"اشتعلت النيران فى كومتين من التبن وخلعت أشجار المشمش والكرز من جذورها..أما الأسوأ فقد اضرمت النار فى خلايا النحل...اختلطت صرخات النساء بصيحات الأطفال الذين هرعوا فى ذيول أمهاتهم..اندفعن إلى الخارج مع قطعان من الأغنام الجائعة...ألقى بالقذورات فى النبع الأوحد للماء وبالمسجد حتى لا يصلحان للاستخدام الآدمى...لم يتحدث أحد عن كراهية الروس، فمشاعر الشيشان التى أضمروها ضدهم كان شيئا أكبر من التقزز...تقزز اختلط بكراهية اخفت وراءها رغبة أشبه بتلك التى تعترى الإنسان لقتل الفئران والعناكب و الذباب..لم تكن تلك الرغبة نابعة إلا بغريزة الدفاع عن النفس..."
قد يتبادر سريعا إلى الذهن أن هذا النص جزء من تقرير إخبارى جاء وقت غارات الروس على إقليم الشيشان فى التسعينيات من القرن الماضى.. ولكن الحقيقة أن تلك الفقرات التى تنبض بالحياة كانت قد كتبت قبل مائة و خمسين عاما، غير أنها تبدو كتقرير نشر بالأمس عن الحرب فى الشيشان بمنطقة القوقاز.
من العجيب أن كاتب النص مواطن روسى ولكنه ليس روسيا عاديا خرج ليتعاطف مع الحق الشيشانى، فهو الروائى الروسى العالمى (ليو تولستوى)، والنص الذى بدأتُ به المقال لم يكن إلا كلمات من واحدة من أواخر رواياته ( الحاج مراد) التى تسلط الضوء على جزء من الصدام التاريخى الذى امتد لعدة قرون بين الروس والشيشان. وقد صدرت الطبعة الثانية من ( الحاج مراد) عن دار الهلال إبان الحرب الأخيرة بين الطرفين وقام بترجمتها مجيد الدين حنفى نصيف. وللاسف لم تنل الرواية نصيبا كافيا من الشهرة مقارنة بروايات تولستوى الأخرى.
كمثل أخر رواياته، فلقد تردد كثيرا فى أن يقدمها إلى ناشر بسبب الخلاف المتكرر بينه وبين زوجته التى كانت تصر على أن يجنى الأموال من وراء حقوق النشر. لكن تولتسوى ــ رسول السلام و الحب و المساواة ــ عارض هذا المبدأ من منطلق إيمانه بأن هدف الإبداع يتمثل فى نشر تلك المبادىء السامية، فلقد كون تولتسوى رؤيته تلك بعد عدة تجارب ضميرية كانت واحدة منها لقاؤة مع الحاج مراد فى "تلفون" عام 1851.
فى هذا العام ذهب تولتسوى إلى إقليم القوقاز ليجتاز اختبارا عسكريا، وبزياراته المتكررة للقوقاز خبر الكثير عن أسلوب حياة الشيشان وعقائدهم وطرق تفكيرهم، فكانت رواية ( الحاج مراد) نتاجا طبيعيا لسنوات قضاها فى تلك المنطقة الوعرة.
لقد خاض القياصرة الذين تعاقبوا على حكم روسيا العديد من الحروب خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لاحتلال العديد من البلدان المجاورة كخطوة هامة فى بناء إمبراطورية ممتدة..جهود توجت بتأسيس الإتحاد السوفيتى. أما الحكام السوفيت فلقد اتبعوا نفس سياسات القياصرة فى إخضاع الجماعات الإثنية فى جبال القوقاز البدائية.
لقد ظلت الفتنة نائمة قرابة القرن بعد أن أخضعت روسيا ولايات القوقاز عام 1864، لكن تحت تعاملت موسكو مع أهل الإقليم من ذوى البشرة الداكنة بكثير من التعالى و الاحتقار إبان الحكم السوفيتى وذلك جزاء الحروب الشرسة التى خاضوها ضد السوفيت، فلم يكن هناك أية خطط تنموية للقوقاز أسوة بالأقاليم الأخرى فى الإمبراطورية الشاسعة.
