(ليس الزمنُ ما يهبنا فرصةً للحياةِ، بل أنْ نحيا هم ما يَهَبُ الحياةَ)
الشاعر والروائي المارتينيكي: باتْريكْ شامْوازو
لم تكن سمائي الأولى تخلو من غيوم سوداءَ وأكدارٍ، ولكنها لم تكن تخلو ـ أيضا ـ من أنوار وأنداء وأفراحٍ تطرد الأحزانَ، وتزيح الظلماتِ والأوزار. ولئن كانت الأحزانُ والشقاواتُ تتَّسِم، في الغالب، بالإقامة و«العود الأبدي»، ففي الانفراجات العابرة، والمسرات المؤقتة، و« السعادة» الزائرة، ما يخفف من وطأة السواد المكتنف، والرماد المزدلف. وإذا كان الفحم الحجري ضوءا ودفئاً، ومصدر خبز وحياة من جهة، فإنه شر ووبال وويلٌ من جهة أخرى. فهو ما طوَّحَ بأعمار آباء وإخوان وأعمام وأخوال وجيران لنا في شرخ صباهم، ونوارة شبابهم، ولوز كهولتهم. وزَرَعَ دَرَناً عضالا في رئات العمال، يسمى طبيا بـ «السيليكوز»، اصطحب من بقي منهم على قيد العذاب، والضيق التنفسي، والربو الخانق سنوات قلت أو كثرت، لكنها سنواتٌ مشبعةٌ بالموت المهدد كل حين، والسعال الدامي الذي ألفناه وتعودناه كما ألِفَهُ الليل البهيم.. الليل البارد المقرور حين يَنْشَقُّ ركوده وهدوءه المخيف بسبب من تواتر وتزايد السعال الصائت أوالمتحشرج الجاف هنا وهناك. سعال عذَّبَ وأقلقَ، وكتب فصولا دامية درامية على ألواح المعيش البائس، واليومي الهاجع بين أنياب الموت الباطش.
سمائي الأولى هي هذه: هي فدّانْ الجْملْ.. هي جرادة مَرْبَعي ونعيمي ومضجعي ومشفاي، ومجاليْ تعاستي ورضايَ. سماءٌ تغيم لتمطر ضفادعَ وعناكبَ وحيّاتٍ، وخفافيشَ في كوابيسي، أو تمطرَ برْقوقا ومِشْمشاً وتفاحا، وأرغفة ساخنة، وموائد مزدانة ومزدهية في أحلامي. أيْ ما ظل يرعبني، وما كان يملؤني شَبَعاً ورُواءً ولو في سابحات و«فاجرات» الخيال.
ولم تكن البهجة التي تحملها الفرجة والحلقة، والسيرك، والأعياد الدينية والوطنية، والعطل المدرسية، وانخراطي في سلك البائعين لفاكهة ساسْنو والبلوط، وأحجار الفحم الحجري الرفيعة (لَبْلوقْ)، وبيع الأثواب والأواني والمواعين كمستخدم متطوع لدى التجار، لقاءَ دريهمات أيام الآحاد التي تصادف إقامة السوق الأسبوعي؛ لم تكن تلك البهجة المجلوبة بغائبة، ولا بمُقَزَّمَةٍ، ولا بمُرَنَّقَة بأنباء الموتى الشهداء، موتانا من العمال غِبَّ انهيار جبل من الفحم بأحشاء المنجم على حين غرّة أثناء الحفر لاستخراج الشَّرْبونْ، وانتقاء (الأونتراسيتْ)، وعقب انحراف فجائي لقاطرة بدائية محملة بالفحم والعمال التي تنحدر بحمولتها إلى المهاوي.. إلى أعماق الجحيم مقدار 400 م أربعمائة متر أو يزيد.
كأننا تعايشنا مع الموت، وتعودنا عليه. وكأن ما يتناقله آباؤنا من أنباء عن الانهيارات المتتالية، والرُّدَم المَهُولَة بداخل المناجم والآبار، أو انتقال المصابين بدَرَن ومرض « السّيليكوزْ» الرئوي القاتل، إلى الرفيق الأعلى عبر توالي الأيام والأسابيع والشهور، جعلنا نسلم أمرنا لله، وكأن الأمر قَدَراً مقدوراً، وأجلا محتوماً حلَّ، وما علينا إلا أن نبتهل إلى المولى لتخفيف وتلطيف البلاء، والدعاء لموتانا بالرحمة والمغفرة والرضوان.
