"أضغاث أنفاس".. أَحْلام مُخْتَلِفَة مُتَداخِلَة وَمُضْطَرِبَة يَصْعُبُ تَأْوِيلُها
كشفت الدراسات النفسية الحديثة عمّا يسمى بواقع الواقع، فما نعرفه في حياتنا هو الواقع المادي، لكن ثمة واقع آخر مقموع، وهو ما يستهدفه الإنتاج الأدبي في سعيه للوصول إلى المستويات الأكثر عمقا في تجربتنا الإنسانية خصوصا حينما يحول الأحلام إلى أدب مكتوب ويرصد من خلالها الواقع النفسي للشخصيات، فالحلم هو أكثر آليات اللاوعي حضورا في حياة البشر، لذا فمن الطبيعي أن يمتاح منها الأديب مادته، كما أن مادة الحلم هي نفسها مادة الإبداع سواء على مستوى اللغة المجازية والرمزية، أو الطاقة التخيلية. والإبداعات الحلمية ليست تسجيلا للمنامات، وإنما هي صياغة لغوية حكائيه للمضامين التي تصورها المنامات، وفيها يقوم الكاتب بالجمع بين عناصر ومكونات متنافرة وأحيانا متناقضة، وعملية الجمع هذه تخضع بحسب فرويد لعمليات تنظيمية تتسم بالتكثيف والتحويل. ويتيح الحلم الإبداعي - بخصائصه الجمالية وعمقه الدلالي - للمبدع إمكانية تأسيس وتأثيث عوالم متحررة من قيود الواقع، وقد وظفت الدكتورة أمل الأسدي الأحلام ومزجت بينها وبين الواقع، وأحيانا ما يتم التبادل بينهما فيصبح الواقع حلما أو يصبح الحلم واقعا، وذلك في مجموعتها السردية الشذرية "أضغاث أنفاس". من الرموز التي وظفتها الكاتبة الرموز اللونية التي أسهمت في تشكيل اللغة الحلمية، بما يحمله اللون من أبعاد فنية ويلاحظ القارئ أن الكلمة الأولى من كلمتي العنوان، وهي "أضغاث" تشير إلى أَحْلام مُخْتَلِفَة مُتَداخِلَة وَمُضْطَرِبَة يَصْعُبُ تَأْوِيلُها وَتَفْسيرُها، بينما الكلمة الثانية "أنفاس" أتت بديلا للأحلام، فكأن أحلامها هي أنفاسها وقد اختلطت بالواقع، فأصبحت أضغاثا. المستوى المباشر للحلم: وهو المستوى الذي يتسم بالمباشرة في اللغة الحلمية، والتصريح بملفوظات الحلم (حلمت، رأيت) داخل النص، ثم يسرد محتوى الحلم مباشرة على اختلاف درجات عمقه، وقد يستعمل كلمات مثل (صحوت أو أفقت) للتدليل على أن ما سبقها كان حلما، وقد وجدنا ذلك في أغلب النصوص، حيث الراوي هو الحالم الذي يرى لنفسه ما تعرضه أحداث القصة، وعلى الرغم من اشتراك شخص أو أكثر في مشهد الحلم، إلا أن شخصية الراوي تستأثر بالحضور في الحلم الذي يدور حولها، وهو أمر طبيعي إذا اعتبرنا الأحلام انعكاساً للرغبات أو بمثابة تحققات حلمية لأشياء لم تتحقق في الواقع. وهي بدورها توزعت بين شكلين: الأول: حلم منام كما في (موعد، روح، الفزع الأملس، خيبة، صفعة، نبض مفقود، مرآة، قدر، وهن، لحظة، فجوة، غواية، إرادة، إسقاط ...) وتمثل هذه الأحلام المنامية نموذجاً للغة التصويرية باعتبارها تسلسلاً لمجموعة من الصور المتتابعة، وهو التسلسل الذي يقوم على التراكم الاختياري الذي يتكون من صورة أولى تستدعي صورة أو مجموعة من الصور تشكل معا منظومة مركبة ضمن مسار تصويري متنام. وقد اعتمدت في هذه النصوص على السرد بضمير المتكلم، وهو يفيد في تقليص الفارق بين المكتوب والمُعاش إلى أقل درجة ممكنة، وهو الأنسب في التعبير عمّا في النفس من مشاعر وأحاسيس وعواطف وأزمات، ويلاحظ أن الكاتبة في أغلب النصوص الحلمية من هذا المستوى، كانت تتألم جراء آلام شهدها الحلم الذي استحال كابوسا، فكان الصحو بمثابة فرصة النجاة الوحيدة من هذا الألم، وكأن الكاتبة تشير من طرف خفي لأهمية عدم الاستسلام لرخاوة الحلم، وضرورة مواجهة الواقع، كما في أقصوصة "موعد" حيث الراوية ملساء الساقين تُفاجأ بالشعر يغزو ساقيها وكلما أزالته يعاود الظهور، وهكذا حتى أدمت ساقيها، ولم ينقذها إلا إيقاظ الزوج لها سائلا إن كانت ستذهب للتصويت في الانتخابات أم لا؟ وكأن الحلم كان تحذيرا من حاضر سيئ تحياه الحالمة، ويحذرها من أن المرشحين كالشعر الواجب إزالته لكن بالانتخابات الصورية يعاود الظهور. وتكمن الوظيفة الأيديولوجية لخطاب الحلم هنا في النهوض من بنية سردية مضطربة توحي برفض الواقع من جهة، ومن عالم سردي يختزل المسافة بين الواقعي والمتخيل إلى أقصى الحدود من جهة أخرى. والثاني: حلم يقظة، وقد لجأت إليه في نصوص عديدة كما في (صورة، رحيل، وسوسة، ساعة صامتة...). ويلاحظ أن الكاتبة اعتمدت على ضمير الغائب في نصوصها تلك، وكأن الراوي كان مراقبا للشخصية وقت شرودها، كما في أقصوصة "صورة"، التي بدأت بضمير الغائب "هو" بينما القصة تصور امرأة في حلم يقظة، وكانت بداية موفقة لأن الرجل الغائب هو مناط الحلم، هو يحب أغنية "رجعوني عينيك" (أنت عمري) لأم كلثوم، وهي ترقص على موسيقاها في مواجهة عينيه الجامدتين المطلتين من صورته وهو يرتدي بزته العسكرية، فكأنها بالحلم تستعيد الغائب، وترتبط استعادتها له بالسعادة التي تتجلّى في حضور الموسيقى وفي حركات الجسد الراقصة. أما المستوى غير المباشر للحلم: فالمقصود به الحلم الذي يعتمد على مستويات الشعور، ويتسم بشدة التكثيف وسرعة النقلات، وفيه تتداعى الصور والذكريات دون تدخل من الراوي الذي يكون مجرد ناقل للحدث، ودون اهتمام بالتتابع الزمني. لذلك فإن لغته تعتمد على "الأنا" من خلال الكتابة الوجدانية التي يختلط فيها النفسي بالاجتماعي بالإنساني، وقد ظهر ذلك في بعض النصوص كما في (دعوة على مرآة، موعد، هي، القلب أشد تذكراً عند اليقظة، بعد الموسم، ثلج، مدد، وهوهة...). وفي هذه النصوص اختلطت اللغة بمجرى الشعور، فتتكثف الأحلام بدلالاتها التعبيرية حتى تصبح الرواية حلماً تتوارد فيه عوالم الكاتب التي يصوغها من خلال شعوره المتداعي على الشخصيات باختلاف مستوياتها. وفيها رأينا الحلم قناعا يقول من خلاله الكاتب ما لا يستطيع قوله في الحقيقة، مما ساعده على اختراق أشكال وأنواع التقنيات السردية التقليدية، وتتجاوز الإيهام بواقعية الحكاية وأساليبها الإحالية. وأن تنقل مجال اهتمامها من الخارجي الملموس إلى الداخلي المحسوس، ومن الممكن التصريح به، إلى ما لا يمكن التعبير عنه إلا بواسطة صيغ فنية رمزية، ومن سرد الحدث محكوما بالنظام الزمني وقوانينه المحكمة، إلى سرد زمني متقطع مؤسس على المفارقات. كما في أقصوصة "وهوهة" وفيها تصور امرأة تجلس القرفصاء وتحدق في الوشم الذي على يديها، الوشم لاسم حبيب تكاد تجتر ذكرياته لولا أن يُفيقها من الحلم زوجها العجوز يطلب مساعدتها لينهض، فتساعده قائلة لنفسها: "سامحك الله يا والدي" هكذا وباستعمال أقل عدد ممكن من الكلمات توحي بقصة حب وأدها الأب الذي زوجها لمن يكبرها سنا فعاشت سجينة شيخوخته. يلاحظ قارىء المجموعة أن الكاتبة لم تلجأ إلى توظيف الحلم إبداعيا كنوع من الترف الفني، بل