د. سليمة مسعودي - تقدمة كتاب "الذات والمرآة - في تأويل النص الشعري""

الذات والمرآة "هو العنوان الذي فرض نفسه بنفسه على ما يشكل دراسات تطبيقية لنصوص من الشعر المعاصر وفق منطق المقاربة التأويلية، حيث تشكل القراءة المحايثة للنصوص في رؤاها وأبينتها التشكيلية من زاوية تأويلية، ووفق حساسية أقرب إلى الشعرية بمفهومها الفلسفي والجمالي الواسع، تقوم على محاورة هذه النصوص في باطنها وتجلياتها، أكثر من مجرد وصفها من حيث تشكيلاتها الخارجية، ذلك أن كل نص تلتحم أفضيته الرؤيوية بتشكيلاته البنائية، بل تناديها وتستدعيها، وفق ما تتبدى به وما تضمره من أبعاد دلالية واسعة، بل مترامية الأطراف، فكل تجل تشكيلي هو بشكل أو بآخر تجربة محايثة للداخل النصي ومكنوناته، هذا الذي لا يعدو أن يكون مدار التجربة الداخلية والخارجية للذات الشاعرة، مهما ادعى البعض غير ذلك، إذ لا تكون التجارب الشعرية في حقيقة الأمر إلا تجارب مكاشفة واكتشاف في آن، وفق رغبات جامحة في تلبية نداءات الخصوبة الروحية، التي تستفز حاسة الشعر بمؤهلاتها النفسية والتقنية والثقافية، وتستنفرها.
يقوم العقل الشعري على وعي عميق بالتجارب وإدارتها نفسيا وجماليا، وازداد هذا العقل اتساعا مع المعاصرة التي فتحت النص الشعري على إمكانات جديدة، استطاعت إثراءه وتخصيبه بآليات سردية وتخييلية وإيقاعية وثقافية متنوعة، خرجت به من ضيق الأفق المعرفي والجمالي إلى اتساعه، ومن كلاسيكية الوعي الشفاهي القديم بسطحيته وتسطيحه وتقديسه للقواعدية، نحو آفاق جديدة رحبة، تشتغل على تنويع المسافات الشعرية رؤيويا وجماليا، بما لا يدع مجالا للتقليد والمكرورية القاتلة، عن طريق مفهوم الرؤية الشعرية الذي يتجاوز باستمرار الموضوعات المؤطرة ( بفتح الطاء وكسرها في آن )، ويخوض في تلك المناطق العميقة من الذات في تقاطعاتها وتوازياتها وتماساتها مع العالم الخارجي والداخلي في بعديه : الشهود والغيب . وعن طريق طاقة التجريب التي تتوجه نحو التشكيل، لتبتكر لغتها وصورها وإمكاناتها، وتحيل الطبيعة والفن وتاريخ المعارف إلى مواد خام، تجبل منها أدواتها الخاصة، لتتمظهر بها وفيها جديدة حيوية دائما.
هكذا وجد النص الشعري نفسه في مد متواصل من التجاوز والإبداع، وتمكن من أن يفرض بمنطقه المتجاوز هذا دينامية التلقي وخلق الإحساس المستمر بالدهشة وتوليد الصدمات التي تجترح الذائقة باستمرار، وهو ما يدفع المتلقي إلى إعادة النظر المستمرة في أدواته ومعرفيته ومناهجه . علما أن الناقد الحقيقي هو الذي يطوع شتى الوسائل المعرفية بما فيها المناهج لممارسته النقدية،، في ضوء ما تستدعيه النصوص نفسها من مناهج وتقانات، و ليس العكس . ذلك أن سبب فشل الكثير من الدراسات النقدية للنصوص هو الانطلاق من المنهج نحو النص في حركة ضدية، تفرض مقولاتها قسرا على النصوص، وتؤطرها بها، بل وتؤدلجها أيضا ؛ ما جعل أغلب هذه الدراسات تكريسا جامدا للحقول المصطلحية التي تنضوي في إطار كل منهج، وإقحامها عنوة على النصوص، بل وإرغام هذه الأخيرة على أن تتقولب في أوعيتها، بطريقة تعسفية تفرغها من الحياة .
