بعد قراءتي السابقة للقصيدة المغناة "راحلة"؛ هذه محاولة أخرى لقصيدة مغناة جديدة قديمة..
من منا لم يعرف "أحمد رامي"؟ الشاعر المصري ذو الأصل التركي الذي ارتبط اسمه بأغاني أم كلثوم...
أختار له الآن قصيدته " نعم أهوى" التي لم تغنيها أم كلثوم بل أداها من أدى " راحلة".. نعم ؛ هو نفسه صاحب الصوت الشجي؛ عندليب المغرب، خاصة عندما يرافق صوته موسيقى رنانة ؛عذبة ولحنا خالصا كلحن الطبيعة . إن لألحان "عبد السلام عامر" ألق متميز.
"أرادوني على أني أبوح" هكذا بعد النبض الموسيقي تأتي أولى الكلمات، فالشاعر يخبر المتلقي بأنهم أرادوه أن يبوح بشيء ما، ولكنه لم يخبرنا من هؤلاء الذين أرادوا منه البوح، فنتصور أن كل من يعرفه يريده أن يفصح عن شيء معين، لم يقل شاعرنا:" أرادوني على أني أقول" بل اختار " البوح" لما يظهر ويكشف من أسرار، ثم يتساءل بعد ذلك " وهل يتكلم القلب الجريح؟" كأنه يقول لنا: " لو لم يكن القلب جريحا لتحدث" فهو هنا استعار الكلام للقلب، وجعل الاستعارة مكنية بحذفه للمستعار منه الذي هو الإنسان فاستعار صفة من صفاته التي هي " الكلام"، للقلب (المستعار له).. أما البيت الثاني فقد عطفه على الأول ب"واو" أتبعه بآخر كلامِه استفهاما أيضا.. وهو يتساءل ما الذي يريده ويطلبه هؤلاء؟ ثم اختار لفظة " الفؤاد" لما تحمله من توقد القلب والذهن معا، مما يدل على انشغال القلب والعقل، فما الذي في فؤاده؟ يقول إن به جوى، وكان بإمكانه أن يقول " هوى" لكن الجوى أوقع في النفس فهو شدة العشق وما يورثه من حزن بينما الهوى هو أقل من ذلك درجة، ليستعير من جديد صفتين إنسانيتين للدمع معتبرا أنه هو ما فضح جواه "أفضى به الدمع" وما كشفه الدمع لهم كان فصيحا مبينا حيث وصف "رامي" الدمع بالفصيح. وإذن؛ وبعدما فضحه دمعه ها هو يعترف " نعم أهوى" ثم ينفي أنه يخفي غرامه، ذلك أن شرف الهوى أن يكون صاحبه صريحا، وفي البيت الرابع يقول: " وأما إن سئلت هل اصطفتني" ومن جديد ينتقي شاعرنا ألفاظه انتقاء، فنلاحظ أنه لم يقل: "اختارتني" إذ إن الاصطفاء يعني أن تختار بين متشابهات بينما الاختيار هو أن تختار بين غير متشابهات؛ ويخبرنا أنه عندما سئل إن كانت قد اصطفته فإنه يسكت ولا يجد جوابا فما استراح هو، وما تمكن من إراحة الآخرين ؛ ثم يتساءل إن كانت هي قد تعلقت به فصفا الهوى بينهما مع أن قلب الغانيات واسع يشمل أحبة كثيرين، فنلاحظ أيضا أنه لم يقل الجواري أو النساء أو غير ذلك من الكلمات، وإنما اختار لفظة الغانيات، وفي ذلك إيحاء بالجمال الذي تتصف به المرأة التي يقال عنها غانية إذ هي تستغني عن الزينة لأنها لا تحتاجها كي تبرز بها جمالها...أما عند لقائهما فيعتزلان كل ما يمكن أن يكون بينهما من سر الحب، ومن شدة حبه ومشاعره الجياشة تجاه حبيبته فهو يجد نفسه يلمس حبها الذي يلوح حوله، مع أنه يدرك أن كثيرين هم من يزدحمون حول حبها ولعلها حينها تهتم بهم أو يبدو له ذلك من غيرته فيشعر بكبده وقد قرح...
هو حب جميل عفيف هذا الذي نظمه شعرا أحمد رامي، فأصاب برميته الهدف لدى عبد السلام عامر و محمد الحياني، ركب الشاعر وفرة الكلمة ببحر الوافر، ولم تكن به علل إلا العصب وهو تسكين الخامس المتحرك من التفعيلة "مفاعلَتن" " مفاعلْتن" فالوافر بحر أحادي التفعيلة لكن يصيب عروضه وضربه " القصف" الذي هو سقوط السبب الأخير بأكمله من التفعيلة وتسكين الخامس المتحرك، فتصبح بذلك "مفاعلتن" " فعولن"..