ألجأها موضوعها إلى ذلك، فهي في نصوصها تقدم نماذج لنسوة مُستلبات. حيث تمثل المرأة في مجتمعاتنا النموذج الاجتماعي الأبرز للاستلاب والقهر، ففي وضعيتها تجتمع كل تناقضات المجتمع وفُصامه، وتعاني الشخصيات المستلبة من اتساع الهوة وبين ذاتها وجسدها من ناحية، وبينها وبين مجتمعها من ناحية أخرى، وقد تزداد المسافة فتحاول البحث عن أسباب استلابها. وتبين قراءة النصوص عن قدرة الكاتبة على استثمار أساليب الحلم، من تكثيف وتصوير، ولرموزه بمرجعياتها وأبعادها النفسية والثقافية، في تجديد صيغها التعبيرية، ومن الرموز التي وظفتها الكاتبة الرموز اللونية التي أسهمت في تشكيل اللغة الحلمية، بما يحمله اللون من أبعاد فنية، ويمكن تمثل انسجامها في نسيج النصوص وأبعادها الدلالية، فقد حضرت الرموز اللونية في نصف عدد النصوص، وتم ذكر اللون باسمه المباشر سبعة عشر مرة منها خمس مرات للون الأبيض ارتبط فيها بالنقاء، ويليه الأصفر بدلالته على الشحوب أربع مرات، وتمت الإشارة إلى اللون بشكل غير مباشر لأحد عشرة مرة كقولها "وردي، زهري، ذهبي" لوصف موجودات حلمية، ونلاحظ أيضا أن ثمة توازن بين الحلم والواقع في دلالات أخرى، فالموسيقى صدحت، والشخصية رقصت، في خمسة أحلام، بينما في خمسة نصوص حضر الدم في الحلم أو في الواقع، سواء بوصفه دما أو بالدلالة عليه بكلمة نزيف. وهكذا لجأت الكاتبة إلى تقنيات الحلم لتساعد شخصياتها في التحرر من قيود مجتمع ضاغط يستلب روحها، ولم يكن ثمة فكاك ولا فرصة لاستعادة التوازن إلا بالحلم.
alyoum8.net
كشفت الدراسات النفسية الحديثة عمّا يسمى بواقع الواقع، فما نعرفه في حياتنا هو الواقع المادي، لكن ثمة واقع آخر مقموع، وهو ما يستهدفه الإنتاج الأدبي في سعيه للوصول إلى المستويات الأكثر عمقا في تجربتنا الإنسانية خصوصا حينما يحول الأحلام إلى أدب مكتوب ويرصد من خلالها الواقع النفسي للشخصيات، فالحلم هو أكثر آليات اللاوعي حضورا في حياة البشر، لذا فمن الطبيعي أن يمتاح منها الأديب مادته، كما أن مادة الحلم هي نفسها مادة الإبداع سواء على مستوى اللغة المجازية والرمزية، أو الطاقة التخيلية. والإبداعات الحلمية ليست تسجيلا للمنامات، وإنما هي صياغة لغوية حكائيه للمضامين التي تصورها المنامات، وفيها يقوم الكاتب بالجمع بين عناصر ومكونات متنافرة وأحيانا متناقضة، وعملية الجمع هذه تخضع بحسب فرويد لعمليات تنظيمية تتسم بالتكثيف والتحويل. ويتيح الحلم الإبداعي - بخصائصه الجمالية وعمقه الدلالي - للمبدع إمكانية تأسيس وتأثيث عوالم متحررة من قيود الواقع، وقد وظفت الدكتورة أمل الأسدي الأحلام ومزجت بينها وبين الواقع، وأحيانا ما يتم التبادل بينهما فيصبح الواقع حلما أو يصبح الحلم واقعا، وذلك في مجموعتها السردية الشذرية "أضغاث أنفاس". من الرموز التي وظفتها الكاتبة الرموز اللونية التي أسهمت في تشكيل اللغة الحلمية، بما يحمله اللون من أبعاد فنية ويلاحظ القارئ أن الكلمة الأولى من كلمتي العنوان، وهي "أضغاث" تشير إلى أَحْلام مُخْتَلِفَة مُتَداخِلَة وَمُضْطَرِبَة يَصْعُبُ تَأْوِيلُها وَتَفْسيرُها، بينما الكلمة الثانية "أنفاس" أتت بديلا للأحلام، فكأن أحلامها هي أنفاسها وقد اختلطت بالواقع، فأصبحت أضغاثا. المستوى المباشر للحلم: وهو المستوى