"كان أولئك الناس يتذرعون بأني متهمٌ هاربٌ من العدالة كي يخيفوني ويستمروا في سرقتي وابتزازي. وكلما حلّ شخص غريب بالقرية، جاء واحد منهم إليّ لينذرني:" هناك أجانب بيننا، يا خيبينسيو."
"عندئذ كنت أصعد إلى الجبل، أختفي بين أشجار القَطْلَب ولا شيء أقتات به سوى نبات الحُمَّيض. أحيانا أخرى، كنت أهرب في عز الليل، كما لو كانت هناك كلاب تجري ورائي. هكذا انصرمَتْ حياتي كلها، لا أقصد سنة من عمري أو سنتين، بل حياتي بأكملها."
وها هم الآن قد جاؤوا يريدونه.
جاؤوا بعد أن زايله الخوف والترقب، واقتنع بأن كل شيء طواه النسيان، وصار يحلم بقضاء أيام هنيئة، في هذه الفترة الأخيرة من حياته. "أخيراً سيكون بإمكاني أن أعيش شيخوخة هادئة، وهذا أمر مهم. سيتركونني أشيخ في سلام."
كان ذلك الأمل هو أهم شيء بالنسبة إليه. ولذلك كان يصعب عليه أن يتقبل فكرة قتله، في هذه المرحلة من حياته بالذات، بعد أن بذل كل ما في وسعه للنجاة بجلده. لقد قضى الجزء الأكبر من حياته هاربا من مكان إلى آخر والخوف في أعقابه، إلى أن اشتد به الهزال، فصار عبارة عن هيكل عظمي. أما الجلد الذي يكسو عظامه، فقد أحرقته الشمس، خلال الأيام العصِيبة التي قضاها هاربا، بعيدا عن عيون الناس.
حتى زوجته ضاعت منه لهذا السبب. ففي اليوم الذي أخبروه بأنها غادرت البيت لم يفكر حتى في البحث عنها. لقد كان عليه أن يتفادى النزول إلى القرية، بأي وجه كان. ولذلك لم يشغل نفسه برحيلها ولم يتساءل حتى عن المكان الذي ذهبت إليه أو عن الشخص الذي مضَتْ برفقته. لقد تركها تنفلت مثل كل الأشياء الأخرى التي انفلتت منه، دون أن يتدخل أو يفعل شيئا. والآن لم يعد لديه سوى حياته، يدافع عنها ويتشبث بها باستماتة، وسيبذل كل ما في وسعه من أجل ذلك. عليه ألاّ يُوَطِّنَ نفسه على القتل، خصوصا في هذه المرحلة من حياته.
وهل جاؤوا به مِن "بالو دي بينيدا"، إلّا لِيَقْتُلوه؟
هم لم يقوموا حتى بتقييده حين طلبوا منه أن يرافقهم. كان يمشي بمحاذاتهم دون أصفاد. الخوف كان هو القيد الوحيد الذي يحد من حركته. كان واضحا لديهم أنه لا يستطيع الركض، بهيكله المتهالك، بساقيه النحيلتين، اليابستين مثل قضيبين، والمتصلبتين من شدة هلعه من الموت، ولقد كان يُسَاق بالفعل إلى الموت، كما أخبروه بأنفسهم.
كان قد فهم كل شيء بمجرد ما رآهم. أحس عندئذ بألم حارق في معدته. الألم نفسه الذي يُبَرِّحُ به كلما اقترب منه شبح الموت، وكلما التمع الذعر في عينيه وامتلأ فمه بذلك السائل المُرّ الذي كان عليه أن يبتلعه رغما عنه.
كان يشعر أن ساقيه تتقدمان دون إرادة منه وأن رأسه يلين ويرتخي، بينما يرتطم قلبه بصدره ارتطاما قويا. كلا، ليس بوسعه أن يتصور أنهم ذاهبون به إلى القتل.
كان من الضروري أن يتشبث بقليل من الأمل، بذلك البصيص المتبقي في مكان ما بداخله. ومن يدري؟ لعلهم جاؤوا يطلبون شخصا آخر سواه، يحمل هو أيضا اسم خيبينسيو نابا، فأخذوه هو بدافع الخطأ؟
كان يمشي محاطا بأولئك الرجال في صمت، وقد تدلت يداه على جانبيه، في ذلك الفجر المعتم، الخالي من لمعان النجوم. كانت هناك ريح خفيفة تحمل غبار الأرض المحَمّل برائحة البول، كما هو الأمر دائما في تلك الطرقات، وكانت تلك الرائحة تشتد كلما أمعنوا في المشي.
