واندفع بخطوات حثيثة وارتعب أكثر إذ تخيلهم سيشقون الأرض يلحقون به ليمسكوه ويرموه في الجب.
تخيل وقع أقدام تجري خلفه، إلا أن ثمة قوة غامضة دفعته وألقت به بعيداً خارج مدفن الثلج متفاديا فخ الأذرع المحومة نحوه مضى يجري مسرعا كيما يتوارى عنهم. كان يندفع مأخوذا خائفا يقع ويتدحرج على المنحدرات تحت وابل الثلج المنهمر في الظلام وكيسه وبندقيته معه. ارتقى صخورا. قطع مسافات رافعا صوته مستغيثا ليدفع مما ألم به من فزع وخوف.
عم يعقوب، يا أبي، الأخوة جاءوا ورائي ليمسكوا بي ويلقوني في غيابة الجب! وإذ تنحى عنهم توقف وقد تلاشت قواه لفرط المسير والهلع. فتهالك فوق أحد جذوع الشجر استلقى على ظهره وهو يلهث وغاب مدة، ولما فتح عينيه كان الثلج قد توقف. لكنما بهر بصره فجأة قمر شاحب كان ينسل ببطء من بطن غيمة. وانتصب واقفا غير مصدق وهو يرمق وجه القمر الطالع من جناح الليل المحيط. ينشر نوراً ناعماً. فالتمع ثلج أزرق. بزغت نجوم بعيدة وبانت قمم الجبال وغابة الصنوبر العارية واشجار الجوز والبلوط العملاقة.
قال أي صباح مشمس سيكون غدا. سيختفي البرد. ويتبدد الثلج الكبير كما قال العم. الآن انبسطت أمامه الطرق. فانقشاع الضباب والثلج الأمل في الوصول لى العم. فيما كان العم قد اتخذ مكمنه بإحدى مغاور الجبل الأحمر المطلة على خطوط الحجاب والوديان مترصدا مسالك العبور. يحرس الجبل. لقد ارتقاه مرات خبر ممراته الوعرة الضيقة التي تجيء منها الاشباع. كان الجو صافيا بعد انحسار الضباب وتوقف الثلج. الآن يستطيع أن يميز من مكانه دونما عناء كتل الثلج عن الاشكال البيضاء المتحركة.
أدرك أن الثالثة قد أذنت. يلزمه أن يكون على أهبة الاستعداد. قرر أن يثأر والفرصة سائحة بعد انحسار الضباب. فيما كان يوسف كرة صغيرة يجوس الجليد الرخو هائما يدور حول تخوم الجبل متلفتا بكل اتجاه وجسده يرتعد من البرد تحت ملابس ثقيلة نافعة بالثلج وقد انهكته خوذ الأخوة المحمولة على ظهره وبندقيته ولم يعد يقوى على المسير. تاق أن يجلس أو يلوذ في مكان أمين. ولما اعترضته حفرة لملجأ مهجور نزع كيسه وسلاحه. تهالك فيها تاركا لجسده أن يستريح ويلبث إلى حين. وفي الوقت نفسه استطاع العم من الأعالي أن يلمح وجود الكرة المترنحة فأرتشعت يده الممسكة بالرشاش ودق قلبه. قال ها قد جاؤوا في الساعة ذاتها سيمرون جميعهم إذا. وأسند بندقيته إلى كتفه مصوبا. أيقن أنه من مكمنه في مدى يتيح قتله برغم اختفائه في الحفرة. إلا أنه تمهل وجعل يفكر مؤقتا أنه بأطلاقه النار سيكشف عن نفسه ويفسد عندئذ كل شيء. لذا يقتضيه التقدم بحذر باتجاه الشبح والتربص من مكان قريب. فانحدر من مكانه بتمهل باتجاه أسفل الجبل وإذ أمضى وقتا طويلا في هبوطه الحذر وبندقيته امامه في وضع التأهب إلى جانبه قائلا لنفسه اهذا هو العدو؟! ولبث طويلا إذ عاد ينعم النظر فيه بتقصد حتى بدأ يساوره مما لم يألف من القلق والشك وارتاع وهو يقول (أني لأجد ريح يوسف)، إلا أن الشبح ما لبث أن رفع رأسه ببطء فوثب العم بخفة وخطا مسرعا وتهالك منزويا في مكمن قريب. لكن يوسف ما لبث أن وضع حمله فوق ظهره وغادر حفرته بخطوات وئيدة. انصت لحظات كان الهدوء طاغياً لا يعكره إلا عواء ذئاب بعيدة. تأمل الصمت مدة ثم هتف بغتة.
- أنا بالانتظار يا أبي. حان أوان الساعة. سيمرون الآن أيها الأب. هلم نمضي لملاقاة اشباح الموت.

كاظم حسوني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...