لقد وظف الشاعر في قصيدته أسلوب الاستفهام أكثر من غيره وكأنه هو نفسه يسأل عن مصير هذا الحب وهل هو متبادل بينه وبين محبوبته.. ( وهل يتكلم.. وماذا يبتغون.. ومن لي أن أقول... ) بالإضافة إلى الاستفهامات الخفية التي تلقاها من الآخرين ( أرادوني على أني أبوح.. وأما إن سئلت هل اصطفتني..)، ويلاحظ أيضا وفرة توظيف الجمل الفعلية للدلالة على حركية هذا الحب ونشاطه الذي لا يخبو ولا يبور ؛ وكأن الشاعر ينبض قلبه وروحه وكل ما فيه حبا، فلا يملك إلا أن يكرر ويعيد حرف الحب الأول بكل بيت شعري فقد جعله روي قصيدته، إضافة إلى تكرار المدود التي تطيل هذا الحب رغم قصر القصيدة ( أرادوني_ أبوح _ الجريح_ ماذا – يبتغون – فؤادي- فصيح – جوى – غرامي – صريح – أما – أريح.....) أما الضمائر فكان المتكلم المفرد طاغيا إذ هو الذي يدور في حلقة الحب..
إن شاعرنا هنا لم يكن مخادعا أو مراوغا بل كان صريحا صادقا وذاك شرف الهوى كما جاء على لسانه.. إنه باح ولم يسكت ولم يكتم مشاعره مع أن محاولته الكتمان كانت بادية ؛ فبين الصمت والبوح الصريح ولدت فصاحة الهوى الفسيح.
وإليكم القصيدة:
من منا لم يعرف "أحمد رامي"؟ الشاعر المصري ذو الأصل التركي الذي ارتبط اسمه بأغاني أم كلثوم...
أختار له الآن قصيدته " نعم أهوى" التي لم تغنيها أم كلثوم بل أداها من أدى " راحلة".. نعم ؛ هو نفسه صاحب الصوت الشجي؛ عندليب المغرب، خاصة عندما يرافق صوته موسيقى رنانة ؛عذبة ولحنا خالصا كلحن الطبيعة . إن لألحان "عبد السلام عامر" ألق متميز.
"أرادوني على أني أبوح" هكذا بعد النبض الموسيقي تأتي أولى الكلمات، فالشاعر يخبر المتلقي بأنهم أرادوه أن يبوح بشيء ما، ولكنه لم يخبرنا من هؤلاء الذين أرادوا منه البوح، فنتصور أن كل من يعرفه يريده أن يفصح عن شيء معين، لم يقل شاعرنا:" أرادوني على أني أقول" بل اختار " البوح" لما يظهر ويكشف من أسرار، ثم يتساءل بعد ذلك " وهل يتكلم القلب الجريح؟" كأنه يقول لنا: " لو لم يكن القلب جريحا لتحدث" فهو هنا استعار الكلام للقلب، وجعل الاستعارة مكنية بحذفه للمستعار منه الذي هو الإنسان فاستعار صفة من صفاته التي هي " الكلام"، للقلب (المستعار له).. أما البيت الثاني فقد عطفه على الأول ب"واو" أتبعه بآخر كلامِه استفهاما أيضا.. وهو يتساءل ما الذي يريده ويطلبه هؤلاء؟ ثم اختار لفظة " الفؤاد" لما تحمله من توقد القلب والذهن معا، مما يدل على انشغال القلب والعقل، فما الذي في فؤاده؟ يقول إن به جوى، وكان بإمكانه أن يقول " هوى" لكن الجوى أوقع في النفس فهو شدة العشق وما يورثه من حزن بينما الهوى هو أقل من ذلك درجة، ليستعير من جديد صفتين إنسانيتين للدمع معتبرا أنه هو ما فضح جواه "أفضى به الدمع" وما كشفه الدمع لهم كان فصيحا مبينا حيث وصف "رامي" الدمع بالفصيح. وإذن؛ وبعدما فضحه دمعه ها هو يعترف " نعم أهوى" ثم ينفي أنه يخفي غرامه، ذلك أن شرف الهوى أن يكون صاحبه صريحا، وفي البيت الرابع يقول: " وأما إن سئلت هل اصطفتني" ومن جديد ينتقي شاعرنا ألفاظه انتقاء، فنلاحظ أنه لم يقل: "اختارتني" إذ إن الاصطفاء يعني أن تختار بين متشابهات بينما الاختيار هو أن تختار بين غير متشابهات؛ ويخبرنا أنه عندما سئل إن كانت قد اصطفته فإنه يسكت ولا يجد جوابا فما استراح هو، وما تمكن من إراحة الآخرين ؛ ثم يتساءل إن كانت هي قد تعلقت به فصفا الهوى بينهما مع أن قلب الغانيات واسع يشمل أحبة كثيرين، فنلاحظ أيضا أنه لم يقل الجواري أو النساء أو غير ذلك من الكلمات، وإنما اختار لفظة الغانيات، وفي ذلك إيحاء بالجمال الذي تتصف به المرأة التي يقال عنها غانية إذ هي تستغني عن الزينة لأنها لا تحتاجها كي تبرز بها جمالها...أما عند لقائهما فيعتزلان كل ما يمكن أن يكون بينهما من سر الحب، ومن شدة حبه ومشاعره الجياشة تجاه حبيبته فهو يجد نفسه يلمس حبها الذي يلوح حوله، مع أنه يدرك أن كثيرين هم من يزدحمون حول حبها ولعلها حينها تهتم بهم أو يبدو له ذلك من غيرته فيشعر بكبده وقد قرح...