هكذا ـ وعلى رغم المآسي والأوجاع ـ يزورنا الفرح، ويتسلل إلى قلوبنا وأعيننا وألسنتنا فينسينا ما نحن فهي من كرب وأسى، وأذى يومي. ويمسح بحنُوٍّ دموع أمهاتنا ـ أراملَ أو منتظراتٍ ـ فيُمْسين الليالي التي تسبق الأعياد، مُشَمّراتٍ، قَنوعاتٍ، مُفْعماتٍ أملا وحماسا لا أعرف من أين يأتين به. بل، ومردداتٍ مقاطع من أهازيجَ وأغنيات شعبية محلية أو مغربية (سرّابات)، وهن يقلبن العجائن بين أيديهن ببراعة وخبرة توارثناها، ومهارة اكتسبناها ليصنعن إسفنجاً ذهبياً ذا جاذبية للغد الموالي، أو رقائقَ شهيةً منقوعةً في الزبدة والعسل، أو كعكا «جزائريا / وَجْديا» شبيها بـ «الهلاليات» لكنه يربو عليهن لذةً وطَعْما، ونكهة ورائحة.
وكان من عادات تلك الأيام ـ سقاها لله ـ أن يتم تبادل الطبيخ والرقائق المرشوشة، والإسفنج الذهبي، بين الجيران في جو أخوي دافيء تغمره الفرحة والسعادة اللتان غابتا زمنا، واللتان تنزلان علينا ـ نحن الأطفالَ ـ بردا وسلاما، وحبوراً ووئاما، فنقبل هذه الأم أو تلك، ونرتمي في أحضان أخريات، ونظهر لهن استعدادنا لتلبية طلباتهن، وجلب ما يُرِدْنَه من الحوانيت القريبة والبعيدة. فالتزاور والتساند والتكافل في الأعياد وفي الأفراح كالعقيقة والختان، والأعراس، وكذا في الأتراح كالموت، وعشاء الميت، وأربعينيته، كان شيئا مُسَلَّما به، أمراً ساريا، تعاقدا اجتماعيا تلقائيا، وخدمة « دينية«، و«عائلية» كبيرة، وإنسانية لا مناص منها. والويل لمن تخلى أو أبَى واستكبر فمصيره الإبعاد والإهمال والتوبيخ والتقريع.
في هذه الأجواء: تحت سمائي الأولى الصفراء من أدخنة ونَفْث أنفاس مريضة، البيضاء من صفاء زائر، وبهجة طائرة، والسوداء من أكدار وأوزار واستغلال للإنسان، للعامل في المناجم، وشقاء، نشأت جائعا وشبعانَ، مُرْتويا وظمآنَ، فرْحانَ وحزْنانَ. سعيدا وشقيا، مؤمنا ومُرْتابا. قانعا ومتسائلا، عائما في بحر المرارات، وطافيا على سطح المسرات. ثم غائصا في أعماقي، ناظرا بعين لا ترمش إلى أبي، وآباء أقراني، وزملائي، الذين يشقون كما لم يَشْقَ أحد مثلهم، ويصابرون ويرابطون برضا خرافي أيوبي، ولا يشكون لأحد ضَنكاً ولا وَعْثاءَ، ولا قلة يد وحيلة. وكانوا يدركون أنهم مستغلون إلى العظم، وأن اجورهم أزهدُ مما يتصور، وأنأى من أن تشبعهم من جوع ذلك الشبع الحقيقي، وترويهم من ظمإ، الارتواءَ الكامل الذي لا تشوبه شائبة، ولا تعتريه الأوساخ، وتنتابه القاذورات والفطريات.
في هذه الأجواء، نشأتُ وترعرعتُ، وطفُلْتُ، ونُسْتُ كنواس بنْدولٍ منفلت بين الشك واليقين، والتّبْر والطين، والحوت واليقطين، وبين العسل والغِسْلين. وتأرجحت بين اللعب والأدب، والعلم والعمل، بين أن أشق لي طريقا بأسناني، أو يشقني وضعي الاجتماعي المفروض المرفوض. إنها الثنائيات / الضديات اللاتي منهن قبست العيش اليومي، والحياة الشخصية، والاستمرار في تشَكُّلي وتَبَنْيُني، وسعيي إلى تجذير وجودي، وترسيخ عزمي قُدُماً وأماما من أجل احتياز مكان، ركن، وضعٍ ما أكون جديرا به، ويكون جديرا بي.
