خيري حسن - زيارة «خاصة» إلى «قبر» فتحية العسال.. الحكاية (لِسه) فيها زينب!

«أحبك جدًا
وأعرف أن الطريق إلى المستحيل طويل
وأعرف أنك ست النساء
وليس لدى بديل
وأعرف أن زمان الحنين انتهى
ومات الكلام الجميل»
(القاهرة - 2021)
والكلام الجميل.. وطريق المستحيل.. فى هذه القصة، وهذه الحكاية، وهذه الرحلة لم ينته.. إنها رحلة صعبة تلك التى قررت خوضها للوصول إلى منطقة مقابر حلوان (28كم جنوب العاصمة) للوصول لزيارة قبر المرأة التى قدمتنى على الشاشة، كنموذج للفتاة المصرية، العصرية، التى كافحت ومازالت تكافح ضد الجهل والفقر معًا من خلال مسلسل (هى.. والمستحيل 1979) ولعبت فيه دور (زينب) تلك الفتاة الصابرة، المكافحة، التى رسمت على الشاشة ملامح من السيرة الذاتية للكاتبة (فتحية العسال) التى تحل ذكرى رحيلها يوم الثلاثاء القادم 15 يونيو، وكيف واجهت الصعاب فى طريقها الطويل نحو المستحيل!
•••
«ساكن فى حى السيدة
وحبيبى ساكن فى الحسين
وعشان أنول كل الرضا
يوماتى أروح له مرتين
من السيدة لسيدنا الحسين»!
(حى السيدة زينب - 1933)
المترو يسير بسرعته المعتادة حتى وصل إلى محطة مترو جامعة حلوان. وأنا أسندت رأسى على النافذة، ليداعب الهواء شعرى المنساب، فى الوقت الذى دار فيه أمام عينى شريط ذكريات بعيدة، وأيام سعيدة، وليال حزينة، مرت على الطفلة فتحية محمود (اسم الشهرة فتحية العسال) من ذلك العام الذى ولدت فيه بالمنزل رقم (3) حارة عطفة أبو مندور/ شارع الوفدية/ وسط القاهرة. فى هذا البيت البسيط، وتلك الحارة الشعبية، عاشت حياتها قوية، وصلبة، وعنيدة، تواجه الظروف التى فُرضت عليها حينذاك. تلك الظروف التى جعلت أباها يمنعها من مواصلة تعليمها، ويفرض عليها البقاء وراء جدران المنزل فى انتظار «عريس الهنا»!
وسط هذه الظروف القهرية حاولت المقاومة، والرفض، والتمرد، لكن الأب كان حاسمًا، وقاطعًا، ورافضًا، وأعلنها صريحة مدوية: «يا فتحية.. لا خروج من البيت بعد اليوم..! سنك وصل إلى 11 سنة، وجسدك ظهرت عليه علامات الأنوثة الطاغية»! وعندما تدخلت الأم قال: «بنتك شخصيتها قوية ودمغها ناشفة»! سكتت الأم لأنها تعرف أن زوجها ليس لديه الوقت الكافى لرعاية الأسرة التى تتكون من ثلاث بنات (نجيبة - عائشة - فتحية) وأربعة أولاد (حسنى- محمد - على - إسماعيل) فهو يحب عمله، ويحب الضحك (والفرفشة) جدًا ويحب النساء جدًا جدًا، حتى إنه من شدة حبه لهن تزوج 20 مرة!
•••
(المقابر - بعد مرور 20 دقيقة)
تركت هذه الذكريات على مقاعد المترو، الذى وصل إلى محطته الأخيرة قبل قليل. وخرجت مسرعة متجهة بسيارة تاكسى إلى المقابر فى رحلة شاقة وطويلة بين الميادين والشوارع والطرق غير الممهدة حتى وصلت إلى قبرها. أقف الآن أمامه، وفى يدى باقة ورد.. وباقة عطر.. وباقة حب!