لقد أجبرت تلك الظروف القاسية التى خضع لها الشيشان من الفقر والعوز تحت قبضة يد الحكم السوفيتى الحديدية ــ أجبرتهم للجوء إلى الجريمة والإرهاب.
أما بعد سقوط الإتحاد السيوفيتى عام 1991 حصلت ثلاث ولايات قوقازية على استقلالها بما فيها (جورجيا) و( أزربيجان)، وكان من الطبيعى أن تطالب الشيشان باستقلالها لكنها فؤجئت بأنها أصبحت جزءا من الإتحاد الفيدرالى الروسى تحت رياسة بورس يلتسن..ما حد بالإقليم إلى محاولة الإنفصال التى أخمدها الجيش الروسى، قاومت روسيا رغبتهم فى الاستقلال فأصبحت المطالبة به حقا مطلقا عقب انتهاء الحرب.
لقد تنبأت رواية ( الحاج مراد) أن الفظائع الروسية فى أقليم الشيشان سوف تتكرر، ولكن ببيئتهم المحوطة بالجبال وأجسادهم الضخمة ومهاراتهم العسكرية الفائقة كانوا فريسة صعبة للجيش الروسى. كان الحاج مراد بطلا قوى المراس، ذا مقدرة حربية عالية تسببت فى إلحاق خسائر فادحة بالقوات الروسية إبان حكم القيصر نيقولا الأول، أكثر القياصرة بطشا وطغيانا. قد نجد فى الحاج مراد سمات من شخصية المناضل الليبى عمر المختار أوالبطل عبد القادرالجزائرى، فارس مغوار،على قدر كبير من الشجاعة والإيمان والتمسك بالقيم الأسرية والولاء للوطن.
لكن على النقيض من كلا الرجلين، كان مراد متهورا وجاء تهوره على حساب الحكمة السياسية وبعد النظرالذين تتطلبهما الحرب.
فى الفصول الأولى للرواية نجد الحاج مراد يستسلم للقوات الروسية بمحض إرادته بعدما وقع خلاف بينه وبين ( شامل)، واحد من أهم قواده الدينين. لقد وعد مراد الروس بدعمهم ضد المنشتقين الشيشان فى مقابل الحماية.. وبهذا التهور ترك أسرته لتقع فى أسرأتباع (شامل) ،وفى النهاية أصبح فى حيرة بين وفائه بوعده للروس وحزنه الشديد على زوجاته وأبنائه الذين أصبحوا رهينة لقسوة (شامل) وجبروته. وبينما هو يهم بالهروب لإنقاذهم ذبحه الروس لاعتقادهم أنها محاولة للخيانة.
لقد لفت تولستوى الأنظار مرارا إلى الفارق الشاسع بين طبيعة الشيشان الخشنة البدائية وتحضر الدولة الروسية وتقدمها ولكنها مقارنة تتسع أيضا لإبراز المعدن الأصيل لسكان القوقاز وتلقائيتهم فى مقابل الحذق والتصنع الروسيين، فطالما أصر الروس على ضم أقليم الشيشان إلى روسيا ولكن زاد هذا الإصرارعند ظهور حركة (المريدين) الصوفية فى القوقازالتى كان من شأنها أن تمنح الجهاد ضد الروس بعدا دينيا.
ففى النصف الأول من القرن التاسع عشر كان على روسيا أن تواجه عدة تحديات غير تمرد الشيشان، فلقد خاضت حرب القرم ضد الأتراك وعلى الحدود البروسية ( ألمانيا) راحت تعبر عن قلقها من تسرب الأفكار التحررية بعدما حصلت بروسيا على دستورها الجديد، هذا علاوة على جرائم الاختلاس التى شاعت بين صفوف الإداريين فى الجيش.