الذي يتسم بالمباشرة في اللغة الحلمية، والتصريح بملفوظات الحلم (حلمت، رأيت) داخل النص، ثم يسرد محتوى الحلم مباشرة على اختلاف درجات عمقه، وقد يستعمل كلمات مثل (صحوت أو أفقت) للتدليل على أن ما سبقها كان حلما، وقد وجدنا ذلك في أغلب النصوص، حيث الراوي هو الحالم الذي يرى لنفسه ما تعرضه أحداث القصة، وعلى الرغم من اشتراك شخص أو أكثر في مشهد الحلم، إلا أن شخصية الراوي تستأثر بالحضور في الحلم الذي يدور حولها، وهو أمر طبيعي إذا اعتبرنا الأحلام انعكاساً للرغبات أو بمثابة تحققات حلمية لأشياء لم تتحقق في الواقع. وهي بدورها توزعت بين شكلين: الأول: حلم منام كما في (موعد، روح، الفزع الأملس، خيبة، صفعة، نبض مفقود، مرآة، قدر، وهن، لحظة، فجوة، غواية، إرادة، إسقاط ...) وتمثل هذه الأحلام المنامية نموذجاً للغة التصويرية باعتبارها تسلسلاً لمجموعة من الصور المتتابعة، وهو التسلسل الذي يقوم على التراكم الاختياري الذي يتكون من صورة أولى تستدعي صورة أو مجموعة من الصور تشكل معا منظومة مركبة ضمن مسار تصويري متنام. وقد اعتمدت في هذه النصوص على السرد بضمير المتكلم، وهو يفيد في تقليص الفارق بين المكتوب والمُعاش إلى أقل درجة ممكنة، وهو الأنسب في التعبير عمّا في النفس من مشاعر وأحاسيس وعواطف وأزمات، ويلاحظ أن الكاتبة في أغلب النصوص الحلمية من هذا المستوى، كانت تتألم جراء آلام شهدها الحلم الذي استحال كابوسا، فكان الصحو بمثابة فرصة النجاة الوحيدة من هذا الألم، وكأن الكاتبة تشير من طرف خفي لأهمية عدم الاستسلام لرخاوة الحلم، وضرورة مواجهة الواقع، كما في أقصوصة "موعد" حيث الراوية ملساء الساقين تُفاجأ بالشعر يغزو ساقيها وكلما أزالته يعاود الظهور، وهكذا حتى أدمت ساقيها، ولم ينقذها إلا إيقاظ الزوج لها سائلا إن كانت ستذهب للتصويت في الانتخابات أم لا؟ وكأن الحلم كان تحذيرا من حاضر سيئ تحياه الحالمة، ويحذرها من أن المرشحين كالشعر الواجب إزالته لكن بالانتخابات الصورية يعاود الظهور. وتكمن الوظيفة الأيديولوجية لخطاب الحلم هنا في النهوض من بنية سردية مضطربة توحي برفض الواقع من جهة، ومن عالم سردي يختزل المسافة بين الواقعي والمتخيل إلى أقصى الحدود من جهة أخرى. والثاني: حلم يقظة، وقد لجأت إليه في نصوص عديدة كما في (صورة، رحيل، وسوسة، ساعة صامتة...). ويلاحظ أن الكاتبة اعتمدت على ضمير الغائب في نصوصها تلك، وكأن الراوي كان مراقبا للشخصية وقت شرودها، كما في أقصوصة "صورة"، التي بدأت بضمير الغائب "هو" بينما القصة تصور امرأة في حلم يقظة، وكانت بداية موفقة لأن الرجل الغائب هو مناط الحلم، هو يحب أغنية "رجعوني عينيك" (أنت عمري) لأم كلثوم، وهي ترقص على موسيقاها في مواجهة عينيه الجامدتين المطلتين من صورته وهو يرتدي بزته العسكرية، فكأنها بالحلم تستعيد الغائب، وترتبط استعادتها له بالسعادة التي تتجلّى في حضور الموسيقى وفي حركات الجسد الراقصة. أما المستوى غير المباشر للحلم: فالمقصود به الحلم الذي يعتمد على مستويات الشعور، ويتسم بشدة التكثيف وسرعة النقلات، وفيه تتداعى الصور والذكريات دون تدخل من الراوي الذي يكون مجرد ناقل للحدث، ودون اهتمام بالتتابع الزمني. لذلك فإن لغته تعتمد على "الأنا" من خلال الكتابة الوجدانية