هو حب جميل عفيف هذا الذي نظمه شعرا أحمد رامي، فأصاب برميته الهدف لدى عبد السلام عامر و محمد الحياني، ركب الشاعر وفرة الكلمة ببحر الوافر، ولم تكن به علل إلا العصب وهو تسكين الخامس المتحرك من التفعيلة "مفاعلَتن" " مفاعلْتن" فالوافر بحر أحادي التفعيلة لكن يصيب عروضه وضربه " القصف" الذي هو سقوط السبب الأخير بأكمله من التفعيلة وتسكين الخامس المتحرك، فتصبح بذلك "مفاعلتن" " فعولن"..
لقد وظف الشاعر في قصيدته أسلوب الاستفهام أكثر من غيره وكأنه هو نفسه يسأل عن مصير هذا الحب وهل هو متبادل بينه وبين محبوبته.. ( وهل يتكلم.. وماذا يبتغون.. ومن لي أن أقول... ) بالإضافة إلى الاستفهامات الخفية التي تلقاها من الآخرين ( أرادوني على أني أبوح.. وأما إن سئلت هل اصطفتني..)، ويلاحظ أيضا وفرة توظيف الجمل الفعلية للدلالة على حركية هذا الحب ونشاطه الذي لا يخبو ولا يبور ؛ وكأن الشاعر ينبض قلبه وروحه وكل ما فيه حبا، فلا يملك إلا أن يكرر ويعيد حرف الحب الأول بكل بيت شعري فقد جعله روي قصيدته، إضافة إلى تكرار المدود التي تطيل هذا الحب رغم قصر القصيدة ( أرادوني_ أبوح _ الجريح_ ماذا – يبتغون – فؤادي- فصيح – جوى – غرامي – صريح – أما – أريح.....) أما الضمائر فكان المتكلم المفرد طاغيا إذ هو الذي يدور في حلقة الحب..
إن شاعرنا هنا لم يكن مخادعا أو مراوغا بل كان صريحا صادقا وذاك شرف الهوى كما جاء على لسانه.. إنه باح ولم يسكت ولم يكتم مشاعره مع أن محاولته الكتمان كانت بادية ؛ فبين الصمت والبوح الصريح ولدت فصاحة الهوى الفسيح.
وإليكم القصيدة:
أرادوني على أني أبوح ......وهل يتكلم القلب الجريح
وماذا يبتغون وفي فؤادي.... جوى أفضى به الدمع الفصيح
نعم أهوى ولا أخفي غرامي .....ومن شرف الهوى أني صريح
وأما إن سألت هل اصطفتني ......سكت فما استرحت وما أريح
ومن لي أن أقول صفا هوانا..... وقلب الغانيات مدى فسيح
تلاقيني وتخلص بي نفسي..... وألمس حبها فيما يلوح
وتزدحم القلوب على هواها..... وتنكرني ولي كبد قريح
وماذا يبتغون وفي فؤادي.... جوى أفضى به الدمع الفصيح
نعم أهوى ولا أخفي غرامي .....ومن شرف الهوى أني صريح
وأما إن سألت هل اصطفتني ......سكت فما استرحت وما أريح
ومن لي أن أقول صفا هوانا..... وقلب الغانيات مدى فسيح
تلاقيني وتخلص بي نفسي..... وألمس حبها فيما يلوح
وتزدحم القلوب على هواها..... وتنكرني ولي كبد قريح