تبرز في بعض الأحيان معاني غير مقصودة بين الكاتب/المتحدث والقارئ/المتلقي بحكم المسافة بين الفهم والتأويل. في ندوة "لكم" قبل أيام، ذكرت أني “تعلمت في تسوية النزاعات لإيجاد الحلول أن نبحث عن “deep-rooted causes" أي الأسباب الجذرية وأن لا تكون لنا قراءة على مستوى القشور، وعلى مستوى السطح، وأن تكون لنا قراءة تبحث عن تلك الجذور”.
أحد المتابعين أسقط على هذه العبارة تأويلا بعيدا كل البعد عن فحوى ما قصدت، إذ قال "والله الأستاذ الجليل حين يقول قراءات سطحية تراه يقصدنا جميعا." لا يسرني هذا الإسقاط التأويلي التعسفي لسببين: أولهما أن عبارتي لم تشمل أي مقارنة ضمنية، وثانيهما أن تبخيس عمل الغير ليس من شيمي العلمية ولا يخطر في نوايايا ناهيك عن كتاباتي، وأؤمن أن تقدير الغير أولى أبجديات التعلّم والاجتهاد في أي مجال معرفي.
أصل العبارة مستمد كما قلت في أولها "تعلمت في تسوية النزاعات..." من علم متعدد التخصصات وعابر الحدود بين شتى العلوم الاجتماعية، من الانثروبولوجيا، وعلم الاجتماع السياسي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم السياسة، والعلاقات الدولية، إلى الاجتهادات الفرعية مثل تحليل السرديات والتحليل النقدي للخطاب وغيرهما.
يركز علم السياسة أساسا على دراسة الدولة والمؤسسات المتصلة التي تكرس القوة والقانون من زاوية بنيوية رئيسية. ويتوخى علم الاجتماع السياسي تحليل تأثير البنيات السياسية والاقتصادية وبقية تراتبية الحكم والقوة في يد الدولة، وهو أيضا يعتمد الطرح البنيوي أكثر من رؤية المجموعات البشرية أو الفرد.
أما علم النفس الاجتماعي فيكرس الاهتمام بعلاقة الفرد مع بقية المجموعة البشرية، ولا يغوص بالضرورة في تفكيك مدى التأثيرات البنيوية القادمة من القمة نحو القاعدة. ويمكن استعراض بقية العلوم الاجتماعية التي لا تحقق التوازن في دراسة البنية والفرد معا ضمن دائرة التفاعلات عند قيام خلافات أو أزمات أو نزاعات أو صراعات.
يتوخى علم تسوية أو فض النزاعات تحقيق توازن في التحليل لمجمل العلاقات المتشابكة بين البنية والفرد (من الأعلى إلى الأسفل) والفرد والبنية (من الأسفل إلى الأعلى). ويقوم على مرحلتين أساسيتين: مرحلة التحليل أو تشخيص الأسباب العميقة وكل روافد النزاع التي لا تكون واضحة عند الرؤية، ومرحلة تصميم استراتيجة للتدخل إما بالوساطة أو التحكيم أو تقديم وصفة للإصلاحات التي يمكن أن تساعد في تصحيح الانطباعات وترميم العلاقات.
وبين المدرسة الكلاسيكية لعلم فض النزاعات وتطوره إلى ما يمكن أن يمنحه بعدا أكثر علمية، وهي بالطبع علمية نسبية ضمن اجتهادي ببلورة مفهوم صراعلوجيا، ثمة تباين في مكانة دراسات الصراعات وبناء السلام بين المدرستين الانجلوساكسونية والفرنكفونية. في الولايات المتحدة وبريطانيا كليات وأقسام متخصصة في تسوية النزاعات dispute resolution وتسوية الصراعات Conflict resolution ودراسات الصراع والسلام conflict and peace studies، عقب تأسيس أول مركز للدراسات العليا متخصص في الصراعات عام 1981 في جامعة جورج ميسن في واشنطن.
لم يحدث هذا التطور بعد في الجامعات الفرنكوفونية في فرنسا وبلجيكا وسويسرا بالنظر إلى استمرار هيمنة الرؤية البنيوية وبقاء دراسات الصراع تحت عباءة علم السياسة والعلاقات الدولية. وتشهد كليات الحقوق في الجامعات العربية وضعا مماثلا بالتركيز على علم السياسة والقانون الدولي أساسا (وإن كانت جامعات المغرب تحتشي من تلك التسمية منذ الثمانيات تحت غطاء "قانون عام".)
