قراءة نقدية
ليس بالأمر السهل أبداً
سرد الوقائع بهذه السلاسة والرشاقة وتصوير الشخصيات الواقعية للأحداث الحقيقية ضمن إطار زمنيٍ ومكاني لإيصال معنى أخلاقي أو اجتماعي معين.
وقد حرص القاص فيه على تضفير الأحداث عبر لغةٍ حواريةٍ مشهديةٍ قادرةٍ على تصوير الأحداث ورؤيتها من خلال دعوة بطل النص للسارد إلى سهرةٍ مفاجئةٍ استطاع القاص من خلالها استرجاع أو استحضار أجمل السهرات التي قضاها يوماً مع هذا الصديق وثلة من الأصدقاء القدامى.
لقد حضر السارد هنا حضوراً أساسياً عبر استخدامه لضمير المتكلم:
(يدعوني، أقترح، نذهب، أخبره، سأنتظره، أبتسم، أتذكر، تأخرنا....الخ)
كان السارد موفقاً في عرض رؤيته السردية بأشكالٍ عديدةٍ كسرد الأحداث عن طريق "التبئير الداخلي" ويكون فيه السارد عالماً بشخصيات الأحداث ويتجلى ذلك بحديثه عن شخصية صديقه بطل النص والذي دعاه إلى السهر معه:
(يقول ماشي ويغلق من غير أي تحية، فأبتسم وأتذكر مشاكله العديدة مع حبيبته التي صارت حبيبته)
كذلك نلاحظ أن القاص هنا استخدم في عرض رؤيته السردية أسلوب:
"التبئير الخارجي" الذي يكون فيه السارد شاهداً على الأحداث:
(كانت حاملاً وغضبها أكبر من الليل ومن قدرتنا على ملاطفتها ومن الشارع الموحش في هذا الوقت المتأخر من الليل، تقدم هو نحوها معتذراً، لكنها رفعت كفها أمام وجهها المحتقن، فصمت مطئطئاً)
والأسلوب الثالث في السرد "التبئير صفر"/ أي اللاتبئير وهو ما يُعرف بالسرد التقليدي:
(كانت أيام حلوة قلتها في سري وقمت لأعد نفسي)
وبذا ومن خلال الاختلاف في أسلوب السرد ندرك أن السارد كمفهوم إصطلاحي لا يشبه مفهوم مصطلح الشخصية إذ يستطيع السارد في هذه الحالة أن يتدخل ويبدي رأيه في الشخصية وسلوكياتها داخل النص السردي بأسلوب السارد الخاص من خلال أشكال التبئير التي ذكرتها أعلاه.
وقد تناوب السارد في سرد الأحداث تناوبًا بدأه عامًا شمل العلاقات الاجتماعية الصداقة الزواج وانتهى بالحديث عن علاقته الأسرية الجميلة التي تمسكت بأحقيتها بالسهر معه وببقائه عند بيت أخته حيث كان يزورهم:
(رفضت أختي وزوجها وحرضّا عليّ ابنتهما، التي راحت تتسلقني، وسط ضحكنا... الخ)
وتبقى غاية النص الاجتماعية هي الغاية الأسمى من هذا النص السردي الذي أكد على أهميتها على اختلاف أنواعها سيما في ظل التباعد الاجتماعي الذي فرض علينا ضمن جملة من الاحترازات الوقائية لمنع انتشار الحب أم عدوى العزلة
لست أدري؟!
اشتقنا لتلك الأيام حقاً
تلك التي كنا نعيشها بكل بساطتها وشغفها وجمالها!
نص جميل أحيا فينا الزمن الجميل.