الآن جئت إليك (يا ماما توحة) يا أستاذة.. وكيف لا تكونى أستاذة لى ولغيرى من بنات جيلنا، فى مجتمعاتنا العربية، بعد رحلة صبرك، وكفاحك، ونضالك، ودورك التنويرى ضد القهر، وضد الظلم، الذى تعرضت ومازالت تتعرض له المرأة من المحيط إلى الخليج. من هنا دعينى أسألك وبكل جرأة وصراحة تعلمناها منك وأقول لك.. كيف جرأت وطلبت الطلاق من زوجك الكاتب والمناضل السياسى عبدالله الطوخى لمجرد خلاف سياسى بسيط حدث بينكما بسبب مبادرة الرئيس السادات الشهيرة للصلح مع إسرائيل!
•••
(المقابر - بعد مرور 40 دقيقة)
«ومن قال لك يا زينب أنه خلاف بسيط!؟ عمومًا رغم هذا الخلاف، وهذا الطلاق، الذى لم يستمر طويلًا، ظل عبدالله حب العمر كله، وظلت كلماتى له: «إليك يا من كنت ومازلت وسوف - تظل فى عمق الأعماق وهجًا لن ينطفئ أبدًا» هى أجمل كلمات نطق بها لسانى، وكتبها قلمى الذى عرف القراءة والكتابة، والثقافة، والاستقلال، والاستعمار، وفلسطين، والثورة، ومنظمة (حدتو) واليسار، والاشتراكية العلمية، وزكى مراد ولطيفة الزيات، وعبدالرحمن الخميسى، وزكى عمر، وأحمد نجيب الهلالى، وحسن فؤاد، وفوزى حبشى، وصلاح عيسى، والشيخ إمام، وزين العابدين فؤاد، وأحمد فؤاد نجم وكل رفاق النضال من أجل حياة كريمة فيها العدل والحرية والمساواة بين كل طبقات الشعب. كل هذا عرفته وتعلمته من عبدالله بعدما رأيته أول مرة على محطة ترام السيدة زينب.
•••
«أفوت على بيت الحبيب
أقول جريح يا أهل الهوى
وياريت يكون لى معاه نصيب والحب يجمعنا سوا
والفرحة تبقى فرحتين
من السيدة.. لسيدنا الحسين»
(السيدة زينب - 1946)
«كان هذا اللقاء يوم 13 يناير من ذلك العام، عندما خرجت بمفردى -للمرة الأولى- وركبت التروماى بعد حرمانى من الدراسة. فى المحطة وقفت أنتظر. على مقربة منى لمحت شابا أبيض، وشعره أصفر، وعينيه جميلة.. بص لى وابتسم.. ومن تحت لتحت بصيت عليه.. قرب منى بعدت عنه. التروماى وصل.. جريت ركبت عربة الستات. ولما نزلت فى آخر المحطة لقيته أمامى يبتسم نفس الابتسامة وقال لى: صباح الخير، تمتمت وقلت: يسعد صباحك»!
ــ ومنذ ذلك اليوم ظل صباحك كله سعيدا.. أليس كذلك؟
ــ ليس هذا بالضبط يا زينب! لكن دعينى أسألك فى البداية؟ هل تعرفين لماذا أطلقت عليك اسم زينب فى مسلسل (هى.. والمستحيل)؟
ــ لا
ــ لأن أمى الله يرحمها كان اسمها زينب!
ــ أمك التى رضيت بزوج تزوج عليها 20 مرة؟
ــ نعم.. نعم.. كانت إنسانة هادئة، وطيبة، وصابرة، وصامتة إلى حد الملل!
ــ ملل.. وأى ملل؟!
•••
( المقابر - بعد مرور 50 دقيقة)
«عموما يا زينب اسمحى لى بالعود إلى حكايتى مع عبدالله.. «لقد تزوجنا بعد 4 سنوات من هذا اللقاء، وحدث أنى رفضت أكثر من عريس من أجله! ونجحت فى (فسخ) خطوبتى من شاب بمصطلح هذه الأيام يُعتبر من كبار رجال الأعمال من أجله. أما هو فقد تحدى أسرته من أجلى، وتقدم لخطوبتى دون موافقة أمه»!