التي يختلط فيها النفسي بالاجتماعي بالإنساني، وقد ظهر ذلك في بعض النصوص كما في (دعوة على مرآة، موعد، هي، القلب أشد تذكراً عند اليقظة، بعد الموسم، ثلج، مدد، وهوهة...). وفي هذه النصوص اختلطت اللغة بمجرى الشعور، فتتكثف الأحلام بدلالاتها التعبيرية حتى تصبح الرواية حلماً تتوارد فيه عوالم الكاتب التي يصوغها من خلال شعوره المتداعي على الشخصيات باختلاف مستوياتها. وفيها رأينا الحلم قناعا يقول من خلاله الكاتب ما لا يستطيع قوله في الحقيقة، مما ساعده على اختراق أشكال وأنواع التقنيات السردية التقليدية، وتتجاوز الإيهام بواقعية الحكاية وأساليبها الإحالية. وأن تنقل مجال اهتمامها من الخارجي الملموس إلى الداخلي المحسوس، ومن الممكن التصريح به، إلى ما لا يمكن التعبير عنه إلا بواسطة صيغ فنية رمزية، ومن سرد الحدث محكوما بالنظام الزمني وقوانينه المحكمة، إلى سرد زمني متقطع مؤسس على المفارقات. كما في أقصوصة "وهوهة" وفيها تصور امرأة تجلس القرفصاء وتحدق في الوشم الذي على يديها، الوشم لاسم حبيب تكاد تجتر ذكرياته لولا أن يُفيقها من الحلم زوجها العجوز يطلب مساعدتها لينهض، فتساعده قائلة لنفسها: "سامحك الله يا والدي" هكذا وباستعمال أقل عدد ممكن من الكلمات توحي بقصة حب وأدها الأب الذي زوجها لمن يكبرها سنا فعاشت سجينة شيخوخته. يلاحظ قارىء المجموعة أن الكاتبة لم تلجأ إلى توظيف الحلم إبداعيا كنوع من الترف الفني، بل ألجأها موضوعها إلى ذلك، فهي في نصوصها تقدم نماذج لنسوة مُستلبات. حيث تمثل المرأة في مجتمعاتنا النموذج الاجتماعي الأبرز للاستلاب والقهر، ففي وضعيتها تجتمع كل تناقضات المجتمع وفُصامه، وتعاني الشخصيات المستلبة من اتساع الهوة وبين ذاتها وجسدها من ناحية، وبينها وبين مجتمعها من ناحية أخرى، وقد تزداد المسافة فتحاول البحث عن أسباب استلابها. وتبين قراءة النصوص عن قدرة الكاتبة على استثمار أساليب الحلم، من تكثيف وتصوير، ولرموزه بمرجعياتها وأبعادها النفسية والثقافية، في تجديد صيغها التعبيرية، ومن الرموز التي وظفتها الكاتبة الرموز اللونية التي أسهمت في تشكيل اللغة الحلمية، بما يحمله اللون من أبعاد فنية، ويمكن تمثل انسجامها في نسيج النصوص وأبعادها الدلالية، فقد حضرت الرموز اللونية في نصف عدد النصوص، وتم ذكر اللون باسمه المباشر سبعة عشر مرة منها خمس مرات للون الأبيض ارتبط فيها بالنقاء، ويليه الأصفر بدلالته على الشحوب أربع مرات، وتمت الإشارة إلى اللون بشكل غير مباشر لأحد عشرة مرة كقولها "وردي، زهري، ذهبي" لوصف موجودات حلمية، ونلاحظ أيضا أن ثمة توازن بين الحلم والواقع في دلالات أخرى، فالموسيقى صدحت، والشخصية رقصت، في خمسة أحلام، بينما في خمسة نصوص حضر الدم في الحلم أو في الواقع، سواء بوصفه دما أو بالدلالة عليه بكلمة نزيف. وهكذا لجأت الكاتبة إلى تقنيات الحلم لتساعد شخصياتها في التحرر من قيود مجتمع ضاغط يستلب روحها، ولم يكن ثمة فكاك ولا فرصة لاستعادة التوازن إلا بالحلم.
"أضغاث أنفاس".. أَحْلام مُخْتَلِفَة مُتَداخِلَة وَمُضْطَرِبَة يَصْعُبُ تَأْوِيلُها
كشفت الدراسات النفسية الحديثة عمّا يسمى بواقع الواقع، فما نعرفه في حياتنا هو الواقع المادي، لكن ثمة واقع آخر مقموع، وهو ما يستهدفه الإنتاج ا...