عيناه اللتان تورمتا مع مرور السنوات كانتا تنظران إلى التربة تحت قدميه، رغم العتمة. تلك التربة كانت هي كل حياته، طيلة ستين عاما. من أجلها كان يحيا، ولَكم تناول حفنة منها بين يديه وأوشك أن يذوقها، مثلما يذوق الناس قطعة من اللحم!
خلال ذلك الطريق الطويل، لم يتوقف عن التهام الأرض بعينيه، مستمتعاًبكل قطعة منها، كما لو كانت تلك آخر مرة يراها. بل إنه كان متيقنا أنها آخر مرة!
ثم إنه نظر إلى الرجال الذين يمشون بجانبه، كأنما ليقول لهم شيئا. كان يريد أن يطلب منهم إخلاء سبيله، ولقد أوشك أن يرفع صوته قائلا:" اعلموا أني لم أسئ لأحد" لكنه آثر الصمت. "سأقول لهم هذا بعد أن نمشي مسافة أطول." هكذا اكتفى بالنظر إليهم. كان بإمكانه أن يتخيل أنهم أصدقاء له، لكنه امتنع عن ذلك. إنهم ليسوا أصدقاء له.هو لا يعرفهم. كان فقط ينظر إليهم وهم يمشون بالقرب منه ويميلون برؤوسهم بين حين وآخر ليتبينوا وجهتهم.
المرة الأولى التي رآهم فيها كانت عند الغسق، خلال تلك الساعة التي تفقد فيها الأشياء ألوانها وتصير كلها رمادية.كانوا يمشون فوق ثلوم الأرض المحروثة، ويدوسون على الذرَة الغضة، لذلك هرع لملاقاتهم، ليثير انتباههم، ليقول لهم إن الذرة قد بدأت بالكاد تنبت، لكنهم لم يتوقفوا عن دوسها.
لقد لمحهم مع ذلك في الوقت المناسب، كما هي عادته في مثل هذه المواقف، وكان بإمكانه عندئذ أن يختبئ، أن يقضي ساعات في الجبل في انتظار أن يعودوا من حيث أتوا. فلماذا لم يفعل، مادامت الذرَة التي خاطرَ بنفسه من أجلها ستكف حتما عن النمو؟ إنه موسم المطر وما من مطر هناك وها هي الذرة منذورة للذبول، ولن ينصرم وقت قصير حتى يحرقها العطش. نعم، لقد كان نزوله إليهم في الحقيقة أمرا عبثيا لا طائل منه. كان كالساعي إلى حتفه بلا روية.
وها هو الآن يمشي بجانبهم ويود لو طلب منهم إخلاء سبيله. لم يكن يتبين وجوههم. كان يرى فقط أشكال أجسادهم وهي تقترب منه وتبتعد. وحين قرر أن يتحدث إليهم، لم يكن متأكدا أنهم يسمعون كلامه.
" أنا لم أسئ قط لأحد." هذا ما قاله لهم لكن عبارته تلك لم يكن لها أي وقع لديهم. لم يبد على أحد منهم أنه سمعها. بل إنهم لم يلتفتوا إليه. ظلوا جامدين صامتين، كأنهم ينامون وقوفا.
وعندئذ لم يعد لديه ما يقوله، أما الأمل فقد كان عليه أن يجده في مكان آخر، وأن يصرف النظر عن الحديث إليهم. وها هو يبلغ المنازل الأولى للقرية، محفوفا بأولئك الرجال الأربعة، يحجبهم جميعا سواد الليل.
-سيدي الكولونيل، هو ذا الرجل.
كانوا قد وقفوا عند عتبة الباب، وكان خيبينسيو ممسكا قبعته في يده، من قبيل الاحترام، متوقعا أن يخرج إليهم أحد الرجال من ذلك الباب. لكن أحدا لم يخرج. جاءهم فقط صوت يسأل من الداخل:
-أي رجل؟
-الرجل الذي جئنا به من "بالو دي بينادو"، سيدي الكولونيل. لقد أمرتنا أن نأتي به إلى هنا.
-اسأله هل كان يقيم في آليما في زمن مضى، قال الصوت القادم من الداخل.
-هل سبق لك أن أقمتَ في آليما، سأله الرقيب العسكري الواقف أمامه.
