إن تجاوز الألم وطي صفحاته لن يتأتى إلا بتقليب مواجعه، بحثا عن أسبابه ومسبباته، والعمل على بلسمته أواستئصاله نهائيا. ومخطئ من يظن أن الحل يكون بتركه ونسيانه أو حتى بتقادمه. فإذا كانت الذاكرة الإنسانية معرضة للنسيان، فإن الذاكرة التاريخية تظل محتفظة به، شاهدة عليه، تسترجعه كلما استدعاه المقام. فيصبح بذلك منغصا للحياة، ومركبا معقدا من مركبات النفس،يعوقها على الانطلاق في مسيرة البناء والنماء. في هذا الإطار تأتي رواية "على خط النار" للكاتب الجزائري رحو شرقي لتضع الإصبع على جرح قديم، لم يندمل بعد، بالرغم من بعد مسافته التاريخية، محاولة استغثاثه عبر استعادة صور الدمار والخراب، والأشلاء الممزقة، والرؤوس المجزة، وحمامات الدم المراق عبثا. وتأملها من جديد والبحث في حيثياتها،لعله يقبض على حقيقتها. ولهذا تم تقسيم هذه الورقة إلى محورين اثنين: تولينا في الأول تتبع هذه المواجع عبر فضاء الرواية، وفي الثاني بحثنا مع الكاتب الدوافع الحقيقية لكل هذه المجريات، عبر تتبع التساؤلات الكبرى التي عجت بها الرواية.
1- تقليب المواجع:
تسترجع الرواية فترة تاريخية عصيبة وحالكة من تاريخ الجزائر الحديث، بلد المليون شهيد، فترة وسمت بالعشرية الدموية، عاث فيها الإرهاب الأعمى بقيادة الرجعية المتطرفة فسادا. والأكثر إيلاما في هذه الأحداث هو أن هذا الإرهاب لم يكن خارجيا، والأيادي التي تلطخت بدماء الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء، وذبحتهم من الوريد إلى الوريد في مشاهد مخزية، لم تكن أجنبية.فقد دارت رحى الاقتتال بين أبناء الوطن الواحد، بين شعب يعيش تحت سقف واحد، ويدين بدين واحد، ويواجه مصيرا واحدا. إنها حرب الإخوة الأعداء التي لا مبرر لها، والتي تطرح أكثر من تساؤل عن أسبابها والمستفيد منها، وهو ما أثارته الرواية وهي تقلب هذه المواجع بحثا عن الحقيقة.
لقد استعيدت هذه الفترة التاريخية بما لها وما عليها على لسان "رجل كهل ملقى على أرض مبللةتحجب وجهه قتامة الدم، يتخبط يمينا وشمالا كمايتخبط الطير الذبيح"ص: 7، نقل من قبل السارد إلى المشفى، وحين استفاق اعترته حالة من الهذيان، فراح يسرد هذه الوقائع والأحداث، ويثير حولها الأسئلة. اتضح في نهاية الرواية أنه "رفيق"إحدى الشخصيات الملتحقة بمركز العبوروالتوجيهالتابعللقوات المسلحة للتصدي للإرهاب، وتطهير الوطن من الإرهابيين، مخلفا وراءه شوقا عارما وكثيرا من الذكرى والحب لأهله وأصدقائه. وهذيان هذه الشخصية بهذه الوقائع المؤلمة دليل قاطع على أن الذاكرة الجمعية الجزائرية ومعها العربية مازالت تنزف، وأن صور المجازر البشرية لم تغادرها بعد، فما زالت مزدحمة بداخلها، تسري في اللاشعور مسرى الدم في العروق. وبهذا يكون اختيار الكاتب لهذه التقنية للنبش في هذه الأحداث اختيارا إبداعيا موفقا، لاءم الموضوع ووافق المقصدية. فلم يكن الهدف هو إعادة تصوير الواقع، وتسجيل هذه الأحداث ونقلها، وإنما محاولة خلق واقع جديد، وإعادة التوازن إليه، وهذا ما لا يتأتى إلا من خلال تقليب المواجع، واختيار مواقف واقعية، مطعمة -طبعا -بكثير من الخيال الذي يرتقي بالرواية إلى مستوى الإبداعية، ويجعل من موضوعها وأحداثها معادلا موضوعيا لحالات مجتمعية وإنسانية، شكلت شخوص الرواية نماذج منها. فيوسف وجمال ورؤوف وسالم ورفيق حالات مجتمعية، قد تكون في الجزائر أو في الرباط أو في تونس أو في طرابلس أو في مختلف العواصم العربية، لا سيما وأن الكاتب ربط في أحداث الرواية بين العشرية الدموية في الجزائر، وبين الربيع العربي، وكأنهما بما شهداه من اقتتال، وما خلفاه من دمار، وما أفضيا إليه من نتائج، وجهان لعملة واحدة، بالرغم من اختلاف دواعيهما وأسبابهما.
فشخوص الرواية جميعها واجهت المصير نفسه، وتماثلت أوضاعها، فقد تركت أسرها وبلداتها للمجهول، والتحقت بمعسكرات الجنود لتطهير الوطن من الظلامية والإرهاب، لتعيش بعد ذلك منقسمة بين الهنا والهناك، بين مواجهة الموت في جبهات القتال، وبين الشوق والحنين إلى الأهل والأحبة الذين يعيشون هم الآخرون تحت هاجس الخوف والرعب من أيدي الإرهابيين التي لا ترحم البشر ولا الشجر. فهجروا منازلهم وقراهم قسرا، فرارا بأنفسهم وحياتهم. ولم تجد الشخصيات من سبيل إلى مغالبة هذا الوضع-أو بالأحرى التخفيف من وطأته- سوى تقليب صفحات من عالم الذاكرة مرة ثانية، غير أنها هذه المرة ذاكرة مشرعة على الذكريات الجميلة، مربوطة بمشاعر الحب كما جاء على لسان رفيق: "التفت إلى حقيبتي الظهرية، لأتفقد الخريطة صحبة بعضالرسائل الوردية، أستأنس بقراءتها، وأخرج بروحي من هذا المكانالسحيق إلى عالم في ذاكرتي، فأرتبها ترتيبا زمنيا طغت عليهأحداث مفزعة،والعودإلىالذاكرةكالبحثعن زمن معكوس."ص: 30
وقد تكرر الحديث عن الذكرى والنبش في عالم المشاعر في غير ما مرة، إما عن طريق تذكير الشخصيات بعضهم بعضا بمحبوباتهم، كما هو حال سؤال رفيق ليوسف: " وكيف حال خطيبتك" ص: 22، وسؤال السارد للجندي المرتعد من شدة البرد: "وهل تراسل فتاتك" ص:37، وإما عن طريق الرسائل التي كانت الملاذ الوحيد للشخصيات لقهر سلطان الوحشة ولوعة الفراق بمحبوباتهم، كما جاء على لسان رفيق،وهو يهيئ لتحبير رسالة إلى زينب"سأطفئ أنوار الغرفةوأبقي على ضوء مكتبي لأعبر برسالتي إلى ضفة أخرى من هذا العالم... إلى تلك العزيزة الغالية" ص: 56. و هذا التكرار يعطي اليقين أن نبش هذا العالم ليس حدثا عابرا، فهو يستحق التوقف والتأمل. فتيمة الحب في الرواية انعتاق وتحرر من كيد الظلامية، وبحث عن التوازن النفسي والاستقرار الاجتماعي اللذين شرختهما مشاهد القتل والدمار. التفت حوله شخوص الرواية باعتباره كوة الضوء المطلة على عالم الصفاء والنقاء، فالتوق إلى الحب وعبره إلى السلام مطلب إنساني، يدين في المقابل التطاحن والاقتتال اللذين يعدان خروجا عن مهيع الانسانية، يثيران بإلحاح السؤال عن حقيقة ما جرى.