أمه التى كانت تريد زواجه من بنات العائلة فى قريته بمدينة المنصورة. لكننا نجحنا فى تحدى كل هذه الظروف، وتزوجنا فى شقة والدى إلى أن أتم دراسته بكلية الحقوق جامعة القاهرة ثم سافرت معه إلى قريته رغم شعورى أن أمه كانت وما زالت ضد زواجى منه. ومرت الأيام بحلوها ومرها، تعلمت فيها القراءة والكتابة فى المنزل وكونت فصل لمحو الأمية فى حى السيدة زينب ثم جاءت سنوات اعتقال عبدالله ومطاردة الأنظمة السياسية له ولكل تيار اليسار قبل وبعد ثورة يوليو 1952. فى هذه السنوات عشنا («سنين الحب والسجن» و«دراما الحب والثورة») كما سماها هو و«حضن العمر» كما وصفتها أنا. بعد سنة من الزواج انتقلنا إلى شقة عبدالله ورزقنا الله بالأولاد: (إيهاب وصلاح وشريف وصفاء) ثم واصلت تعليمى، وتثقيفى. وهو واصل تشجيعى فى كل اختياراتى واتجاهاتى السياسية التى اعتُقلت بسببها ثلاث مرات آخرها سبتمبر 1981. وخلال هذه الرحلة، شجعنى على كتابة القصص التى تحولت إلى أعمال تليفزيونية وصلت إلى ما يقرب من 57 مسلسلاً و10 مسرحيات.
ــ «فعل معك كل ذلك.. ورغم ذلك.. قلت له: «طلقنى يا عبده»؟ كيف حدث ذلك؟
•••
(القاهرة - نوفمبر 1977)
الساعة الآن الحادية عشرة صباحًا، الجو خريفى معتدل. والشوارع هادئة من المارة فى وسط العاصمة باستثناء بعض أصوات السيارات المسرعة ذهابًا وإيابًا. عبدالله الطوخى يغلق نوافذ البلكونة التى يقف فيها الآن، بعدما ألقى نظرة على الشارع قبل عودته ليجلس أمام شاشة التليفزيون فى انتظار خطاب الرئيس السادات أمام مجلس الشعب فى افتتاح دورته التاسعة من ذلك العام الفارق والفاصل فى عمر الصراع العربى الإسرائيلى. جلس على مقعده بعدما ضبط إرسال القناة التى ستنقل الخطاب. وزوجته وحب عمره فى مطبخها تحضر الغداء، وابنتهما (صفاء) تجلس فى حجرتها، تقرأ رواية (العاصفة) للكاتب الإنجليزى ويليام شكسبير.
ــ لو سمحت يا فتحية فنجان قهوة مظبوط؟
ــ حاضر: يا عبده!
ــ الآن تدخل بخطوات بطيئة، حتى وصلت إلى منتصف الحجرة. وقبل أن تجلس رأت وسمعت الرئيس السادات يقول: «إننى على استعداد للذهاب إلى القدس، ومخاطبة الإسرائيليين فى عقر دارهم فى الكنيست من أجل تحقيق السلام»! تهلل وجه الطوخى سعيدًا، ووقف فى مكانه، وأشعل بسرعة سيجارة. فى نفس اللحظة اهتزت أقدام فتحية. وارتعشت يدها، فسقط منها دون أن تدرى فنجان القهوة على الأرض قبل عودتها مسرعة إلى مطبخها، تبكى فى حزن ومرارة. هو مازال يتابع تفاصيل المبادرة التى يراها تأتى «من موقع النصر، والثقة بالنفس، ولا يفعلها إلا رجل فى مثل طبيعة السادات.. مغامر.. ومستغنى عن روحه»! أما هى.. فما زالت فى مطبخها تواصل البكاء!
•••
(الشقة - بعد 30 دقيقة)
جرس الباب يدق.. وإذا باثنين من الأصدقاء قادمين وعلى وجهيهما الفرح. وعندما دخلا تركت المطبخ وجاءت لهم قائلة بعصبية: «دى خيانة يا أستاذ أنت وهو.. اللى بيحصل ده خيانة»!
ــ يعنى احنا خونة؟
ــ انتو مع مصالحكم.. مش بقيتوا أصحاب مصانع.. ورأسماليين.. تبقوا لازم مع التطبيع.
ــ عبدالله جوزك.. رأسمالى؟