إيمان فجر السيد
*****
النص:
اتصال
ياسر جمعة
يدعوني صديقي، الذي لا يحبُّ الحديث في الهاتف، للسهر في وسط البلد، أقترح عليه أن نذهب إلى الحُسين، يوافق ويقول أنه سيمرُّ عليَّ بعد ساعتين، أخبره أني عند أختي من أمس ولستُ في منزلي، لذا سأنتظره في أول عباس، يقول ماشي ويغلق من غير أيِّ تحيةٍ، فأبتسم وأتذكر مشاكله العديدة مع حبيبته، التي صارت زوجته وأم ابنَيه، بسبب عدم رغبته في أن يحمل هاتفاً طوال فترة الخطوبة وحتى أول شهور الزواج، إلى أن أجبرته ذات ليلةٍ كنا نسهر فيها مع بعض الأصدقاء، وتأخَّرنا كالعادة، لنتفاجأ بها، ونحن نقوم بتوصيله، حيث كانت تنتظره أمام منزلهما وقد أعدَّت حقيبة ثيابها، وبطنها ممتدٌّ أمامها -كانت حاملاً- وغضبها أكبر من الليل ومن قدرتنا على ملاطفتها ومن الشارع الموحش في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل، فلفَّنا صمتٌ مطبقٌ وتقدَّم هو نحوها معتذراً، ولكنها رفعت كفَّها أمام وجهها المحتقن، فصمتَ مطئطئاً، قالت بعد لحظاتٍ أثقل من الموت:
"تطلقنى دلوقت يا إما تاخد الموبايل دا ومايفارقش إيدك أبداً؟".
مدَّ يده وأخذه منها، زفرتْ، وبعد لحظاتٍ ليست أقلُّ ثقلاً من السابقة قالت:
"وتطلع دلوقت الشقة وتتصْل بي وتقول اتأخرتي ليه يا حبيبتي، أنتي فين يا حبيبتي، أنا قلقان عليكي جداً يا حبيبتي".
حاولنا أن نتدخل قائلين:
"مساء الخير".
وكأنها لم تلاحظ وجودنا قبل هذه اللحظة، قالت في حسم:
"امشوا أنتو".
انطلقنا بالسيارة في ذهولٍ ألقى بنا في عاصفةٍ من الضحك، ما زالت تهبُّ علينا كلما تذكرنا.
"كانت أيام حلوة".
قلتُها في سرِّي وقمتُ لأعدَّ نفسي، رفضت أختي وزوجها، وعدتُهما أن أعود بعد لقاء صديقي، أصرَّا أن أعتذر له، وحرَّضا عليَّ ابنتهما، التي راحت تتسلَّقني، وسط ضحكنا، لتستقرَّ فوق رأسي وهي تقول:
"هخبّي عينيك ولسانك عشان ماتتكلمش مع حد غيري، وما تشوفش الطريق".
ياسر جمعة
ليس بالأمر السهل أبداً
سرد الوقائع بهذه السلاسة والرشاقة وتصوير الشخصيات الواقعية للأحداث الحقيقية ضمن إطار زمنيٍ ومكاني لإيصال معنى أخلاقي أو اجتماعي معين.
وقد حرص القاص فيه على تضفير الأحداث عبر لغةٍ حواريةٍ مشهديةٍ قادرةٍ على تصوير الأحداث ورؤيتها من خلال دعوة بطل النص للسارد إلى سهرةٍ مفاجئةٍ استطاع القاص من خلالها استرجاع أو استحضار أجمل السهرات التي قضاها يوماً مع هذا الصديق وثلة من الأصدقاء القدامى.
لقد حضر السارد هنا حضوراً أساسياً عبر استخدامه لضمير المتكلم:
(يدعوني، أقترح، نذهب، أخبره، سأنتظره، أبتسم، أتذكر، تأخرنا....الخ)
كان السارد موفقاً في عرض رؤيته السردية بأشكالٍ عديدةٍ كسرد الأحداث عن طريق "التبئير الداخلي" ويكون فيه السارد عالماً بشخصيات الأحداث ويتجلى ذلك بحديثه عن شخصية صديقه بطل النص والذي دعاه إلى السهر معه:
(يقول ماشي ويغلق من غير أي تحية، فأبتسم وأتذكر مشاكله العديدة مع حبيبته التي صارت حبيبته)
كذلك نلاحظ أن القاص هنا استخدم في عرض رؤيته السردية أسلوب:
"التبئير الخارجي" الذي يكون فيه السارد شاهداً على الأحداث:
(كانت حاملاً وغضبها أكبر من الليل ومن قدرتنا على ملاطفتها ومن الشارع الموحش في هذا الوقت المتأخر من الليل، تقدم هو نحوها معتذراً، لكنها رفعت كفها أمام وجهها المحتقن، فصمت مطئطئاً)
والأسلوب الثالث في السرد "التبئير صفر"/ أي اللاتبئير وهو ما يُعرف بالسرد التقليدي:
(كانت أيام حلوة قلتها في سري وقمت لأعد نفسي)
وبذا ومن خلال الاختلاف في أسلوب السرد ندرك أن السارد كمفهوم إصطلاحي لا يشبه مفهوم مصطلح الشخصية إذ يستطيع السارد في هذه الحالة أن يتدخل ويبدي رأيه في الشخصية وسلوكياتها داخل النص السردي بأسلوب السارد الخاص من خلال أشكال التبئير التي ذكرتها أعلاه.