إن استحضار الكاتب رحو شرقي لهذه الوقائع الإرهابية المؤلمة، لم ينسه التنبيه إلى ما يقوم به مصاصو الدماء على مستوى الفكر والثقافة، فلم يشف غليلهم صور الدم والأشلاء، وراحوا يخططون لحرب ثقافية أكثر شراسة وأشد فتكا من الحرب المسلحة، كما أعلن ذلك رفيق: "لا يتوقف الأمر إلى هذا الحد، ستكون الحروب القادمة أخطر بكثير من هذه الحرب الموكلة" ص: 88، لأنها لا تحتاج إلى أسلحة فتاكة، ولا إلى جيوش جرارة "ستصبح الجيوش عالة على الحكومات" ص: 88. حينذاك سيستهدفون أفكارنا، لا أجسادنا، فيبدؤون بتدمير لغتنا باعتبارها أساس هويتنا وتاريخنا ووحدتنا، ويشجعون في مقابل ذلك انتشار اللهجات المختلفة التي تمزق الوطن إلى أقليات، تفقد التواصل فيما بينها، وتضعف صفوفها. ثم يعملون على إغراق السوق الثقافية بدراسات وبحوث تطمس الحقائق وتحورها، ويكتبون من ثمة التاريخ الذي أرادوه، لا كما سارت مجرياته. "سيظلون يكذبون، يكذبون، ويكذبون حتى يصدقهم الجميع" ص: 89، لا سيما في وقت جفت فيه صحفنا وكبت أقلامنا، فلم نعد ننتج على المستوى الثقافي ما يلبي نهم القارئ العربي، ويصون فكره، مما يعني أن الحرب لم تحط أوزارها، فما زال أوارها مشتعلا حتى وإن هدأ دوي المدافع، وهذا ما أكدته الوثائق السرية للعدو التي عثر عليها رفيق، والتي جاء فيها: "إن الحرب لن تتوقف، اليوم بندقية ومدافع، وغدا بوكالة الفكر الشائع الضائع" ص: 111. فما لم يحققوه بالأسلحة، يسعون إلى الحصول عليه فكريا وثقافيا، لذلك تجدهم يستنفرون أقلامهم، ويشحذون ألسنة مثقفيهم لتسليطها على أفكار الضعفاء، مثقفين مأجورين، حادوا عن رسالتهم الحقة التي تدافع عن القيم الإنسانية وتنشر الجمال،وتحولوا إلى أبواق ينفثون المآسي والأحزان.
إن الكاتب وهو يستعيد هذه الأحداث ويموضع الشخصيات، رسم لها هندسة دقيقة، هي الدقة نفسها التي يتطلبها تحرك الجيوش والمقاتلين في ساحة الوغى، حتى ليخال القارئ أنه أمام تنظيم عسكري محكم ومحسوب الحركة، وهذه الدقة انعكست على الجانب الفني في الرواية التي يبدو أنها انسلخت من التقليدية، فبالرغم من بساطة الشخصيات إلا أنها استطاعت أن تجسد ذلك الصراع الدرامي الذي يبدأ من قمة الأزمة، ضمن ما يعرف بنظرية الارتماء "وجود شخص ملقى في الشارع" إلى قمة التوتر "الاقتتال وإطلاق النار". والكاتب بهذه التقنية يبتعد كثيرا عن الواقعية التقليدية التي تبدأ بالجذور الأولى للحكاية، وتتطور بها خطوة خطوة إلى نهايتها
2- البحث عن الحقيقة:
إن استدعاءهذه الصور الأليمة لم تكن غاية في ذاتها، ولا رغبة في نشر الحزن والأسى،من خلال مشاهد تنقبض لها النفوس وتنحبس لها الأنفاس. فالكاتب سعى إلى إدانتها من جديد، وإثارة الأسئلة حولها، أسئلة موصلة إلى اكتشاف خباياها، واظهار وجهها الحقيقي. فمن خلال تعرية الواقع يمكن فهم مجرياته وتحديد عثراته، ومحاولة القطع معها، وجعلها من مخلفات الماضي الذي يمكن طي صفحاته نهائيا، ثم بناء تاريخ حديث على أنقاض سابقه، يتجنب كل الاخفاقات ويتطلع نحو مستقبل أفضل. وقد ارتكز الكاتب في كشف ملابسات هذه الأحداث والتحقيق فيها على منطق السؤال الذي جعل محوره ماهية الدوافع إلى كل هذا الدمار، فهل البحث عن المال هو الذي يغذي الحرب؟ أم الطمع في السلطة؟ أم هما معا؟. ص: 115/116.
