د. أحمد إبراهيم الباسوسي - احتفالات المصريين علاج لاحزانهم

مجرد كلمة قصيرة نشرتها لأصدقائي على موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك اهنئهم بعيد الفطر وادعوهم لمحاولة تمثل الفرحة والبهجة، في وقت كانت الموجة العدائية للعدو الصهيوني العنصري المحتل لفلسطين قد بلغت ذروتها تدميرا وقتلا وارهابا ضد الشعب الفلسطيني بسبب مطالباتهم باسترداد حقوقهم، ورفض كافة أشكال التهجير القسري، ونزع الأراضي بالقوة داخل مدينة القدس المحتلة، ومقاومة كافة أشكال التمييز العنصري ضدهم. أثارت هذه الكلمة حفيظة أحد المثقفين المصريين الكبار، وانهال غضبا ولوما واستغرابا. وتساءل كيف نفرح ومقدساتنا تنتهك واصحاب الأرض يطردون منها ؟ ربما كان هذا التعليق من صديقي الكبير تقليديا، ردا على دعوة للفرح بالعيد المقدس الذي دهمنا في وقت تسيل فيه الدماء والدمار في أرض فلسطين، وجميع المصريون يتابعون ما يجري ويعتصرهم الغضب والألم.
اذا نحن بصدد دعوة تقليدية للفرح لكن في توقيت غير تقليدي أو لايتناسب مع مزاج بعض المثقفين المصريون. بيد ان تفاعل كافة الأصدقاء في المجمل سواء من المهتمين بالشأن العام أو غير المهتمين الذي اتضح من خلال ردودهم أو اشاراتهم كان ايجابيا مع الفرحة وداعما لها.
ان المدقق للثقافة المصرية وطيبعة المصريين منذ قديم الأزل يدرك مبلغ شغفهم غير المحدود بالاحتفالات، كما ان لديهم قدرة مدهشة على تحويل مناساباتهم الدينية وغير الدينية الى احتفالات. وعلى الرغم من العلاقة الوطيدة للمصريون بالموت، فان لديهم ايمان راسخ وانشغال متعمق بمسألة بعث الميت الى الحياة بعد الموت، وكانوا يجهزون موتاهم ومقابرهم لهذا الأمر، ولا تزال الصورة التقليدية للمقابر، والطقوس الخاصة بالدفن تؤكد فكرة المصريين القدماء والمحدثين عن الموت باعتباره جسر يقود الى الحياة الأخرى والى الخلود.
ان الحياة هي الأصل عند المصريين وليس الموت أو العدم، مثلما دأب دعاة الثقافات البدوية الرعوية على الترديد، وحاولوا اقحام ثقافة وقيم الموت داخل نسيج ثقافة المصريين على حساب ثقافتهم التقليدية التي تحتفى بالحياة. وخلال القرون التي اتصفت بقرون التأخر والاضمحلال حيث سقطت الدولة المصرية في براثن الحكام الغزاة الاجانب بمختلف مللهم واطماعهم، انتشرت لدي المصريين قيم تتعلق بالعدائية السلبية للسلطة الظالمة المستبدة غير العادلة، وانتشار واسع لمظاهر الجهل والفقر وعدم الاكتراث واللامبالاة، وسيطرت القيم الدينية على العقول بشكل يكاد يكون مطلق، كذلك استبد الخوف والحذر من الاعداء المتربصين الذين لاهم لهم سوى الكيد للدين وللناس بواسطة رجال الدين المسيطرين على العقول، ووسادت مظاهر وسلوكيات الخضوع والانصياع لتعليمات وآراء رجال الدين الذين لا يفتأون ليل نهار يحذرون الناس من عذاب الآخرة، وعذاب القبر ورعب يوم القيامة، بالاضافة الى تحريم الاحتفالات واعتبارها مجرد بدع، وتحريم الاختلاط بين الرجال والنساء لخطورته على القيم ودرء المفاسد، والعداء الصريح للمرأة باعتبارها مصدر الشرور والآثام، ووضع قيود متشددة على ملبسها ومظهرها وعلاقتها بالرجل عموما، وبزوجها خصوصا، وبمجمل سلوكها عموما.
ورغم ذلك لم يتمكن الغزاة، أو تتمكن تلك الأفكار الغريبة على العقل المصري من السيطرة على المخزون الوراثي للمصريين المتعلق بالشغف والفرح وحب الحياة، على الرغم من علاقتهم الودودة بالدين ومظاهر التدين الخاصة بهم التي لاتخاصم الفرح أو الحياة.
