سعد محمود شبيب - الضاحك الباكي.. (وآآه يا زمن.. آآه يا نكد)

في مطلع عام 1977 ، اكتسح مسلسل تلفازي يحمل عنوان (وآه يازمن) الشاشة المحلية والعربية ، وأصبح أشهر عمل سبعيني، وواحدا مِن أهم المسلسلات التي اصطفّتْ إلى جانب الأعمال العظيمة : (الساقية، وقال البحرُ، الشهد والدموع، ابو العلا البشري، أحلام الفتى الطاير) وسواها مِن أعمال تركتْ بصمةً لن تنسى في تأريخ الدراما العربية .
قُيّض لمسلسل (وآه يا زمن) كاتبٌ متمرّس مثل (كرم النجار) ، ومخرجٌ قدير وكادر تمثيلي بارع ، منهم (أمينة رزق وعزت العلايلي وابراهيم الشامي وحسن عابدين وأشرف عبد الغفور)، وقد كانت أحداثه اجتماعية عائلية ذات إيقاع سريع مشوق وصبغةٍ فلّاحية خالصة ، ممّا زاده أصالةً وتشويقاً وقربا إلى قلوب المتابعين .
غير أنّ عيبَ المسلسل الكبير ، هي كمّية النكد والأحزان التي غمرتْ أحداثه ، والمسحة المليودرامية القاتمة التي اصطبغتْ بها ساحتُه ، فباستثناء الابادة بالقنابل النووية والهيدروجينية ، لم يتركِ المؤلّف كارثةً أو زوبعةً إلاّ وشهدها أبطالُه وغطت أحداث حلقاته ، حتى أصبح مثالا للمسلسلات البكائية التي تفوق مآسي هيروشيما وناكازاكي، وبغداد أيام الأمطار الغزيرة .
تدور قصّة المسلسل حول دار العمدة (أحمد الجبالي) وولديه الشابين عمر (عزت العلايلي) وشقيقه عامر ( أشرف عبد الغفور) ، حيث كان الكبير (عمر) مثالا للتضحية والكرم والشهامة والخير المطلق والايمان بالغد المشرق والعبور الناجز ، في الوقت الذي كان فيه (عامر) ينبوعا مِن ينابيع الفشل والأنانية والإسراف والحماقة وافتعال المعضلات التي لا أوّل لها ولا آخر ، وهو ما عانت منه الأم التي تمكنت وبكلّ جدارة من ان تصبح أعظم نائحة في السينما العربية ، وتنافس باقي نائحات المجموعة الشمسية .
تبتدي سلسلة تضحيات (عمر) حين يكتشف أنّ أخاه يحب خطيبته (نورا)، فيقرر التنازل له عنها وكأنّها قطعة أرض سكنية ، وبعد إتمام خطوبة أخيه على حبيبته السابقة ، تستمر تضحياتُه وتعريض نفسه للخطر ولأكثر مِن مرّة مِن أجل أخيه ، لا سيما عند قيام عدو العائلة المجرم (شلبي ) باختطاف (نورا) والزجّ بها في مكان ناء موحش ، يحيط بها ثمانية مِن رجال الليل الأشداء ، واستقدام خطيبها (عامر) وحجزه معها كذلك ، غير أنّ (عمر) سرعان ما يصل إلى مكان الاختطاف ويتمكن وبكل عزيمة وبمساعدة المخرج وكادر التصوير مِن سحب (سلاح شلبي)، واطلاق صرخة تشبه صرخات المرحوم طرزان ، ليهرب جميع الخاطفين المدجّجين بالسلاح والعتاد ، دون أنْ يطلق أيّ منهم رصاصة ولو على سبيل المجاملة ، بل أنّ المغوار (عمر) ألقى بحجرٍ على (علباة) زعيم العصابة (شلبي) وهو يعدو خلفه صارخا :
(ملعون الوالدين، بعد إذا تكررهه وتخطف أخي وخطيبته ، إلاّ أدزّك للعراق بشهر تموز) !