ولا نخالف الكاتب منطقية هذا التساؤل ووجاهته، فقد فرضته طبيعة النزاع وهوية المتنازعين. ففي حالة الحرب بين الأجناس والشعوب المختلفة، يكون الأمر محسوما ومكشوفا إلى حد ما، حتى وإن كانت مبادئ الإنسانية ترفضه إطلاقا، إذ يتحدد طرفا النزاع ما بين "غاصب ومغتصب، وغانم وغنيمة" ص: 116، فيظهر للعيان سعي الغاصب والمحتل إلى الاستحواذ على خيرات المغتصب وثرواته والسيطرة عليه، غير أن الأمر يختلف حين يتعلق بشعب واحد، له من القواسم المشتركة ما يجمعه أكثر مما يفرقه، أو لنقل ليس هناك ما يفرقه إلا ما كان من أمور شخصية تندرج ضمن التكوين الفردي للأشخاص، كالعادات وبعض الجوانب الثقافية، أما ما يتعلق بالجاه والسلطة والمال، فإن ذلك محكوم بقوانين تنظيمية، ومبادئ الاستحقاق والأهلية، لهذا يبقى من غير المقبول ولا المبرر أن يشهد الوطن الواحد صراعات بين مواطنيه، لأن الحرب في النهاية لن تحسم لأي طرف، كما أكد ذلك "رفيق" في قوله: "لا نصر أومنتصر في حرب بين أصحاب الأرض" ص: 71 والقول نفسه تكرر في الصفحة 115، "ألم يخطئ الكثير من يدعي أن في الحرب منتصرا ومهزوما؟" ووردكذلك في الصفحة 58 محملا بكثير من الاستغراب والتعجب " فعجبا لأخ يقتل أخاهويدعون أنه انتصار"
فمثل هذه الحرب أحادية المصير، وذات نتيجة حتمية محسومة حتى قبل أن تشرع رحاها في الدوران.فما دام المحارب فذايطلق الرصاص على أهله، ويخرب ما بنته سواعده عبر زمن طويل، فلن يغنم غير القهر والدمار والعاهات، قال رفيق وهو يتفقد قريته عائدا إليها من المعسكر: "أهدتني الحرب شهيدا تحت الثرى وبيتا على الأنقاض، صورا علىالجدران غطاها الغبار" ص:110، غير أن حقيقة هذا المآل لم تدرك إلا بعد فوات الأوان، بعد أن استشرى الألم وعم الأسى "آنئذ تألم الإرهابي قائلا: هذهيدي التيأفتقدها، ثم تعانقا [هو والجندي الذي كان يتبادل معه إطلاق النار] وأكملا سيرهما". ص: 108. ولا شك في أن هذا العناق اعتراف بالخطأ وإحساس بالذنب وندم على ما فات. يحيل على بعد واحد لا ثاني له، هو أن هذه الحرب لم تكن محض اختيار، بل وجدت شخصيات الرواية نفسها مدفوعة إليها، بعد أن وسوس لها سماسرة الحروب بحمل السلاح، وأزلوها عما كانت فيه من نعيم الأمن والأمان. فقد تم التغرير بشباب الوطن تحت غطاء الدين، ورسم لهم الفردوس الأعلى موئلا وبديلا عن وطنهم، فدفعوا إلى خط النار دفعا بدعوى نصرة العقيدة والدين، وهم عن ذلك أبعد. فمن هؤلاء الإرهابين من لا علاقة له بالدين، والدين منه براء، فهو "لا يحفظ من الكتاب إلا سورة الفاتحة" ص: 76 وقد يعدمها، فكيف له أن ينصر هذا الدين ويذود عن حياضه؟. وبعد انخراط هؤلاء المغرر بهم في اللعبة القذرة، أصبح من الصعب الانسحاب أو العدول عن أوامر قادتهم، لقد أضحوا- يعترف أحد الإرهابين-" كمن يخشى الموت على نفسه،فنحرق ونقتل دون رحمة" ص: 78. فضمان بقائهم واستمرار حياتهم رهين بتنفيذ الأوامر، ومواصلة الدرب الذي اختطوه لهم، والذي حيك مسيره في الغلس، إلى ما لا نهاية. وكل زيغ أو تراجع في ذاته قرار، وبذلك فهم يدفعون الموت بالموت.
إن هؤلاء المغرر بهم وجدواأنفسم في موقف لا يحسدون عليه، بعد أن صحوا من غفوتهم، واكتشفوا خيوط اللعبة. فهم بين نار تنفيذ الأوامر وإطلاق الرصاص على من يتقاسمون معهم الدين والوطن... وبين نار الضمير الذي صار ينهشهم من جراء صور التقتيل والتدمير التي ازدحمت بها مخيلتهم، والتي صارت تطاردهمفي حياتهم، كما يؤكد هذا الاعتراف "مازالتتلكالصورةتقتلنيمرات ومرات" ص: 78
لقد استغل السماسرة المستفيدون من ريع الحروب فقر الشباب المادي والفكري، وشحنوا عقولهم وأفئدتهم بأفكار هدامة، تجعل الآخر في صورة العدو الذي لا يقيم للدين وزنا، ولا يرعى له حدودا. وبذلك يحلون قتله، فيرتمي هؤلاء الشباب في بحر من الدماء لا ساحل له، ويطلقون العنان لوحشيتهم للتخريب والتدمير وتهجير العزل من أبناء جلدتهم، ظانين أن ما صنعوه فتح مظفر، وما هو إلا كيد السماسرة،يوضح المقطع التالي: "اجتمعنا على القتل، التخريبوالتهجير لبني جلدتنا... كل هذا نراه فتحا مظفرا" ص: 78. فكما توصلت شخصيات الرواية إلى هذه الحقيقة، انتهت في المقابل إلى أن ما خاضته من قتال هو في الأصل قتال الجبناء الذين يفتقدون إلى المروءة والانسانية، ومنفذوه ليسوا إلا قطاع طرق ومخربين وزارعين للفتنة. لهذا فإن تساؤل السارد عن ماهية هذه الحرب: "هل هي حرب أهواء أو عقيدة" ص: 63، يظل تساؤلا مفصليا، يحمل جوابه بين طياته. فالعقيدة والدين بعيدان كل البعد على أن ينصرا بهذه الهمجية، الأمر الذي يجعل هذه الحرب مفتوحة على الأهواء، تتحكم في زمامها عصابات تتخذ منها مصدرا للاغتناء وضمانا للبقاء.يقول السارد: "الفقراء دفعوا أرواحا ثمنا في الحرب والأغنياء المحظوظون هم من استفادوا منها وغنموا العقارات والثروات" ص: 127
إن تحري الحقيقة جعل السارد يهتدي إلى أمر مهم، يتعلق بالأيادي الخفية التي تحرك هؤلاء السماسرة أنفسهم، فالقضية لا تتوقف عند حدود الوطن، بل تتعداه إلى أياد خارجية، وعقول تدبر من بعيد، لا تختلف في رؤيتها وأهدافها عن الاستعمار الامبريالي الذي عانت من ويلاته الشعوب والدول المستضعفة لسنوات خلت، استعمار عاد إلينا في صيغة جديدة، فغير أدواته واستراتيجياته لإخضاع هذه الدول ثانية، فبدل الإنزال العسكري، صار يجيش أزلامه وعملاءه من بني أوطاننا، يحركم كالدمى كيف ومتى شاء، حتى إذا لبوا رغبته وعاثوا في أوطانهم تخريبا وتدميرا، جاء مهرولا رافعا يافطة رعاية السلام وحقوق الانسان والإغاثة والإعمار وهلم جرا، وهو ما كشفت عنه زينب في رسالتها إلى رفيق "جاءت بعض المنظمات تدعي الإنسانية، تابعة لهيئةالِحمم المتحدةيحملون علىأكتافهم علامات ورايات أهدتنا بدل السكنات مخيمات وأخرى تدعيالإغاثة..وهل يعقل هذا؟" ص: 85. فعلا الأمر غير معقول، ولن نجد له تحليلا أو تعليقا أفضل مما عبرت عنه شخصية زينب نفسها حين قالت: "سمعنا إعادة الإعمار بعد حلول الاستدمار ولا يزال، هل هذا غباء أو استحمار؟" ص: 85.