مع تعاقب الحروب انطفأت حماسة الشباب للانضمام إلى صفوف الجيش...التفاوت الطبقى والإثنى والدينى عمق الفجوة بين الطبقات الكادحة والطبقة الأرستقراطية. أما على حدود الشيشان فلم تكن حركة (المريدين) بأحسن حال،فلقد أثارت النزاعات و الكراهية بدلا من أن توطد الوحدة والسلام. على الجبهتين كان هناك صدام من أجل الحصول على السلطة ، فلم يكن هناك مفر من أن تؤدى تلك الصدامات السياسية إلى سقوط الشيشان وإندلاع الثورة البلشفية عام 1917. لكن تبقى المأساة الكبرى فى أن يظل البسطاء هم الضحية دائما
أحمد كفافي
رمضان 2020
قد يتبادر سريعا إلى الذهن أن هذا النص جزء من تقرير إخبارى جاء وقت غارات الروس على إقليم الشيشان فى التسعينيات من القرن الماضى.. ولكن الحقيقة أن تلك الفقرات التى تنبض بالحياة كانت قد كتبت قبل مائة و خمسين عاما، غير أنها تبدو كتقرير نشر بالأمس عن الحرب فى الشيشان بمنطقة القوقاز.
من العجيب أن كاتب النص مواطن روسى ولكنه ليس روسيا عاديا خرج ليتعاطف مع الحق الشيشانى، فهو الروائى الروسى العالمى (ليو تولستوى)، والنص الذى بدأتُ به المقال لم يكن إلا كلمات من واحدة من أواخر رواياته ( الحاج مراد) التى تسلط الضوء على جزء من الصدام التاريخى الذى امتد لعدة قرون بين الروس والشيشان. وقد صدرت الطبعة الثانية من ( الحاج مراد) عن دار الهلال إبان الحرب الأخيرة بين الطرفين وقام بترجمتها مجيد الدين حنفى نصيف. وللاسف لم تنل الرواية نصيبا كافيا من الشهرة مقارنة بروايات تولستوى الأخرى.
كمثل أخر رواياته، فلقد تردد كثيرا فى أن يقدمها إلى ناشر بسبب الخلاف المتكرر بينه وبين زوجته التى كانت تصر على أن يجنى الأموال من وراء حقوق النشر. لكن تولتسوى ــ رسول السلام و الحب و المساواة ــ عارض هذا المبدأ من منطلق إيمانه بأن هدف الإبداع يتمثل فى نشر تلك المبادىء السامية، فلقد كون تولتسوى رؤيته تلك بعد عدة تجارب ضميرية كانت واحدة منها لقاؤة مع الحاج مراد فى "تلفون" عام 1851.
فى هذا العام ذهب تولتسوى إلى إقليم القوقاز ليجتاز اختبارا عسكريا، وبزياراته المتكررة للقوقاز خبر الكثير عن أسلوب حياة الشيشان وعقائدهم وطرق تفكيرهم، فكانت رواية ( الحاج مراد) نتاجا طبيعيا لسنوات قضاها فى تلك المنطقة الوعرة.
لقد خاض القياصرة الذين تعاقبوا على حكم روسيا العديد من الحروب خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لاحتلال العديد من البلدان المجاورة كخطوة هامة فى بناء إمبراطورية ممتدة..جهود توجت بتأسيس الإتحاد السوفيتى. أما الحكام السوفيت فلقد اتبعوا نفس سياسات القياصرة فى إخضاع الجماعات الإثنية فى جبال القوقاز البدائية.
لقد ظلت الفتنة نائمة قرابة القرن بعد أن أخضعت روسيا ولايات القوقاز عام 1864، لكن تحت تعاملت موسكو مع أهل الإقليم من ذوى البشرة الداكنة بكثير من التعالى و الاحتقار إبان الحكم السوفيتى وذلك جزاء الحروب الشرسة التى خاضوها ضد السوفيت، فلم يكن هناك أية خطط تنموية للقوقاز أسوة بالأقاليم الأخرى فى الإمبراطورية الشاسعة.
لقد أجبرت تلك الظروف القاسية التى خضع لها الشيشان من الفقر والعوز تحت قبضة يد الحكم السوفيتى الحديدية ــ أجبرتهم للجوء إلى الجريمة والإرهاب.