-نعم، أخبِر الكولونيل أنني أنحدر من آليما، وأنني كنت مقيما هناك حتى زمن قريب.
-اسأله إن كان يعرف رجلا اسمه غوادالوبي تيريروس.
-الكولونيل يسألك إن كنت قد عرفتَ غوادالوبي تيريروس.
-دون لوبي؟ نعم، قل له إني كنت أعرفه. ولكنه مات.
وعندئذ تغيرت نبرة الصوت القادم من الداخل:
-أنا أعرف أنه مات.
استمر صاحب الصوت، كما لو كان يخاطب شخصا آخر، خلف السور الطيني:
"غوادالوبي تيريروس هو والدي. وحين كبرتُ ومضيت للبحث عنه، أخبروني أنه مات. إنه لمن العسير أن يكبر المرء دون جذورٍ يتمسك بها. وهذا ما حدث لي بالذات.
"إثر ذلك عرفت أن القاتل أهوى عليه بضربات ساطور، قبل أن يقوم بغرز منْخَس في بطنه، وسمعتُ أنه استطاع مع ذلك أن يمشي على غير هدى مدة يومين اثنين، فلما عُثر عليه وهو يُحتَضَر قرب أحد الغدران، أوصى بأن يتم الاعتناء بأسرته.
إن المرء لَيَظُنّ أن بمقدوره نسيان أمور كهذه، وهو يحاول بالفعل أن ينساها، لكن ْحين تكتشف أن الشخص الذي فعل تلك الفعلة لا يزال حيا، وأنه يُوهمُ روحَه الفاسدة بحياة أبدية، فهذا ما لا تستطيع أن تنساه. ليس بإمكاني أن أصفح عن شخص كهذا، رغم أني لم أعرفه قط. أما وقد جيء به إلى هذا المكان، فذلك يؤكد قناعتي بوجوب قتله والانتهاء منه. ليس بوسعي أن أستسيغ بقاءه على قيد الحياة. بل إنه ما كان عليه حتى أن يولد!
كان كلامه واضحا تماما لمن هم في الخارج. وسرعان ما أصدر إليهم الكولونيل أمره:
-انطلقوا به الآن، اتركوه مقيدا بعض الوقت ليذوق العذاب، ثم اقتلوه رميا بالرصاص!
استعطفه هو قائلا:
-ليتك تنظر إلي، سيدي الكولونيل، أنا ما عدت صالحا لشيء، والموت لن يمهلني طويلا على أية حال. أنا شيخٌ فانٍ قد أرهقته السنوات، وعمّا قريب أموت وحيدا، فلا داعي لقتلي!..
-انطلقوا به الآن، قال الصوت الآتي من الداخل.
-....لقد أديتُ الثمن غاليا، ياسيدي الكولونيل. نعم، لقد أديته مضاعفا. أخذوا مني كل ما أملك. عاقبوني بمختلف الطرق، وقضيت ما يقرب من أربعين سنة مختبئا عن الأعين كأنني مصاب بالطاعون، وعشتُ باستمرار خائفا من الموت. إنني لا أستحق القتل بهذه الكيفية،يا سيدي الكولونيل، فأطلق سراحي، لعل الله أيضا يغفر لي. لا تقتلني، رجاءً. قل لهم ألا يقتلوني!"
كان واقفا هناك، كما لو أنه خضع لضرب مبرح، وكان يصرخ ويضرب الأرض بقبعته المكسيكية.
-قيدوه، ثم اسقوه شرابا إلى أن يسكر، بهذه الطريقة لن يؤلمه الرصاص.
ها هو أخيرا قد غمرته السكينة.
كان مُلقىً هناك، أسفل العمود.
جاء ابنه جوستينيو ثم انصرف ابنه جوستينيو ثم عاد من جديد، وها هو الآن يعود مرة أخرى.
ألقاه على ظهر الحمار، وربط الحزام جيدا، حتى لا يسقط خلال الطريق ثم غطى رأسه داخل جراب كي لا يستاء أحد من منظره. بعد ذلك ألهبَ ظهر الحمار بالسوط ومضى به مسرعا. كان عليه أن يصل إلى "بالو دي بينادو" في الوقت المناسب لإقامة مراسم السهرة الجنائزية.
"زوجة ابنك ستأسف كثيرا لموتك وكذلك أحفادك. سينظرون إلى وجهك وسيرون آثار الضربات التي سددها لك الجنود عندما قرروا الإجهاز عليك، وسيحسبون عندئذ أن قيوطاً شرسا قد هاجمك وقضى عليك."