وهذا الوعي الذي عبرت عنه شخصية زينب هو الذي قاد السارد إلى إثارة سؤال عميق، ليس في الحقيقة غير سؤال الكاتب رحو شرقي وانشغاله بالبحث في سياقات أحداث العشرية الدموية، جاء فيه: "هل تظن أن انتصار الأمة في طرد مغتصبي الأرض، أم انتصارها وبلوغ أمنياتها في طرد مغتصبي الفكر؟" ص: 103. وهو سؤال يدفع الأمة العربية جمعاء إلى مراجعة أوراقها، وتحديث جبهات القتال والدفاع عن أوطانها وتحصينها من الاستعمار. فقد اهتمت الدول المستعمرة سابقا بالجانب العسكري، وألهبت مواطنيها للذود عن حوزة وطنهم، وتحريره من المستعمر، فكان أن نجحت في ذلك واستردت سيادتها، وحصنت حدودها، ومضت بعد ذلك في تحديث ترسانتها العسكرية، من غير أن يوازيها -في الجانب الآخر- اهتمام بالجانب الثقافي وتحصين فكري، يقي الشباب من الوقوع في براثن الفكر الهدام الذي يبيح قتل أبناء جلدتهم وسفك دمائهم. فيتحول هذا الشباب الذي كان قوة لأوطانه، إلى غريم وعدو يسعى إلى تخريبه.وهذا ما يطرح غياب المشاريع الثقافية في الأوطان العربية، غياب لخصه السارد في قوله: "هل فشل رجل الدين، وعجز المفكر، وزاغ السياسي؟ حتى عاد الوطن حزينا في عين الوطن" ص: 104. وإهمال مجتمعاتنا للمكون الثقافي ضمن منظومتها الأمنية، دفعها إلىأداء الثمن غاليا، إذ جعلها تحارب على واجهتين: من الخارج حيث المتربصون بسيادة الوطن، ومن الداخل حيث المواطن الذي يفتقد إلى المواطنة الحقة، والذي أصبح ناقما على الوطن ورموزه. الشيء الذي يؤجل النصر، بل يجعله مستحيلا. فضمان التحرير الشامل للأوطان والتحرر الكلي للشعوب، لا يتأتى إلا إذاتسلحتهذه المجتمعات فكريا وثقافيا، واستبدلت ثقافة الميوعة والتهجين والتدجين بالثقافة الجادة التي تبني المواطن الصالح، لأن التحرر الحقيقي يقول السارد "يكمن هنا...وأشار بيده اليمنى إلى رأسه" ص: 72
ولم تقف تساؤلات السارد عند حدود حقيقة الفكر والثقافة باعتبارهما شرطين من شروط تعزيز الأمن والسلام وتحصين المجتمع، بل سارت بنا مسارات أخرى. وقد ظل بعضها ثاويا بين سطور الأحداث، لم يعبر عنها السارد بصريح العبارة، فكان أن جاء بدلها بالجواب الذي يمكننا -بناء عليه- أن نتساءل مع السارد عما يلي: هل كان من الضروري أن تمر مجتمعاتنا العربية بهذه المحن؟. أليست هذه الأحداث من باب النقمة التي تحمل بين طياتها نعمة؟. يجيب السارد أن "الحروب ليست كلها سيئة، أحيانا تحرر الفكر من بعض السخافات، لكن ذلك لا يحصل إلا في وقت متأخر" ص: 103. فبالرغم مما خلفته هذه الحرب من مآس ودمار إلا أنها عرت سوءة مجتمعاتنا العربية من ناحية التنمية الثقافية بخاصة، والتي تعد أساس كل تحول وتطور، ورفعت غشاوة الغلط عن بعض السخافات التي آمن بها شبابنا المغرر بهم. فقد اقتضت سنة الثورات والحضارات أن البناء لا يقوم إلا على الأنقاض، وأن الحياة لا تنبعث إلا من الموت، وهذا ما حصل في مجتمعاتنا، فقد صححت هذه الوقائع مساراتها وغيرت رؤيتها للمستقبل، وخطت بها خطوة كبرى نحو الحداثة، خطوة تحتاج إلى من يواصلها لبلوغ المرام.
وقد انتهت متابعة الكاتب لخيط الحقيقة إلى "أن العالم يحركه سلطان المال والمصلحة" ص: 89، والسلطة، وهي عناصر مرتبطة ومتواشجة فيما بينها، أحدها يؤدي إلى الآخر. فكل الحروب التي شهدها ويشهدها العالم، هي نتيجة لأحد أسباب هذا الثالوث. وتتأكد هذه الحقيقة من خلال تساؤلات الكاتب دائما، والتي تكررت هذه المرة بشكل لا فت منها قول السارد: "أليست الحرب فكرا يغذيه التكالب ومتكؤه المال؟" ص: 114، "وهل البحث عن المال هو الذي يغذي الحرب" ص: 115. وهو تكرار لا يبرره غير تثبيت هذه الحقيقة وتأكيدها، وتبريء ذمة الدين وصرفه عن دائرة الاقتتال، فهو مستغن على أن ينصر بهذه الهمجية.