وقد تناوب السارد في سرد الأحداث تناوبًا بدأه عامًا شمل العلاقات الاجتماعية الصداقة الزواج وانتهى بالحديث عن علاقته الأسرية الجميلة التي تمسكت بأحقيتها بالسهر معه وببقائه عند بيت أخته حيث كان يزورهم:
(رفضت أختي وزوجها وحرضّا عليّ ابنتهما، التي راحت تتسلقني، وسط ضحكنا... الخ)
وتبقى غاية النص الاجتماعية هي الغاية الأسمى من هذا النص السردي الذي أكد على أهميتها على اختلاف أنواعها سيما في ظل التباعد الاجتماعي الذي فرض علينا ضمن جملة من الاحترازات الوقائية لمنع انتشار الحب أم عدوى العزلة
لست أدري؟!
اشتقنا لتلك الأيام حقاً
تلك التي كنا نعيشها بكل بساطتها وشغفها وجمالها!
نص جميل أحيا فينا الزمن الجميل.
إيمان فجر السيد
*****
النص:
اتصال
ياسر جمعة
يدعوني صديقي، الذي لا يحبُّ الحديث في الهاتف، للسهر في وسط البلد، أقترح عليه أن نذهب إلى الحُسين، يوافق ويقول أنه سيمرُّ عليَّ بعد ساعتين، أخبره أني عند أختي من أمس ولستُ في منزلي، لذا سأنتظره في أول عباس، يقول ماشي ويغلق من غير أيِّ تحيةٍ، فأبتسم وأتذكر مشاكله العديدة مع حبيبته، التي صارت زوجته وأم ابنَيه، بسبب عدم رغبته في أن يحمل هاتفاً طوال فترة الخطوبة وحتى أول شهور الزواج، إلى أن أجبرته ذات ليلةٍ كنا نسهر فيها مع بعض الأصدقاء، وتأخَّرنا كالعادة، لنتفاجأ بها، ونحن نقوم بتوصيله، حيث كانت تنتظره أمام منزلهما وقد أعدَّت حقيبة ثيابها، وبطنها ممتدٌّ أمامها -كانت حاملاً- وغضبها أكبر من الليل ومن قدرتنا على ملاطفتها ومن الشارع الموحش في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل، فلفَّنا صمتٌ مطبقٌ وتقدَّم هو نحوها معتذراً، ولكنها رفعت كفَّها أمام وجهها المحتقن، فصمتَ مطئطئاً، قالت بعد لحظاتٍ أثقل من الموت:
"تطلقنى دلوقت يا إما تاخد الموبايل دا ومايفارقش إيدك أبداً؟".
مدَّ يده وأخذه منها، زفرتْ، وبعد لحظاتٍ ليست أقلُّ ثقلاً من السابقة قالت:
"وتطلع دلوقت الشقة وتتصْل بي وتقول اتأخرتي ليه يا حبيبتي، أنتي فين يا حبيبتي، أنا قلقان عليكي جداً يا حبيبتي".
حاولنا أن نتدخل قائلين:
"مساء الخير".
وكأنها لم تلاحظ وجودنا قبل هذه اللحظة، قالت في حسم:
"امشوا أنتو".
انطلقنا بالسيارة في ذهولٍ ألقى بنا في عاصفةٍ من الضحك، ما زالت تهبُّ علينا كلما تذكرنا.
"كانت أيام حلوة".
قلتُها في سرِّي وقمتُ لأعدَّ نفسي، رفضت أختي وزوجها، وعدتُهما أن أعود بعد لقاء صديقي، أصرَّا أن أعتذر له، وحرَّضا عليَّ ابنتهما، التي راحت تتسلَّقني، وسط ضحكنا، لتستقرَّ فوق رأسي وهي تقول:
"هخبّي عينيك ولسانك عشان ماتتكلمش مع حد غيري، وما تشوفش الطريق".
ياسر جمعة