ــ «عبدالله جوزى فنان.. راجل رومانسى، حالم»!
هنا.. غلت الدماء فى رأس الزوج الذى حاول التحكم فى رد فعله. وهى مازالت تواصل هجومها على المبادرة وعلى من يؤيدها. قال الزوج: «اتفضلى اخرجى من هنا فورًا»!
ـ ردت: «حاضر.. بس مش هخرج من الأوضة دى بس.. أنا هاخرج من حياتك كلها.. طلقنى يا عبدالله»!
•••
«عموا مساءً!
أيها الأموات. وابدأوا العزاء
عموا مساءً!
الضوء يمحو خلجات الوجه، فالأصوات أصداء تدور
والنغم الخافت من ركن بعيد،
يجعل البسمة شيئا كالرثاء
(المقابر - بعد مرور 70 دقيقة)
ــ وطلقك؟
ــ طبعًا.. لكننا عدنا لعش الزوجية بعد ثلاث سنوات
ــ وكيف حدث ذلك؟
ــ تقابلنا بالصدفة، وتحدثنا طويلًا، ويبدو أننى عندما طلبت الطلاق كنت أُريد التخلص من إحساسى بأنه يتملكنى ويستحوذ علىّ.. وفى نفس الليلة تزوجنا مرة أخرى وعدنا إلى حضن العمر كله..!».
ــ الآن يا سيدتى الجميلة، والعظيمة (ماما توحة) قد حان وقت عودتى من حيث جئت. سأعود وعلى وجهى بسمة أظنها ليست كالرثاء.. أظنها بسمة للرجاء.. بسمة للحب المعلق بين الأرض والسماء. بسمة تشبه بسمتك عندما لمحتِ وجه عبدالله على محطة الترام، واستمع كل منكما لما هتف به القلب من نداء.. لذلك دعينى أقول لك وداعًا قبل أن يحل بى المساء.
ــ إلى أين يا زينب؟
ــ إلى شوارع السيدة، والمنيرة، والدرب الأحمر، والمحلة الكبرى، وبورسعيد، وأسيوط، وأسوان، ربما أصادف الحب مثلما صادفك هناك فى محطات المترو أو السكة الحديد أو الباص أو الميكروباص.. وإن وجدته أقول إن وجدته سأحارب مثلك من أجله. وأعدك -وعد الشرفاء- إن اختلفت أفكاره واتجاهاته السياسية وابتعد عن دعم القضية، وساند مع من يساند المحتل بالقول أو بالصمت.. سأطلب منه الطلاق!
- الوداع... يا عزيزتى... الوداع.. الآن سأعود إلى مرقدى، إلى رحلتى الأبدية، مطمئنة على حاضر ومستقبل القضية، بعدما تأكدت أن مصر -والأمة العربية- لِسه) فيها... (زينب)!
حضر الزيارة:
خيرى حسن
•• الأحداث حقيقية.. وسيناريو المقال من خيال الكاتب.
•• الشعر / الغنائى المصاحب للكتابة:
نزار قبانى
[(زين العابدين عبدالله) مؤلف أغنية ساكن فى حى السيدة]
أحمد عبدالمعطى حجازى.

•• يُنشر الخميس.. 10 يونيو 2021/ فى صحيفة الوفد ( العدد الاسبوعى)


•• الصور:
الكاتبة/ فتحية العسال
الفنانة/ صفاء أبوالسعود
الكاتب/ عبدالله الطوخى
البورترية بريشة الفنان إيهاب لبيب


•• المصادر:
كتاب: (سنوات الحب والسجن) عبدالله الطوخى (طبعة دار الهلال)
كتاب: (دراما الحب والثورة)
عبدالله الطوخى (طبعة مكتبة الأسرة)
كتاب: حضن العمر–1- (طبعة مكتبة الأسرة)
كتاب: حضن العمر–2 - (طبعة مكتبة الأسرة)

الصحف:
المصرى اليوم/ اليوم السابع/ الدستور/ الأهرام/ الجمهورية.
المجلات:
نصف الدنيا / حواء/ زهرة الخليج/ لها/ الإذاعة والتليفزيون.


خيري حسن



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...