أما بعد سقوط الإتحاد السيوفيتى عام 1991 حصلت ثلاث ولايات قوقازية على استقلالها بما فيها (جورجيا) و( أزربيجان)، وكان من الطبيعى أن تطالب الشيشان باستقلالها لكنها فؤجئت بأنها أصبحت جزءا من الإتحاد الفيدرالى الروسى تحت رياسة بورس يلتسن..ما حد بالإقليم إلى محاولة الإنفصال التى أخمدها الجيش الروسى، قاومت روسيا رغبتهم فى الاستقلال فأصبحت المطالبة به حقا مطلقا عقب انتهاء الحرب.
لقد تنبأت رواية ( الحاج مراد) أن الفظائع الروسية فى أقليم الشيشان سوف تتكرر، ولكن ببيئتهم المحوطة بالجبال وأجسادهم الضخمة ومهاراتهم العسكرية الفائقة كانوا فريسة صعبة للجيش الروسى. كان الحاج مراد بطلا قوى المراس، ذا مقدرة حربية عالية تسببت فى إلحاق خسائر فادحة بالقوات الروسية إبان حكم القيصر نيقولا الأول، أكثر القياصرة بطشا وطغيانا. قد نجد فى الحاج مراد سمات من شخصية المناضل الليبى عمر المختار أوالبطل عبد القادرالجزائرى، فارس مغوار،على قدر كبير من الشجاعة والإيمان والتمسك بالقيم الأسرية والولاء للوطن.
لكن على النقيض من كلا الرجلين، كان مراد متهورا وجاء تهوره على حساب الحكمة السياسية وبعد النظرالذين تتطلبهما الحرب.
فى الفصول الأولى للرواية نجد الحاج مراد يستسلم للقوات الروسية بمحض إرادته بعدما وقع خلاف بينه وبين ( شامل)، واحد من أهم قواده الدينين. لقد وعد مراد الروس بدعمهم ضد المنشتقين الشيشان فى مقابل الحماية.. وبهذا التهور ترك أسرته لتقع فى أسرأتباع (شامل) ،وفى النهاية أصبح فى حيرة بين وفائه بوعده للروس وحزنه الشديد على زوجاته وأبنائه الذين أصبحوا رهينة لقسوة (شامل) وجبروته. وبينما هو يهم بالهروب لإنقاذهم ذبحه الروس لاعتقادهم أنها محاولة للخيانة.
لقد لفت تولستوى الأنظار مرارا إلى الفارق الشاسع بين طبيعة الشيشان الخشنة البدائية وتحضر الدولة الروسية وتقدمها ولكنها مقارنة تتسع أيضا لإبراز المعدن الأصيل لسكان القوقاز وتلقائيتهم فى مقابل الحذق والتصنع الروسيين، فطالما أصر الروس على ضم أقليم الشيشان إلى روسيا ولكن زاد هذا الإصرارعند ظهور حركة (المريدين) الصوفية فى القوقازالتى كان من شأنها أن تمنح الجهاد ضد الروس بعدا دينيا.
ففى النصف الأول من القرن التاسع عشر كان على روسيا أن تواجه عدة تحديات غير تمرد الشيشان، فلقد خاضت حرب القرم ضد الأتراك وعلى الحدود البروسية ( ألمانيا) راحت تعبر عن قلقها من تسرب الأفكار التحررية بعدما حصلت بروسيا على دستورها الجديد، هذا علاوة على جرائم الاختلاس التى شاعت بين صفوف الإداريين فى الجيش.
مع تعاقب الحروب انطفأت حماسة الشباب للانضمام إلى صفوف الجيش...التفاوت الطبقى والإثنى والدينى عمق الفجوة بين الطبقات الكادحة والطبقة الأرستقراطية. أما على حدود الشيشان فلم تكن حركة (المريدين) بأحسن حال،فلقد أثارت النزاعات و الكراهية بدلا من أن توطد الوحدة والسلام. على الجبهتين كان هناك صدام من أجل الحصول على السلطة ، فلم يكن هناك مفر من أن تؤدى تلك الصدامات السياسية إلى سقوط الشيشان وإندلاع الثورة البلشفية عام 1917. لكن تبقى المأساة الكبرى فى أن يظل البسطاء هم الضحية دائما
أحمد كفافي
رمضان 2020