ثَمَّةَ ما يفضي إلى القول بأن الضد يتبعه الضد، وبضدها تتميز الأشياء ميكانيكيا أولا، وجدليا من بعد ذلك حتى ينقشع الغمام، ويتبدد الرماد، وتنشأ التركيبة التي لا تعني في نهاية المطاف سوى: أنا، أنايَ، وجودي، كينونتي، وما كنته، وما أصبحت عليه، وما أنا فيه.
وليس من شك في أن دم الأرض الأسود يجري ساخنا شاخبا في أوردتي، وشراييني، وعروقي، ووَتيني. وأن أنين عمالها المخطوفَ بين الحجارة والتراب، والرُّدَم في أغوار الجحيم، يسكنني، ويتخلل سعيي وترَحُّلاَتي، فيندس معذبا إياي في كتاباتي، وفي صحوي وذكرياتي.
بل أحمل معي في دمي، وفي كل خلايا بدني وروحي، جبلها الأسود (الرَّمْبلي)، الذي سوّاه وشيده وأعلاه تراكم الفحم الحجري، والذي أتنفسه منذ غادرتك، لأن به بَلَلاً لا يجف من عرق العمال الذين رحلوا إلى السماء، أو رحلوا إلى قراهم، وبلداتهم عائدين يحملون الجراح والندوب بعد أن أغلقت المناجم بقرار جائر، وسُدَّتْ، من ثَمَّ، في وجوههم، ووجوه أهلهم وأبنائهم، أبوابُ الرحمة والخير، والخبز الكفاف، أو بقوا حيث أنتِ، متشبتين بترابك، مسبحين بمائك وسمائك.
** إشــــــارات
سمائي الأولى: أقصد جرادة التي شهدت مسقط رأسي، ونشأتي، وطفولتي وصباي، وشبابي، قبل أن أبدل سماء بسماء.
وهي السماء الأثيرة من دون شك ولا تردد. ألم يقل أبو تمام:
نقِّلْ فؤادَكَ حيث شئتَ من الهوى /// ما الحب إلا للحبيب الأولِ
كم منزلٍ في الأرض يأْلَفَه الفتى /// وحنينُه أبداً لأول مــنـزلِ
وقال الشاعر الفرنسي فيلياسْ (1869 ـ 1958):
Le plus beau pays du monde /// c’est la terre ou’ je naquis
محمد بودويك
الشاعر والروائي المارتينيكي: باتْريكْ شامْوازو
لم تكن سمائي الأولى تخلو من غيوم سوداءَ وأكدارٍ، ولكنها لم تكن تخلو ـ أيضا ـ من أنوار وأنداء وأفراحٍ تطرد الأحزانَ، وتزيح الظلماتِ والأوزار. ولئن كانت الأحزانُ والشقاواتُ تتَّسِم، في الغالب، بالإقامة و«العود الأبدي»، ففي الانفراجات العابرة، والمسرات المؤقتة، و« السعادة» الزائرة، ما يخفف من وطأة السواد المكتنف، والرماد المزدلف. وإذا كان الفحم الحجري ضوءا ودفئاً، ومصدر خبز وحياة من جهة، فإنه شر ووبال وويلٌ من جهة أخرى. فهو ما طوَّحَ بأعمار آباء وإخوان وأعمام وأخوال وجيران لنا في شرخ صباهم، ونوارة شبابهم، ولوز كهولتهم. وزَرَعَ دَرَناً عضالا في رئات العمال، يسمى طبيا بـ «السيليكوز»، اصطحب من بقي منهم على قيد العذاب، والضيق التنفسي، والربو الخانق سنوات قلت أو كثرت، لكنها سنواتٌ مشبعةٌ بالموت المهدد كل حين، والسعال الدامي الذي ألفناه وتعودناه كما ألِفَهُ الليل البهيم.. الليل البارد المقرور حين يَنْشَقُّ ركوده وهدوءه المخيف بسبب من تواتر وتزايد السعال الصائت أوالمتحشرج الجاف هنا وهناك. سعال عذَّبَ وأقلقَ، وكتب فصولا دامية درامية على ألواح المعيش البائس، واليومي الهاجع بين أنياب الموت الباطش.
سمائي الأولى هي هذه: هي فدّانْ الجْملْ.. هي جرادة مَرْبَعي ونعيمي ومضجعي ومشفاي، ومجاليْ تعاستي ورضايَ. سماءٌ تغيم لتمطر ضفادعَ وعناكبَ وحيّاتٍ، وخفافيشَ في كوابيسي، أو تمطرَ برْقوقا ومِشْمشاً وتفاحا، وأرغفة ساخنة، وموائد مزدانة ومزدهية في أحلامي. أيْ ما ظل يرعبني، وما كان يملؤني شَبَعاً ورُواءً ولو في سابحات و«فاجرات» الخيال.