(انتهى)
خوان رولفو Juan Rulfo
( من مجموعته: السهل المحترق)
"عندئذ كنت أصعد إلى الجبل، أختفي بين أشجار القَطْلَب ولا شيء أقتات به سوى نبات الحُمَّيض. أحيانا أخرى، كنت أهرب في عز الليل، كما لو كانت هناك كلاب تجري ورائي. هكذا انصرمَتْ حياتي كلها، لا أقصد سنة من عمري أو سنتين، بل حياتي بأكملها."
وها هم الآن قد جاؤوا يريدونه.
جاؤوا بعد أن زايله الخوف والترقب، واقتنع بأن كل شيء طواه النسيان، وصار يحلم بقضاء أيام هنيئة، في هذه الفترة الأخيرة من حياته. "أخيراً سيكون بإمكاني أن أعيش شيخوخة هادئة، وهذا أمر مهم. سيتركونني أشيخ في سلام."
كان ذلك الأمل هو أهم شيء بالنسبة إليه. ولذلك كان يصعب عليه أن يتقبل فكرة قتله، في هذه المرحلة من حياته بالذات، بعد أن بذل كل ما في وسعه للنجاة بجلده. لقد قضى الجزء الأكبر من حياته هاربا من مكان إلى آخر والخوف في أعقابه، إلى أن اشتد به الهزال، فصار عبارة عن هيكل عظمي. أما الجلد الذي يكسو عظامه، فقد أحرقته الشمس، خلال الأيام العصِيبة التي قضاها هاربا، بعيدا عن عيون الناس.
حتى زوجته ضاعت منه لهذا السبب. ففي اليوم الذي أخبروه بأنها غادرت البيت لم يفكر حتى في البحث عنها. لقد كان عليه أن يتفادى النزول إلى القرية، بأي وجه كان. ولذلك لم يشغل نفسه برحيلها ولم يتساءل حتى عن المكان الذي ذهبت إليه أو عن الشخص الذي مضَتْ برفقته. لقد تركها تنفلت مثل كل الأشياء الأخرى التي انفلتت منه، دون أن يتدخل أو يفعل شيئا. والآن لم يعد لديه سوى حياته، يدافع عنها ويتشبث بها باستماتة، وسيبذل كل ما في وسعه من أجل ذلك. عليه ألاّ يُوَطِّنَ نفسه على القتل، خصوصا في هذه المرحلة من حياته.
وهل جاؤوا به مِن "بالو دي بينيدا"، إلّا لِيَقْتُلوه؟
هم لم يقوموا حتى بتقييده حين طلبوا منه أن يرافقهم. كان يمشي بمحاذاتهم دون أصفاد. الخوف كان هو القيد الوحيد الذي يحد من حركته. كان واضحا لديهم أنه لا يستطيع الركض، بهيكله المتهالك، بساقيه النحيلتين، اليابستين مثل قضيبين، والمتصلبتين من شدة هلعه من الموت، ولقد كان يُسَاق بالفعل إلى الموت، كما أخبروه بأنفسهم.
كان قد فهم كل شيء بمجرد ما رآهم. أحس عندئذ بألم حارق في معدته. الألم نفسه الذي يُبَرِّحُ به كلما اقترب منه شبح الموت، وكلما التمع الذعر في عينيه وامتلأ فمه بذلك السائل المُرّ الذي كان عليه أن يبتلعه رغما عنه.
كان يشعر أن ساقيه تتقدمان دون إرادة منه وأن رأسه يلين ويرتخي، بينما يرتطم قلبه بصدره ارتطاما قويا. كلا، ليس بوسعه أن يتصور أنهم ذاهبون به إلى القتل.
كان من الضروري أن يتشبث بقليل من الأمل، بذلك البصيص المتبقي في مكان ما بداخله. ومن يدري؟ لعلهم جاؤوا يطلبون شخصا آخر سواه، يحمل هو أيضا اسم خيبينسيو نابا، فأخذوه هو بدافع الخطأ؟
كان يمشي محاطا بأولئك الرجال في صمت، وقد تدلت يداه على جانبيه، في ذلك الفجر المعتم، الخالي من لمعان النجوم. كانت هناك ريح خفيفة تحمل غبار الأرض المحَمّل برائحة البول، كما هو الأمر دائما في تلك الطرقات، وكانت تلك الرائحة تشتد كلما أمعنوا في المشي.