بناء على ماسبق، وبعد تتبعنا لمفاصل هذا العمل الإبداعي، نؤكد أن الكاتب رحو شرقي لا يبدع من برجه العاجي، ولا يهرب من الواقع، وإنما يعيد قراءته رغبة منه في تجاوزه، و يستحضر هذه الأحداث لإدانتها والقطع معها نهائيا من خلال فك خيوطها. فهو يستعيدها عبر الكتابة حتى لا تتكرر في الواقع مرة ثانية، وهو في كل ذلك يجعل منها صورة شعرية، أي كناية عن حالات إنسانية ووقائع مجتمعية تحيل على نضج فني كبير في صياغة الرواية، إذ تجعل من القضية المعالجة قضية إنسانية لا تخص الجزائر وحدها، وفعلا هي إنسانية، لأن الإرهاب لا وطن له.
محمد رحــو/ بركان/المغرب
1- تقليب المواجع:
تسترجع الرواية فترة تاريخية عصيبة وحالكة من تاريخ الجزائر الحديث، بلد المليون شهيد، فترة وسمت بالعشرية الدموية، عاث فيها الإرهاب الأعمى بقيادة الرجعية المتطرفة فسادا. والأكثر إيلاما في هذه الأحداث هو أن هذا الإرهاب لم يكن خارجيا، والأيادي التي تلطخت بدماء الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء، وذبحتهم من الوريد إلى الوريد في مشاهد مخزية، لم تكن أجنبية.فقد دارت رحى الاقتتال بين أبناء الوطن الواحد، بين شعب يعيش تحت سقف واحد، ويدين بدين واحد، ويواجه مصيرا واحدا. إنها حرب الإخوة الأعداء التي لا مبرر لها، والتي تطرح أكثر من تساؤل عن أسبابها والمستفيد منها، وهو ما أثارته الرواية وهي تقلب هذه المواجع بحثا عن الحقيقة.
لقد استعيدت هذه الفترة التاريخية بما لها وما عليها على لسان "رجل كهل ملقى على أرض مبللةتحجب وجهه قتامة الدم، يتخبط يمينا وشمالا كمايتخبط الطير الذبيح"ص: 7، نقل من قبل السارد إلى المشفى، وحين استفاق اعترته حالة من الهذيان، فراح يسرد هذه الوقائع والأحداث، ويثير حولها الأسئلة. اتضح في نهاية الرواية أنه "رفيق"إحدى الشخصيات الملتحقة بمركز العبوروالتوجيهالتابعللقوات المسلحة للتصدي للإرهاب، وتطهير الوطن من الإرهابيين، مخلفا وراءه شوقا عارما وكثيرا من الذكرى والحب لأهله وأصدقائه. وهذيان هذه الشخصية بهذه الوقائع المؤلمة دليل قاطع على أن الذاكرة الجمعية الجزائرية ومعها العربية مازالت تنزف، وأن صور المجازر البشرية لم تغادرها بعد، فما زالت مزدحمة بداخلها، تسري في اللاشعور مسرى الدم في العروق. وبهذا يكون اختيار الكاتب لهذه التقنية للنبش في هذه الأحداث اختيارا إبداعيا موفقا، لاءم الموضوع ووافق المقصدية. فلم يكن الهدف هو إعادة تصوير الواقع، وتسجيل هذه الأحداث ونقلها، وإنما محاولة خلق واقع جديد، وإعادة التوازن إليه، وهذا ما لا يتأتى إلا من خلال تقليب المواجع، واختيار مواقف واقعية، مطعمة -طبعا -بكثير من الخيال الذي يرتقي بالرواية إلى مستوى الإبداعية، ويجعل من موضوعها وأحداثها معادلا موضوعيا لحالات مجتمعية وإنسانية، شكلت شخوص الرواية نماذج منها. فيوسف وجمال ورؤوف وسالم ورفيق حالات مجتمعية، قد تكون في الجزائر أو في الرباط أو في تونس أو في طرابلس أو في مختلف العواصم العربية، لا سيما وأن الكاتب ربط في أحداث الرواية بين العشرية الدموية في الجزائر، وبين الربيع العربي، وكأنهما بما شهداه من اقتتال، وما خلفاه من دمار، وما أفضيا إليه من نتائج، وجهان لعملة واحدة، بالرغم من اختلاف دواعيهما وأسبابهما.
فشخوص الرواية جميعها واجهت المصير نفسه، وتماثلت أوضاعها، فقد تركت أسرها وبلداتها للمجهول، والتحقت بمعسكرات الجنود لتطهير الوطن من الظلامية والإرهاب، لتعيش بعد ذلك منقسمة بين الهنا والهناك، بين مواجهة الموت في جبهات القتال، وبين الشوق والحنين إلى الأهل والأحبة الذين يعيشون هم الآخرون تحت هاجس الخوف والرعب من أيدي الإرهابيين التي لا ترحم البشر ولا الشجر. فهجروا منازلهم وقراهم قسرا، فرارا بأنفسهم وحياتهم. ولم تجد الشخصيات من سبيل إلى مغالبة هذا الوضع-أو بالأحرى التخفيف من وطأته- سوى تقليب صفحات من عالم الذاكرة مرة ثانية، غير أنها هذه المرة ذاكرة مشرعة على الذكريات الجميلة، مربوطة بمشاعر الحب كما جاء على لسان رفيق: "التفت إلى حقيبتي الظهرية، لأتفقد الخريطة صحبة بعضالرسائل الوردية، أستأنس بقراءتها، وأخرج بروحي من هذا المكانالسحيق إلى عالم في ذاكرتي، فأرتبها ترتيبا زمنيا طغت عليهأحداث مفزعة،والعودإلىالذاكرةكالبحثعن زمن معكوس."ص: 30
وقد تكرر الحديث عن الذكرى والنبش في عالم المشاعر في غير ما مرة، إما عن طريق تذكير الشخصيات بعضهم بعضا بمحبوباتهم، كما هو حال سؤال رفيق ليوسف: " وكيف حال خطيبتك" ص: 22، وسؤال السارد للجندي المرتعد من شدة البرد: "وهل تراسل فتاتك" ص:37، وإما عن طريق الرسائل التي كانت الملاذ الوحيد للشخصيات لقهر سلطان الوحشة ولوعة الفراق بمحبوباتهم، كما جاء على لسان رفيق،وهو يهيئ لتحبير رسالة إلى زينب"سأطفئ أنوار الغرفةوأبقي على ضوء مكتبي لأعبر برسالتي إلى ضفة أخرى من هذا العالم... إلى تلك العزيزة الغالية" ص: 56. و هذا التكرار يعطي اليقين أن نبش هذا العالم ليس حدثا عابرا، فهو يستحق التوقف والتأمل. فتيمة الحب في الرواية انعتاق وتحرر من كيد الظلامية، وبحث عن التوازن النفسي والاستقرار الاجتماعي اللذين شرختهما مشاهد القتل والدمار. التفت حوله شخوص الرواية باعتباره كوة الضوء المطلة على عالم الصفاء والنقاء، فالتوق إلى الحب وعبره إلى السلام مطلب إنساني، يدين في المقابل التطاحن والاقتتال اللذين يعدان خروجا عن مهيع الانسانية، يثيران بإلحاح السؤال عن حقيقة ما جرى.