تنطلق هذه القراءات المؤولة من النصوص الشعرية والسمات الغالبة عليها، وهو ما أدى إلى أن تتنوع بتنوع النصوص ذاتها وتنوع أفضيتها الرؤيوية وإمكاناتها التشكيلية، فكان الفصل الأول مقاربة لكيمياء الذات في مجموعة من النصوص الشعرية الجزائرية، كان فيها مستوى حضور الذات متعاليا على ما عداه، على اختلاف تمظهرات هذا الحضور وحالاته، وهو ما دعا إلى البحث في الذات وأبجدية الأسئلة، ثم وعي الذات ورؤية العالم، لينطلق البحث في: الذات والشعر - الصوت والصدى كرصد لأحوال الذات الشاعرة في نصوص من الشعر الجزائري، عبر مجموعة من التمظهرات والعلاقات :
1. الذات والغيب : إيقاع المكاشفة والتجلي؛ قراءة في ديوان "صحوة الغيم" للشاعر الدكتور عبد الله العشي .
2. الذات والواقع : إيقاع المفارقة والتصادم؛ قراءة في ديوان "رجل من غبار" للشاعر الدكتور عاشور فني .
3. الذات الشاعرة وإيقاع الدهشة والائتلاف: قراءة في نص "لعصافيرك غابة صمت " للشاعر الدكتور عبد الرحمن بوزربة 4. كيمياء التخييل وتفكيك الصمت فط نص وردة الغبار للشاعر عبد الرحمن بوزربة.
5. الذات المعاصرة وجدلية صراع الداخل - الخارج : قراءة في نص "النبتة التي تنام فوق الثلاجة" للشاعر الدكتور عبد القادر رابحي .
أما الفصل الثاني فتناول " إيقاع الأسطورة في وقع المطر" حفريات أركيولوجية في البحث عن الأسطورة، حيث جاء قراءة في أنشودة المطر عبر فاعلية المنهج الأسطوري في البحث عن تبديات حضور الأسطورة الغائبة اسما الحاضرة رمزا، يحتاج إلى ممارسة حفرية تأويلية . فتناول البحث القصيدة الكهفية والأسطورة، ثم سيمياء العنوان، ثم التجليات الأسطورية من خلال إيقاع الحركة في النص، وإيقاع الزمن وإيقاع الموسيقى .
وجاء الفصل الثالث ليدرس " شعرية الحياة عند السياب " من خلال قراءة تأويلية لنص"غريب على الخليج"، عبر دراسة تجلي ملامح السيرة الذاتية في شعر السياب، ثم مقاربة العنوان، ورصد تمظهرات شخصية الشاعر - السارد - الشخصية المركزية، وشعرية الأمكنة، والسياقات الزمنية، ثم الوقوف على الرؤية السردية وبناء المشاهد .
وتناول الفصل الرابع "شعرية الكتابة البصرية "،عبر قراءة تأويلية في ملامح التشكيل البصري لديوان ورقة البهاء لمحمد بنيس، من خلال البحث في الحداثة الشعرية وعلاقتها بالتشكيل البصري في هذا الديوان، فرصد ملامحها في العتبات، ولوحة الغلاف، والعنوان، ثم في عالم المتن .
وجاء الفصل الخامس بحثا في أنطولوجيا الوجود الشعري الأنثوي، بقراءة نصوص من الشعر النسوي الجزائري، فتناول: الوعي الأنثوي وتجربة الكتابة، وتمظهرات الكينونة الشعرية الأنثوية عبر :
1. عذابات الانثى وطهرانيتها المقدسة : قراءة في نص "بوح لنوارس الغسق " للشاعرة فضيلة زياية .
2. تجليات الروح الأنثوية في المجموعة الشعرية " سر الغجر " للشاعرة حنين عمر.
إن ما تسعى إليه هذه الدراسة ليس تقديما لحقيقة النص النهائية، وليس القبض على المعنى، لعدم إمكانية ذلك بأي شكل من الأشكال ومع كل ما ينتج من نصوص، وليس استنطاقا للنص بطريقة إرغامية تشبه التحقيقات البوليسية، بقدر ما تعسى إلى اكتشاف المخبوء المضمر داخل النصوص عبر أنساقها، وما يشع من أرواحها، ويتجلى ظاهرا خفيا منها، عبر فاعلية التأويل التي تفتح مساحة من تبادل الرؤى بين النص وبين فهمنا الخاص - على حد قول غادامير.


* تقدمة كتابي "الذات والمرآة - في تأويل النص الشعري"" الصادر عن دار رؤية للنشر 2020 :










التفاعلات: عبد الأحد بودريقة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...