حاليا في زمن الحركات الاجتماعية والفاعلين غير الدولتيين وما يفرضه الشارع والمجال العام ومنصات التواصل، هل حان الوقت للتفكير والبحث خارج هيمنة الرؤية البنيوية في تخصصاتنا العلمية؟!
د. محمد الشرقاوي
www.facebook.com
أحد المتابعين أسقط على هذه العبارة تأويلا بعيدا كل البعد عن فحوى ما قصدت، إذ قال "والله الأستاذ الجليل حين يقول قراءات سطحية تراه يقصدنا جميعا." لا يسرني هذا الإسقاط التأويلي التعسفي لسببين: أولهما أن عبارتي لم تشمل أي مقارنة ضمنية، وثانيهما أن تبخيس عمل الغير ليس من شيمي العلمية ولا يخطر في نوايايا ناهيك عن كتاباتي، وأؤمن أن تقدير الغير أولى أبجديات التعلّم والاجتهاد في أي مجال معرفي.
أصل العبارة مستمد كما قلت في أولها "تعلمت في تسوية النزاعات..." من علم متعدد التخصصات وعابر الحدود بين شتى العلوم الاجتماعية، من الانثروبولوجيا، وعلم الاجتماع السياسي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم السياسة، والعلاقات الدولية، إلى الاجتهادات الفرعية مثل تحليل السرديات والتحليل النقدي للخطاب وغيرهما.
يركز علم السياسة أساسا على دراسة الدولة والمؤسسات المتصلة التي تكرس القوة والقانون من زاوية بنيوية رئيسية. ويتوخى علم الاجتماع السياسي تحليل تأثير البنيات السياسية والاقتصادية وبقية تراتبية الحكم والقوة في يد الدولة، وهو أيضا يعتمد الطرح البنيوي أكثر من رؤية المجموعات البشرية أو الفرد.
أما علم النفس الاجتماعي فيكرس الاهتمام بعلاقة الفرد مع بقية المجموعة البشرية، ولا يغوص بالضرورة في تفكيك مدى التأثيرات البنيوية القادمة من القمة نحو القاعدة. ويمكن استعراض بقية العلوم الاجتماعية التي لا تحقق التوازن في دراسة البنية والفرد معا ضمن دائرة التفاعلات عند قيام خلافات أو أزمات أو نزاعات أو صراعات.
يتوخى علم تسوية أو فض النزاعات تحقيق توازن في التحليل لمجمل العلاقات المتشابكة بين البنية والفرد (من الأعلى إلى الأسفل) والفرد والبنية (من الأسفل إلى الأعلى). ويقوم على مرحلتين أساسيتين: مرحلة التحليل أو تشخيص الأسباب العميقة وكل روافد النزاع التي لا تكون واضحة عند الرؤية، ومرحلة تصميم استراتيجة للتدخل إما بالوساطة أو التحكيم أو تقديم وصفة للإصلاحات التي يمكن أن تساعد في تصحيح الانطباعات وترميم العلاقات.
وبين المدرسة الكلاسيكية لعلم فض النزاعات وتطوره إلى ما يمكن أن يمنحه بعدا أكثر علمية، وهي بالطبع علمية نسبية ضمن اجتهادي ببلورة مفهوم صراعلوجيا، ثمة تباين في مكانة دراسات الصراعات وبناء السلام بين المدرستين الانجلوساكسونية والفرنكفونية. في الولايات المتحدة وبريطانيا كليات وأقسام متخصصة في تسوية النزاعات dispute resolution وتسوية الصراعات Conflict resolution ودراسات الصراع والسلام conflict and peace studies، عقب تأسيس أول مركز للدراسات العليا متخصص في الصراعات عام 1981 في جامعة جورج ميسن في واشنطن.
لم يحدث هذا التطور بعد في الجامعات الفرنكوفونية في فرنسا وبلجيكا وسويسرا بالنظر إلى استمرار هيمنة الرؤية البنيوية وبقاء دراسات الصراع تحت عباءة علم السياسة والعلاقات الدولية. وتشهد كليات الحقوق في الجامعات العربية وضعا مماثلا بالتركيز على علم السياسة والقانون الدولي أساسا (وإن كانت جامعات المغرب تحتشي من تلك التسمية منذ الثمانيات تحت غطاء "قانون عام".)
حاليا في زمن الحركات الاجتماعية والفاعلين غير الدولتيين وما يفرضه الشارع والمجال العام ومنصات التواصل، هل حان الوقت للتفكير والبحث خارج هيمنة الرؤية البنيوية في تخصصاتنا العلمية؟!
د. محمد الشرقاوي
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.