ولم تكن البهجة التي تحملها الفرجة والحلقة، والسيرك، والأعياد الدينية والوطنية، والعطل المدرسية، وانخراطي في سلك البائعين لفاكهة ساسْنو والبلوط، وأحجار الفحم الحجري الرفيعة (لَبْلوقْ)، وبيع الأثواب والأواني والمواعين كمستخدم متطوع لدى التجار، لقاءَ دريهمات أيام الآحاد التي تصادف إقامة السوق الأسبوعي؛ لم تكن تلك البهجة المجلوبة بغائبة، ولا بمُقَزَّمَةٍ، ولا بمُرَنَّقَة بأنباء الموتى الشهداء، موتانا من العمال غِبَّ انهيار جبل من الفحم بأحشاء المنجم على حين غرّة أثناء الحفر لاستخراج الشَّرْبونْ، وانتقاء (الأونتراسيتْ)، وعقب انحراف فجائي لقاطرة بدائية محملة بالفحم والعمال التي تنحدر بحمولتها إلى المهاوي.. إلى أعماق الجحيم مقدار 400 م أربعمائة متر أو يزيد.
كأننا تعايشنا مع الموت، وتعودنا عليه. وكأن ما يتناقله آباؤنا من أنباء عن الانهيارات المتتالية، والرُّدَم المَهُولَة بداخل المناجم والآبار، أو انتقال المصابين بدَرَن ومرض « السّيليكوزْ» الرئوي القاتل، إلى الرفيق الأعلى عبر توالي الأيام والأسابيع والشهور، جعلنا نسلم أمرنا لله، وكأن الأمر قَدَراً مقدوراً، وأجلا محتوماً حلَّ، وما علينا إلا أن نبتهل إلى المولى لتخفيف وتلطيف البلاء، والدعاء لموتانا بالرحمة والمغفرة والرضوان.
هكذا ـ وعلى رغم المآسي والأوجاع ـ يزورنا الفرح، ويتسلل إلى قلوبنا وأعيننا وألسنتنا فينسينا ما نحن فهي من كرب وأسى، وأذى يومي. ويمسح بحنُوٍّ دموع أمهاتنا ـ أراملَ أو منتظراتٍ ـ فيُمْسين الليالي التي تسبق الأعياد، مُشَمّراتٍ، قَنوعاتٍ، مُفْعماتٍ أملا وحماسا لا أعرف من أين يأتين به. بل، ومردداتٍ مقاطع من أهازيجَ وأغنيات شعبية محلية أو مغربية (سرّابات)، وهن يقلبن العجائن بين أيديهن ببراعة وخبرة توارثناها، ومهارة اكتسبناها ليصنعن إسفنجاً ذهبياً ذا جاذبية للغد الموالي، أو رقائقَ شهيةً منقوعةً في الزبدة والعسل، أو كعكا «جزائريا / وَجْديا» شبيها بـ «الهلاليات» لكنه يربو عليهن لذةً وطَعْما، ونكهة ورائحة.
وكان من عادات تلك الأيام ـ سقاها لله ـ أن يتم تبادل الطبيخ والرقائق المرشوشة، والإسفنج الذهبي، بين الجيران في جو أخوي دافيء تغمره الفرحة والسعادة اللتان غابتا زمنا، واللتان تنزلان علينا ـ نحن الأطفالَ ـ بردا وسلاما، وحبوراً ووئاما، فنقبل هذه الأم أو تلك، ونرتمي في أحضان أخريات، ونظهر لهن استعدادنا لتلبية طلباتهن، وجلب ما يُرِدْنَه من الحوانيت القريبة والبعيدة. فالتزاور والتساند والتكافل في الأعياد وفي الأفراح كالعقيقة والختان، والأعراس، وكذا في الأتراح كالموت، وعشاء الميت، وأربعينيته، كان شيئا مُسَلَّما به، أمراً ساريا، تعاقدا اجتماعيا تلقائيا، وخدمة « دينية«، و«عائلية» كبيرة، وإنسانية لا مناص منها. والويل لمن تخلى أو أبَى واستكبر فمصيره الإبعاد والإهمال والتوبيخ والتقريع.