عيناه اللتان تورمتا مع مرور السنوات كانتا تنظران إلى التربة تحت قدميه، رغم العتمة. تلك التربة كانت هي كل حياته، طيلة ستين عاما. من أجلها كان يحيا، ولَكم تناول حفنة منها بين يديه وأوشك أن يذوقها، مثلما يذوق الناس قطعة من اللحم!
خلال ذلك الطريق الطويل، لم يتوقف عن التهام الأرض بعينيه، مستمتعاًبكل قطعة منها، كما لو كانت تلك آخر مرة يراها. بل إنه كان متيقنا أنها آخر مرة!
ثم إنه نظر إلى الرجال الذين يمشون بجانبه، كأنما ليقول لهم شيئا. كان يريد أن يطلب منهم إخلاء سبيله، ولقد أوشك أن يرفع صوته قائلا:" اعلموا أني لم أسئ لأحد" لكنه آثر الصمت. "سأقول لهم هذا بعد أن نمشي مسافة أطول." هكذا اكتفى بالنظر إليهم. كان بإمكانه أن يتخيل أنهم أصدقاء له، لكنه امتنع عن ذلك. إنهم ليسوا أصدقاء له.هو لا يعرفهم. كان فقط ينظر إليهم وهم يمشون بالقرب منه ويميلون برؤوسهم بين حين وآخر ليتبينوا وجهتهم.
المرة الأولى التي رآهم فيها كانت عند الغسق، خلال تلك الساعة التي تفقد فيها الأشياء ألوانها وتصير كلها رمادية.كانوا يمشون فوق ثلوم الأرض المحروثة، ويدوسون على الذرَة الغضة، لذلك هرع لملاقاتهم، ليثير انتباههم، ليقول لهم إن الذرة قد بدأت بالكاد تنبت، لكنهم لم يتوقفوا عن دوسها.
لقد لمحهم مع ذلك في الوقت المناسب، كما هي عادته في مثل هذه المواقف، وكان بإمكانه عندئذ أن يختبئ، أن يقضي ساعات في الجبل في انتظار أن يعودوا من حيث أتوا. فلماذا لم يفعل، مادامت الذرَة التي خاطرَ بنفسه من أجلها ستكف حتما عن النمو؟ إنه موسم المطر وما من مطر هناك وها هي الذرة منذورة للذبول، ولن ينصرم وقت قصير حتى يحرقها العطش. نعم، لقد كان نزوله إليهم في الحقيقة أمرا عبثيا لا طائل منه. كان كالساعي إلى حتفه بلا روية.
وها هو الآن يمشي بجانبهم ويود لو طلب منهم إخلاء سبيله. لم يكن يتبين وجوههم. كان يرى فقط أشكال أجسادهم وهي تقترب منه وتبتعد. وحين قرر أن يتحدث إليهم، لم يكن متأكدا أنهم يسمعون كلامه.
" أنا لم أسئ قط لأحد." هذا ما قاله لهم لكن عبارته تلك لم يكن لها أي وقع لديهم. لم يبد على أحد منهم أنه سمعها. بل إنهم لم يلتفتوا إليه. ظلوا جامدين صامتين، كأنهم ينامون وقوفا.
وعندئذ لم يعد لديه ما يقوله، أما الأمل فقد كان عليه أن يجده في مكان آخر، وأن يصرف النظر عن الحديث إليهم. وها هو يبلغ المنازل الأولى للقرية، محفوفا بأولئك الرجال الأربعة، يحجبهم جميعا سواد الليل.
-سيدي الكولونيل، هو ذا الرجل.
كانوا قد وقفوا عند عتبة الباب، وكان خيبينسيو ممسكا قبعته في يده، من قبيل الاحترام، متوقعا أن يخرج إليهم أحد الرجال من ذلك الباب. لكن أحدا لم يخرج. جاءهم فقط صوت يسأل من الداخل:
-أي رجل؟
-الرجل الذي جئنا به من "بالو دي بينادو"، سيدي الكولونيل. لقد أمرتنا أن نأتي به إلى هنا.
-اسأله هل كان يقيم في آليما في زمن مضى، قال الصوت القادم من الداخل.
-هل سبق لك أن أقمتَ في آليما، سأله الرقيب العسكري الواقف أمامه.
-نعم، أخبِر الكولونيل أنني أنحدر من آليما، وأنني كنت مقيما هناك حتى زمن قريب.
-اسأله إن كان يعرف رجلا اسمه غوادالوبي تيريروس.