إن استحضار الكاتب رحو شرقي لهذه الوقائع الإرهابية المؤلمة، لم ينسه التنبيه إلى ما يقوم به مصاصو الدماء على مستوى الفكر والثقافة، فلم يشف غليلهم صور الدم والأشلاء، وراحوا يخططون لحرب ثقافية أكثر شراسة وأشد فتكا من الحرب المسلحة، كما أعلن ذلك رفيق: "لا يتوقف الأمر إلى هذا الحد، ستكون الحروب القادمة أخطر بكثير من هذه الحرب الموكلة" ص: 88، لأنها لا تحتاج إلى أسلحة فتاكة، ولا إلى جيوش جرارة "ستصبح الجيوش عالة على الحكومات" ص: 88. حينذاك سيستهدفون أفكارنا، لا أجسادنا، فيبدؤون بتدمير لغتنا باعتبارها أساس هويتنا وتاريخنا ووحدتنا، ويشجعون في مقابل ذلك انتشار اللهجات المختلفة التي تمزق الوطن إلى أقليات، تفقد التواصل فيما بينها، وتضعف صفوفها. ثم يعملون على إغراق السوق الثقافية بدراسات وبحوث تطمس الحقائق وتحورها، ويكتبون من ثمة التاريخ الذي أرادوه، لا كما سارت مجرياته. "سيظلون يكذبون، يكذبون، ويكذبون حتى يصدقهم الجميع" ص: 89، لا سيما في وقت جفت فيه صحفنا وكبت أقلامنا، فلم نعد ننتج على المستوى الثقافي ما يلبي نهم القارئ العربي، ويصون فكره، مما يعني أن الحرب لم تحط أوزارها، فما زال أوارها مشتعلا حتى وإن هدأ دوي المدافع، وهذا ما أكدته الوثائق السرية للعدو التي عثر عليها رفيق، والتي جاء فيها: "إن الحرب لن تتوقف، اليوم بندقية ومدافع، وغدا بوكالة الفكر الشائع الضائع" ص: 111. فما لم يحققوه بالأسلحة، يسعون إلى الحصول عليه فكريا وثقافيا، لذلك تجدهم يستنفرون أقلامهم، ويشحذون ألسنة مثقفيهم لتسليطها على أفكار الضعفاء، مثقفين مأجورين، حادوا عن رسالتهم الحقة التي تدافع عن القيم الإنسانية وتنشر الجمال،وتحولوا إلى أبواق ينفثون المآسي والأحزان.
إن الكاتب وهو يستعيد هذه الأحداث ويموضع الشخصيات، رسم لها هندسة دقيقة، هي الدقة نفسها التي يتطلبها تحرك الجيوش والمقاتلين في ساحة الوغى، حتى ليخال القارئ أنه أمام تنظيم عسكري محكم ومحسوب الحركة، وهذه الدقة انعكست على الجانب الفني في الرواية التي يبدو أنها انسلخت من التقليدية، فبالرغم من بساطة الشخصيات إلا أنها استطاعت أن تجسد ذلك الصراع الدرامي الذي يبدأ من قمة الأزمة، ضمن ما يعرف بنظرية الارتماء "وجود شخص ملقى في الشارع" إلى قمة التوتر "الاقتتال وإطلاق النار". والكاتب بهذه التقنية يبتعد كثيرا عن الواقعية التقليدية التي تبدأ بالجذور الأولى للحكاية، وتتطور بها خطوة خطوة إلى نهايتها
2- البحث عن الحقيقة:
إن استدعاءهذه الصور الأليمة لم تكن غاية في ذاتها، ولا رغبة في نشر الحزن والأسى،من خلال مشاهد تنقبض لها النفوس وتنحبس لها الأنفاس. فالكاتب سعى إلى إدانتها من جديد، وإثارة الأسئلة حولها، أسئلة موصلة إلى اكتشاف خباياها، واظهار وجهها الحقيقي. فمن خلال تعرية الواقع يمكن فهم مجرياته وتحديد عثراته، ومحاولة القطع معها، وجعلها من مخلفات الماضي الذي يمكن طي صفحاته نهائيا، ثم بناء تاريخ حديث على أنقاض سابقه، يتجنب كل الاخفاقات ويتطلع نحو مستقبل أفضل. وقد ارتكز الكاتب في كشف ملابسات هذه الأحداث والتحقيق فيها على منطق السؤال الذي جعل محوره ماهية الدوافع إلى كل هذا الدمار، فهل البحث عن المال هو الذي يغذي الحرب؟ أم الطمع في السلطة؟ أم هما معا؟. ص: 115/116.