في هذه الأجواء: تحت سمائي الأولى الصفراء من أدخنة ونَفْث أنفاس مريضة، البيضاء من صفاء زائر، وبهجة طائرة، والسوداء من أكدار وأوزار واستغلال للإنسان، للعامل في المناجم، وشقاء، نشأت جائعا وشبعانَ، مُرْتويا وظمآنَ، فرْحانَ وحزْنانَ. سعيدا وشقيا، مؤمنا ومُرْتابا. قانعا ومتسائلا، عائما في بحر المرارات، وطافيا على سطح المسرات. ثم غائصا في أعماقي، ناظرا بعين لا ترمش إلى أبي، وآباء أقراني، وزملائي، الذين يشقون كما لم يَشْقَ أحد مثلهم، ويصابرون ويرابطون برضا خرافي أيوبي، ولا يشكون لأحد ضَنكاً ولا وَعْثاءَ، ولا قلة يد وحيلة. وكانوا يدركون أنهم مستغلون إلى العظم، وأن اجورهم أزهدُ مما يتصور، وأنأى من أن تشبعهم من جوع ذلك الشبع الحقيقي، وترويهم من ظمإ، الارتواءَ الكامل الذي لا تشوبه شائبة، ولا تعتريه الأوساخ، وتنتابه القاذورات والفطريات.
في هذه الأجواء، نشأتُ وترعرعتُ، وطفُلْتُ، ونُسْتُ كنواس بنْدولٍ منفلت بين الشك واليقين، والتّبْر والطين، والحوت واليقطين، وبين العسل والغِسْلين. وتأرجحت بين اللعب والأدب، والعلم والعمل، بين أن أشق لي طريقا بأسناني، أو يشقني وضعي الاجتماعي المفروض المرفوض. إنها الثنائيات / الضديات اللاتي منهن قبست العيش اليومي، والحياة الشخصية، والاستمرار في تشَكُّلي وتَبَنْيُني، وسعيي إلى تجذير وجودي، وترسيخ عزمي قُدُماً وأماما من أجل احتياز مكان، ركن، وضعٍ ما أكون جديرا به، ويكون جديرا بي.
ثَمَّةَ ما يفضي إلى القول بأن الضد يتبعه الضد، وبضدها تتميز الأشياء ميكانيكيا أولا، وجدليا من بعد ذلك حتى ينقشع الغمام، ويتبدد الرماد، وتنشأ التركيبة التي لا تعني في نهاية المطاف سوى: أنا، أنايَ، وجودي، كينونتي، وما كنته، وما أصبحت عليه، وما أنا فيه.
وليس من شك في أن دم الأرض الأسود يجري ساخنا شاخبا في أوردتي، وشراييني، وعروقي، ووَتيني. وأن أنين عمالها المخطوفَ بين الحجارة والتراب، والرُّدَم في أغوار الجحيم، يسكنني، ويتخلل سعيي وترَحُّلاَتي، فيندس معذبا إياي في كتاباتي، وفي صحوي وذكرياتي.
بل أحمل معي في دمي، وفي كل خلايا بدني وروحي، جبلها الأسود (الرَّمْبلي)، الذي سوّاه وشيده وأعلاه تراكم الفحم الحجري، والذي أتنفسه منذ غادرتك، لأن به بَلَلاً لا يجف من عرق العمال الذين رحلوا إلى السماء، أو رحلوا إلى قراهم، وبلداتهم عائدين يحملون الجراح والندوب بعد أن أغلقت المناجم بقرار جائر، وسُدَّتْ، من ثَمَّ، في وجوههم، ووجوه أهلهم وأبنائهم، أبوابُ الرحمة والخير، والخبز الكفاف، أو بقوا حيث أنتِ، متشبتين بترابك، مسبحين بمائك وسمائك.
** إشــــــارات
سمائي الأولى: أقصد جرادة التي شهدت مسقط رأسي، ونشأتي، وطفولتي وصباي، وشبابي، قبل أن أبدل سماء بسماء.
وهي السماء الأثيرة من دون شك ولا تردد. ألم يقل أبو تمام:
نقِّلْ فؤادَكَ حيث شئتَ من الهوى /// ما الحب إلا للحبيب الأولِ
كم منزلٍ في الأرض يأْلَفَه الفتى /// وحنينُه أبداً لأول مــنـزلِ
وقال الشاعر الفرنسي فيلياسْ (1869 ـ 1958):
Le plus beau pays du monde /// c’est la terre ou’ je naquis
محمد بودويك
نبضات : ســـمــائـــــي الأولـــــى - AL ITIHAD
(ليس الزمنُ ما يهبنا فرصةً للحياةِ، بل أنْ نحيا هم ما يَهَبُ الحياةَ) الشاعر والروائي المارتينيكي: باتْريكْ شامْوازو لم
alittihad.info