-الكولونيل يسألك إن كنت قد عرفتَ غوادالوبي تيريروس.
-دون لوبي؟ نعم، قل له إني كنت أعرفه. ولكنه مات.
وعندئذ تغيرت نبرة الصوت القادم من الداخل:
-أنا أعرف أنه مات.
استمر صاحب الصوت، كما لو كان يخاطب شخصا آخر، خلف السور الطيني:
"غوادالوبي تيريروس هو والدي. وحين كبرتُ ومضيت للبحث عنه، أخبروني أنه مات. إنه لمن العسير أن يكبر المرء دون جذورٍ يتمسك بها. وهذا ما حدث لي بالذات.
"إثر ذلك عرفت أن القاتل أهوى عليه بضربات ساطور، قبل أن يقوم بغرز منْخَس في بطنه، وسمعتُ أنه استطاع مع ذلك أن يمشي على غير هدى مدة يومين اثنين، فلما عُثر عليه وهو يُحتَضَر قرب أحد الغدران، أوصى بأن يتم الاعتناء بأسرته.
إن المرء لَيَظُنّ أن بمقدوره نسيان أمور كهذه، وهو يحاول بالفعل أن ينساها، لكن ْحين تكتشف أن الشخص الذي فعل تلك الفعلة لا يزال حيا، وأنه يُوهمُ روحَه الفاسدة بحياة أبدية، فهذا ما لا تستطيع أن تنساه. ليس بإمكاني أن أصفح عن شخص كهذا، رغم أني لم أعرفه قط. أما وقد جيء به إلى هذا المكان، فذلك يؤكد قناعتي بوجوب قتله والانتهاء منه. ليس بوسعي أن أستسيغ بقاءه على قيد الحياة. بل إنه ما كان عليه حتى أن يولد!
كان كلامه واضحا تماما لمن هم في الخارج. وسرعان ما أصدر إليهم الكولونيل أمره:
-انطلقوا به الآن، اتركوه مقيدا بعض الوقت ليذوق العذاب، ثم اقتلوه رميا بالرصاص!
استعطفه هو قائلا:
-ليتك تنظر إلي، سيدي الكولونيل، أنا ما عدت صالحا لشيء، والموت لن يمهلني طويلا على أية حال. أنا شيخٌ فانٍ قد أرهقته السنوات، وعمّا قريب أموت وحيدا، فلا داعي لقتلي!..
-انطلقوا به الآن، قال الصوت الآتي من الداخل.
-....لقد أديتُ الثمن غاليا، ياسيدي الكولونيل. نعم، لقد أديته مضاعفا. أخذوا مني كل ما أملك. عاقبوني بمختلف الطرق، وقضيت ما يقرب من أربعين سنة مختبئا عن الأعين كأنني مصاب بالطاعون، وعشتُ باستمرار خائفا من الموت. إنني لا أستحق القتل بهذه الكيفية،يا سيدي الكولونيل، فأطلق سراحي، لعل الله أيضا يغفر لي. لا تقتلني، رجاءً. قل لهم ألا يقتلوني!"
كان واقفا هناك، كما لو أنه خضع لضرب مبرح، وكان يصرخ ويضرب الأرض بقبعته المكسيكية.
-قيدوه، ثم اسقوه شرابا إلى أن يسكر، بهذه الطريقة لن يؤلمه الرصاص.
ها هو أخيرا قد غمرته السكينة.
كان مُلقىً هناك، أسفل العمود.
جاء ابنه جوستينيو ثم انصرف ابنه جوستينيو ثم عاد من جديد، وها هو الآن يعود مرة أخرى.
ألقاه على ظهر الحمار، وربط الحزام جيدا، حتى لا يسقط خلال الطريق ثم غطى رأسه داخل جراب كي لا يستاء أحد من منظره. بعد ذلك ألهبَ ظهر الحمار بالسوط ومضى به مسرعا. كان عليه أن يصل إلى "بالو دي بينادو" في الوقت المناسب لإقامة مراسم السهرة الجنائزية.
"زوجة ابنك ستأسف كثيرا لموتك وكذلك أحفادك. سينظرون إلى وجهك وسيرون آثار الضربات التي سددها لك الجنود عندما قرروا الإجهاز عليك، وسيحسبون عندئذ أن قيوطاً شرسا قد هاجمك وقضى عليك."
(انتهى)
خوان رولفو Juan Rulfo
( من مجموعته: السهل المحترق)