ان هذا الأمر ربما يجيب عن التساؤل لماذا يكون المصري منذ العصور القديمة شغوفا بالحياة والاحتفاء بها؟. الحزن والاحتفال وجهين لعملة واحدة، يجيد ادارتها المصريون جيدا منذ الأزمنة القديمة. ان استخدامهم المدهش لمكيانزم الاحتفاء والفرح واقتحام البهجة، لا يقل روعة، وربما أكثر مقارنة باستخدامهم لميكانزم الحزن أو الشجن الذي يلازم المصريون ويتعايشون معه في تفاصيل حياتهم اليومية الصعبة.
ان الاحتفال والفرح الطريقة التي اكتشفوها لتحقيق توازن المعادلة التي تحقق لهم سبل التكيف مع واقعهم الصعب الذي يعيشونه. فهم المصريون جيدا كيف يمكن ان يصبح الفرح والبهجة والاحتفال بديلا، أو ترياق يعالجون به موجات الغصة، الانقباض، الشجن، الاحباط، الغضب، وكافة المفاجآت المزعجة وغير السارة التي تصادفهم كل دقيقة في تفاصيل حياتهم اليومية الصعبة.
ان ملايين المصريين الفقراء الذي اعتادوا الاهتزاز ورجرجة اجسادهم الممصوصة النحيلة مع ممارسة بعض الطقوس الدينية الخاصة في مولد السيدة زينب مثلا أو مولد الامام الحسين أو غيرهم من الشخصيات التي يقدسها الفقراء وغير الفقراء في مناساباتهم المعلومة يفعلون ذلك من أجل الحصول على قدر ووقت من الفرح والبهجة تساعدهم في التغلب على ايامهم الصعبة.
ان ملايين المصريون الذي يملاؤن الشوارع في الاعياد بملابسهم الجديدة، ووجوهم المرسومة بالفرحة والانشراح رغم صعوبة واقعهم وضيق احوالهم يفعلون ذلك تخففا أو هربا من اكتئاب أو اضطراب نفسي متربص وفي انتظار من يستسلم منهم. المصريون بارعون في ادارة حياتهم النفسية بتلقائية مدهشة. يتهمهم البعض بانهم لايثورون كثيرا، ولا يغضبون كثيرا، قدراتهم على التحمل والتكيف مع الواقع عظيمة ومدهشة. صبورين الى أبعد مدى. خلال سنوات القهر والظلم لديهم فلسفة خاصة جدا. يفعلون ما يشاءون ويتركون الحاكم ودولته يفعلون ما يشاءون أيضا. لايثورون على الفقر، بل يغضبون على الشرف والاهانة.
هذه الاتهامات ليست دقيقة تماما، لكنها تعكس تشوش واضح في ادراك صورة المصري الحقيقي المتحضر، وتعكس أيضا مدى لا بأس به من تصالح المصري مع ذاته، وتلك فضيلة لايمكن ملاحظتها سوى في الشعوب التي لها ميراث حضاري بالغ في القدم. المصريون بارعون في الاحتفال، والتفنن في خلق طقوس البهجة والفرح والانتصار للحياة، وعكس ذلك فهو خارج عن طبيعتهم الودودة التواقة دوما الى الحميمية والسلام.
ان مظاهر وطقوس الاحتفالات الدينية وغير الدينية لها خصوصية ونكهة مصرية خالصة، ولايمكن للمسافرين في اركان المعمورة كلها ان يدركوا أو يشعرون بزمن شهر رمضان المبارك أو اعياد الفطر والاضحى. مصر فقط هي التي يوجد فيها رمضان والاعياد الدينية، مظاهر وطقوس مصرية خالصة بلغت درجة القداسة بواسطة المصريون الفقراء العظماء. ان المصريين بعظمتهم وحضارتهم استطاعوا ومنذ قديم الأزل خلق معنى للزمن، وخلق قداسة مشروعة لأيام بعينها ارادوها مبهجة وعظيمة. ومها حدث من تقلبات في الواقع، وثورات في العلوم والتكنولوجيا يظل الموروث الذي يتخلل المصري حاضرا في علاقته بالحياة والفرح ومنح الحياة المعنى والبهجة، وليس العصبية أو الغضب غير المرشد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...