ثمّ يتزوج (عامر) مِن (نورا) ، لتبتدئ كوارثُ المسلسل التي اصطفّت بطابور طويل ، فهما وما إنْ يرزقان بطفل حتى تداهم الأمراضُ زوجه المصون ، لتصاب بالتهاب الأظافر وسرطان الحاجبين واضمحلال الأذن اليسرى وتضخم الجانب الأيمن مِن (الخشم) ، ثم تظهر عليها أعراضُ الكآبة الحادة والاقتراب مِن حافة الجنون ، فتهرب بولدها الرضيع إلى طاحونة مهجورة على أطرافِ القرية لتبيت فيها ، حتى يتم العثور عليها صبيحة اليوم التالي وإعادتها إلى دار زوجها وهي مصابة بنزلة برد ، نزلة علاجها المعتاد شريط مِن دواء مضاد بسيط ، إلّا أن السيدة (نورا) تفاجئ الجميع بالموت ، ومع رحيلها يكتشف العمدة أنّ زوجها ، ولده المدلل (عامر) قد قام بتحرير صكوك دون رصيد ، فيصاب بصدمةً نفسيّة ، سرعان ما مات هو الآخر على أثرها ..
وحين عجز (عامر) عن تدبير مبلغ الصكوك ، مات منتحرا بدوره ، ملقيا بنفسه مِن أعلى بناية إلى الشارع !!
ثمّ لا تقف الكوارثُ عند هذا الحدّ، فقد تمّ توزيع محن السجن والحرائق والافلاس على جميع ابطال المسلسل ، وتسليم أوراق من لم يشملهم النكد إلى فضيلةِ مفتي الجمهورية ، لتفضله بالاطلاع، والموافقة على تنفيذ الأحكام !!
أمّا الأم التي فُجعت بولدها عامر وزوجها العمدة وزوجة ابنها ، فهي وبينما كانت تعتني بحفيدها يتيم الأبوين ، صرخت تلك الصرخة الخالدة التي لا يخلو منها أيّ عمل درامي مصري :
مين طفّى النور؟؟
وحين يجيبها ابنها الكبير (عمر) ، الناجي الوحيد مِن سلسلة الموت بقوله ((وهو فين النور أصلا ؟ مِن ( ١٧ سنة) لا في نور ولا كهرباء وكلهم لصوص وسرّاق وأسفل ما خلق رب العباد ) فتصرخ أمّه : (بقوللك مين طفّى النور ؟ أصلي أنا مش شايفه حاجة )) ، فيكتشف حينها أنّ أمّه قد فقدت البصر ولم تنفع جميع محاولات الأطباء لعلاجها ، ثم ومع مرور السنين العجاف ، يفجّر المؤلف مفاجأة سارّة، ألا وهي كون الأخ الفاسد (عامر) لم يزل حيّا يرزق، دون أن يبيّن لنا كيفية نجاته بعد انتحاره وعثور الشرطة على جثته ، كما وأنه قد أصبح ملحّنا شهيرا وكبيرا ينافس بيتهوفن ويتمّم أعمال جايكوفسكي ، لكنّ الفرحة لم تتم كذلك ، إذ أنّ (عامر) وما أن يحضر إلى دار والده العمدة كي يتسلّم ولده بعد طول غياب ، حتى يمسك أخوه الأكبر (عمر) برقبته ويتّهمه بأنّه كان السبب في جميع كوارث العائلة ، لتكتمل سعادة المشاهد أخيرا بانتحار (عامر) بالرصاص وبشكل حقيقي هذه المرة ، وسط نحيب الأم (أمينة رزق)، ذلك النحيب الذي بقي حيا يقظا لم يمت ولن يموت ، بعد رحيل جميع أبطال المسلسل وبفواجع منوعة ذات ألوان زاهية بهيجة خلابة !
وللحقّ، فلا أعلم لماذا وجدت تطابقا بين أحداث المسلسل وتأريخ العراق، وبين كوارث حلقات ( وآه يا زمن ) مع قصص ضحايا الوطن ، وكيف أنّ العراقي وكلما حاول أنْ يتنفس الصعداء اختنق بعاصفة رملية قاتمة، وكلّما ظن نفسه قريبا مِن النسيم ، تحمله سحبُ الدخان والحرائق إلى شواطئ تنتحر عليها الآمالُ والافراح.


سعد محمود شبيب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...