ولا نخالف الكاتب منطقية هذا التساؤل ووجاهته، فقد فرضته طبيعة النزاع وهوية المتنازعين. ففي حالة الحرب بين الأجناس والشعوب المختلفة، يكون الأمر محسوما ومكشوفا إلى حد ما، حتى وإن كانت مبادئ الإنسانية ترفضه إطلاقا، إذ يتحدد طرفا النزاع ما بين "غاصب ومغتصب، وغانم وغنيمة" ص: 116، فيظهر للعيان سعي الغاصب والمحتل إلى الاستحواذ على خيرات المغتصب وثرواته والسيطرة عليه، غير أن الأمر يختلف حين يتعلق بشعب واحد، له من القواسم المشتركة ما يجمعه أكثر مما يفرقه، أو لنقل ليس هناك ما يفرقه إلا ما كان من أمور شخصية تندرج ضمن التكوين الفردي للأشخاص، كالعادات وبعض الجوانب الثقافية، أما ما يتعلق بالجاه والسلطة والمال، فإن ذلك محكوم بقوانين تنظيمية، ومبادئ الاستحقاق والأهلية، لهذا يبقى من غير المقبول ولا المبرر أن يشهد الوطن الواحد صراعات بين مواطنيه، لأن الحرب في النهاية لن تحسم لأي طرف، كما أكد ذلك "رفيق" في قوله: "لا نصر أومنتصر في حرب بين أصحاب الأرض" ص: 71 والقول نفسه تكرر في الصفحة 115، "ألم يخطئ الكثير من يدعي أن في الحرب منتصرا ومهزوما؟" ووردكذلك في الصفحة 58 محملا بكثير من الاستغراب والتعجب " فعجبا لأخ يقتل أخاهويدعون أنه انتصار"
فمثل هذه الحرب أحادية المصير، وذات نتيجة حتمية محسومة حتى قبل أن تشرع رحاها في الدوران.فما دام المحارب فذايطلق الرصاص على أهله، ويخرب ما بنته سواعده عبر زمن طويل، فلن يغنم غير القهر والدمار والعاهات، قال رفيق وهو يتفقد قريته عائدا إليها من المعسكر: "أهدتني الحرب شهيدا تحت الثرى وبيتا على الأنقاض، صورا علىالجدران غطاها الغبار" ص:110، غير أن حقيقة هذا المآل لم تدرك إلا بعد فوات الأوان، بعد أن استشرى الألم وعم الأسى "آنئذ تألم الإرهابي قائلا: هذهيدي التيأفتقدها، ثم تعانقا [هو والجندي الذي كان يتبادل معه إطلاق النار] وأكملا سيرهما". ص: 108. ولا شك في أن هذا العناق اعتراف بالخطأ وإحساس بالذنب وندم على ما فات. يحيل على بعد واحد لا ثاني له، هو أن هذه الحرب لم تكن محض اختيار، بل وجدت شخصيات الرواية نفسها مدفوعة إليها، بعد أن وسوس لها سماسرة الحروب بحمل السلاح، وأزلوها عما كانت فيه من نعيم الأمن والأمان. فقد تم التغرير بشباب الوطن تحت غطاء الدين، ورسم لهم الفردوس الأعلى موئلا وبديلا عن وطنهم، فدفعوا إلى خط النار دفعا بدعوى نصرة العقيدة والدين، وهم عن ذلك أبعد. فمن هؤلاء الإرهابين من لا علاقة له بالدين، والدين منه براء، فهو "لا يحفظ من الكتاب إلا سورة الفاتحة" ص: 76 وقد يعدمها، فكيف له أن ينصر هذا الدين ويذود عن حياضه؟. وبعد انخراط هؤلاء المغرر بهم في اللعبة القذرة، أصبح من الصعب الانسحاب أو العدول عن أوامر قادتهم، لقد أضحوا- يعترف أحد الإرهابين-" كمن يخشى الموت على نفسه،فنحرق ونقتل دون رحمة" ص: 78. فضمان بقائهم واستمرار حياتهم رهين بتنفيذ الأوامر، ومواصلة الدرب الذي اختطوه لهم، والذي حيك مسيره في الغلس، إلى ما لا نهاية. وكل زيغ أو تراجع في ذاته قرار، وبذلك فهم يدفعون الموت بالموت.
إن هؤلاء المغرر بهم وجدواأنفسم في موقف لا يحسدون عليه، بعد أن صحوا من غفوتهم، واكتشفوا خيوط اللعبة. فهم بين نار تنفيذ الأوامر وإطلاق الرصاص على من يتقاسمون معهم الدين والوطن... وبين نار الضمير الذي صار ينهشهم من جراء صور التقتيل والتدمير التي ازدحمت بها مخيلتهم، والتي صارت تطاردهمفي حياتهم، كما يؤكد هذا الاعتراف "مازالتتلكالصورةتقتلنيمرات ومرات" ص: 78
لقد استغل السماسرة المستفيدون من ريع الحروب فقر الشباب المادي والفكري، وشحنوا عقولهم وأفئدتهم بأفكار هدامة، تجعل الآخر في صورة العدو الذي لا يقيم للدين وزنا، ولا يرعى له حدودا. وبذلك يحلون قتله، فيرتمي هؤلاء الشباب في بحر من الدماء لا ساحل له، ويطلقون العنان لوحشيتهم للتخريب والتدمير وتهجير العزل من أبناء جلدتهم، ظانين أن ما صنعوه فتح مظفر، وما هو إلا كيد السماسرة،يوضح المقطع التالي: "اجتمعنا على القتل، التخريبوالتهجير لبني جلدتنا... كل هذا نراه فتحا مظفرا" ص: 78. فكما توصلت شخصيات الرواية إلى هذه الحقيقة، انتهت في المقابل إلى أن ما خاضته من قتال هو في الأصل قتال الجبناء الذين يفتقدون إلى المروءة والانسانية، ومنفذوه ليسوا إلا قطاع طرق ومخربين وزارعين للفتنة. لهذا فإن تساؤل السارد عن ماهية هذه الحرب: "هل هي حرب أهواء أو عقيدة" ص: 63، يظل تساؤلا مفصليا، يحمل جوابه بين طياته. فالعقيدة والدين بعيدان كل البعد على أن ينصرا بهذه الهمجية، الأمر الذي يجعل هذه الحرب مفتوحة على الأهواء، تتحكم في زمامها عصابات تتخذ منها مصدرا للاغتناء وضمانا للبقاء.يقول السارد: "الفقراء دفعوا أرواحا ثمنا في الحرب والأغنياء المحظوظون هم من استفادوا منها وغنموا العقارات والثروات" ص: 127
إن تحري الحقيقة جعل السارد يهتدي إلى أمر مهم، يتعلق بالأيادي الخفية التي تحرك هؤلاء السماسرة أنفسهم، فالقضية لا تتوقف عند حدود الوطن، بل تتعداه إلى أياد خارجية، وعقول تدبر من بعيد، لا تختلف في رؤيتها وأهدافها عن الاستعمار الامبريالي الذي عانت من ويلاته الشعوب والدول المستضعفة لسنوات خلت، استعمار عاد إلينا في صيغة جديدة، فغير أدواته واستراتيجياته لإخضاع هذه الدول ثانية، فبدل الإنزال العسكري، صار يجيش أزلامه وعملاءه من بني أوطاننا، يحركم كالدمى كيف ومتى شاء، حتى إذا لبوا رغبته وعاثوا في أوطانهم تخريبا وتدميرا، جاء مهرولا رافعا يافطة رعاية السلام وحقوق الانسان والإغاثة والإعمار وهلم جرا، وهو ما كشفت عنه زينب في رسالتها إلى رفيق "جاءت بعض المنظمات تدعي الإنسانية، تابعة لهيئةالِحمم المتحدةيحملون علىأكتافهم علامات ورايات أهدتنا بدل السكنات مخيمات وأخرى تدعيالإغاثة..وهل يعقل هذا؟" ص: 85. فعلا الأمر غير معقول، ولن نجد له تحليلا أو تعليقا أفضل مما عبرت عنه شخصية زينب نفسها حين قالت: "سمعنا إعادة الإعمار بعد حلول الاستدمار ولا يزال، هل هذا غباء أو استحمار؟" ص: 85.
وهذا الوعي الذي عبرت عنه شخصية زينب هو الذي قاد السارد إلى إثارة سؤال عميق، ليس في الحقيقة غير سؤال الكاتب رحو شرقي وانشغاله بالبحث في سياقات أحداث العشرية الدموية، جاء فيه: "هل تظن أن انتصار الأمة في طرد مغتصبي الأرض، أم انتصارها وبلوغ أمنياتها في طرد مغتصبي الفكر؟" ص: 103. وهو سؤال يدفع الأمة العربية جمعاء إلى مراجعة أوراقها، وتحديث جبهات القتال والدفاع عن أوطانها وتحصينها من الاستعمار. فقد اهتمت الدول المستعمرة سابقا بالجانب العسكري، وألهبت مواطنيها للذود عن حوزة وطنهم، وتحريره من المستعمر، فكان أن نجحت في ذلك واستردت سيادتها، وحصنت حدودها، ومضت بعد ذلك في تحديث ترسانتها العسكرية، من غير أن يوازيها -في الجانب الآخر- اهتمام بالجانب الثقافي وتحصين فكري، يقي الشباب من الوقوع في براثن الفكر الهدام الذي يبيح قتل أبناء جلدتهم وسفك دمائهم. فيتحول هذا الشباب الذي كان قوة لأوطانه، إلى غريم وعدو يسعى إلى تخريبه.وهذا ما يطرح غياب المشاريع الثقافية في الأوطان العربية، غياب لخصه السارد في قوله: "هل فشل رجل الدين، وعجز المفكر، وزاغ السياسي؟ حتى عاد الوطن حزينا في عين الوطن" ص: 104. وإهمال مجتمعاتنا للمكون الثقافي ضمن منظومتها الأمنية، دفعها إلىأداء الثمن غاليا، إذ جعلها تحارب على واجهتين: من الخارج حيث المتربصون بسيادة الوطن، ومن الداخل حيث المواطن الذي يفتقد إلى المواطنة الحقة، والذي أصبح ناقما على الوطن ورموزه. الشيء الذي يؤجل النصر، بل يجعله مستحيلا. فضمان التحرير الشامل للأوطان والتحرر الكلي للشعوب، لا يتأتى إلا إذاتسلحتهذه المجتمعات فكريا وثقافيا، واستبدلت ثقافة الميوعة والتهجين والتدجين بالثقافة الجادة التي تبني المواطن الصالح، لأن التحرر الحقيقي يقول السارد "يكمن هنا...وأشار بيده اليمنى إلى رأسه" ص: 72
ولم تقف تساؤلات السارد عند حدود حقيقة الفكر والثقافة باعتبارهما شرطين من شروط تعزيز الأمن والسلام وتحصين المجتمع، بل سارت بنا مسارات أخرى. وقد ظل بعضها ثاويا بين سطور الأحداث، لم يعبر عنها السارد بصريح العبارة، فكان أن جاء بدلها بالجواب الذي يمكننا -بناء عليه- أن نتساءل مع السارد عما يلي: هل كان من الضروري أن تمر مجتمعاتنا العربية بهذه المحن؟. أليست هذه الأحداث من باب النقمة التي تحمل بين طياتها نعمة؟. يجيب السارد أن "الحروب ليست كلها سيئة، أحيانا تحرر الفكر من بعض السخافات، لكن ذلك لا يحصل إلا في وقت متأخر" ص: 103. فبالرغم مما خلفته هذه الحرب من مآس ودمار إلا أنها عرت سوءة مجتمعاتنا العربية من ناحية التنمية الثقافية بخاصة، والتي تعد أساس كل تحول وتطور، ورفعت غشاوة الغلط عن بعض السخافات التي آمن بها شبابنا المغرر بهم. فقد اقتضت سنة الثورات والحضارات أن البناء لا يقوم إلا على الأنقاض، وأن الحياة لا تنبعث إلا من الموت، وهذا ما حصل في مجتمعاتنا، فقد صححت هذه الوقائع مساراتها وغيرت رؤيتها للمستقبل، وخطت بها خطوة كبرى نحو الحداثة، خطوة تحتاج إلى من يواصلها لبلوغ المرام.
وقد انتهت متابعة الكاتب لخيط الحقيقة إلى "أن العالم يحركه سلطان المال والمصلحة" ص: 89، والسلطة، وهي عناصر مرتبطة ومتواشجة فيما بينها، أحدها يؤدي إلى الآخر. فكل الحروب التي شهدها ويشهدها العالم، هي نتيجة لأحد أسباب هذا الثالوث. وتتأكد هذه الحقيقة من خلال تساؤلات الكاتب دائما، والتي تكررت هذه المرة بشكل لا فت منها قول السارد: "أليست الحرب فكرا يغذيه التكالب ومتكؤه المال؟" ص: 114، "وهل البحث عن المال هو الذي يغذي الحرب" ص: 115. وهو تكرار لا يبرره غير تثبيت هذه الحقيقة وتأكيدها، وتبريء ذمة الدين وصرفه عن دائرة الاقتتال، فهو مستغن على أن ينصر بهذه الهمجية.
بناء على ماسبق، وبعد تتبعنا لمفاصل هذا العمل الإبداعي، نؤكد أن الكاتب رحو شرقي لا يبدع من برجه العاجي، ولا يهرب من الواقع، وإنما يعيد قراءته رغبة منه في تجاوزه، و يستحضر هذه الأحداث لإدانتها والقطع معها نهائيا من خلال فك خيوطها. فهو يستعيدها عبر الكتابة حتى لا تتكرر في الواقع مرة ثانية، وهو في كل ذلك يجعل منها صورة شعرية، أي كناية عن حالات إنسانية ووقائع مجتمعية تحيل على نضج فني كبير في صياغة الرواية، إذ تجعل من القضية المعالجة قضية إنسانية لا تخص الجزائر وحدها، وفعلا هي إنسانية، لأن الإرهاب لا وطن له.
محمد رحــو/ بركان/المغرب