بعد انتصاره على خصومه في 15 مايو 1971، قرر الرئيس الراحل محمد أنور السادات أن يلبس ثوبا مغايرا لمرحلة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، واختار لهذا الثوب شعار: الحرية والديمقراطية وهدم السجون وإلغاء المعتقلات.
تحت هذه الشعارات كان لابد أن تعود مصر إلى أسلوبها الذي تعودت عليه وهو إعلان مطالبها عن طريق الاحتجاجات الشعبية، فقامت في يناير 1972 مظاهرات طلابية أعادت إلى الأذهان صورة المظاهرات الوطنية المجيدة التي اجتاحت القاهرة في الأربعينيات، ضد الاحتلال الإنجليزي، وضد الفساد السياسي، وضد كل ما كان معاكسا للمصلحة الشعبية.
وكما كانت مظاهرات الأربعينيات من القرن الماضي قوامها طلبة جامعة فؤاد الأول، كانت مظاهرات 1972، من القرن نفسه، قوامها طلبة كل الجامعات وعلى رأسها، جامعة القاهرة وجامعة عين شمس، وتم تأييدها بعناصر وطنية من المثقفين والأدباء والشعراء.
في ذلك اليناير عام 1972 كنت في مناسك فريضة الحج، أطوف حول البيت الحرام وأنا أبتهل من جوامع قلبي ونفسي: «يا رب على الحاكم الظالم». لم أكن ساعتها على علم بمظاهرات الطلبة الاحتجاجية، لكنني كنت على علم بالظلم الذي وقع على قلمي بمنعي من النشر والتعبير من دون سبب واضح أو مسوغ منطقي، وكنت قد رأيت في إجراءات التنكيل بي دليلا فاضحا يكذب كل شعارات «الديمقراطية» و«الحرية» و«الأمان» التي رفعها السادات. بعد عودتي من أداء فريضة الحج، حاولت أن أستعيد حقي في النشر عن طريق تقديم مذكرات، وعن طريق مقابلات مع مسؤولين لم يكفوا عن بث غرامهم بالحرية والديمقراطية.. إلخ ـ منهم بالمناسبة دكتور أحمد كمال أبو المجد الذي تولى وزارة الإعلام في المرحلة الساداتية لفترة ـ وخاب مسعاي والوجوه كلها ساقعة مثلجة.
في 29 ديسمبر 1972 تم اعتقال مجموعة كبيرة من الكتاب والمحامين والمثقفين والشعراء، ولم يكن بنقابة الصحفيين إلا المؤيدين للنظام بالحق وبالباطل. في موقف أقرب إلى التعبير الشعري ساقتني قدماي للانضمام إلى اعتصام طلبة جامعة عين شمس في 3 يناير 1973. قلت للطلبة، إنني أؤيد مطالبهم بتحقيق شعارات حرية التعبير وحرية الرأي، ولأنني ممنوعة من النشر فليس أمامي سوى أن أكون بنفسي بينهم متضامنة مع مطالبهم لأنها مطالب كل الناس لمصلحة كل الأمة. رحبوا بي، وكان الجو نقيا، والإحساس صادقا، والنفوس طيبة. كنت في الخامسة والثلاثين وكانوا بين 19 و24 سنة، معظمهم من كليات الطب والآداب والحقوق والهندسة. طالبات نابهات مفوهات بليغات في التعبير عن الأزمات وآلام الوطن وطلبة مثلهم وإن غلبت على الجميع لمسات طريفة من ناتج البراءة والسذاجة والعفوية.
حين تم اقتحام الاعتصام الذي استمر حتى 11 يناير 1973 تحلق حولي الضباط للقبض علي بدعوى أنني الرأس الكبير الذي تزعم كتيبة الطلبة وأنني مندسة بين صفوفهم، وكانت هذه هي التهمة التي أكدتها تحريات المباحث ووجدتها أنا شرفا لا أدعيه، فالحقيقة أن الشباب الطلابي كانوا هم العقل والحركة واللسان، وكنت مبهورة بعنادهم وصلابتهم ولم يتعد دوري المساندة والرصد والإعجاب والفرح بأن مصر قد أنجبت مثل هذا الجيل المتأجج بالحماس والحيوية. أشياء كثيرة قالوها وحوادث كثيرة تتابعت ومفارقات عديدة أضحكتني وآلام شديدة أوجعتني.
بعد سنوات بلغت الثلاثين قام المحامي النبيل عادل أمين، الذي كان ضمن كتيبة دفاع وقفت بلا مقابل مادي تطالب لنا بإخلاء السبيل، بتجميع الوثائق الخاصة بالحركة الطلابية، بدأب وصبر وأمانة وأخرجها في مجلد من 632 صفحة، مبوبة ومنسقة مثل «ألبوم» لصور نحبها من أيام الشباب تحت عنوان: «انتفاضة الطلبة المصريين، 1972 – 1973، الجزء الأول، عادل أمين المحامي، القاهرة 2003، رقم الإيداع 14704 / 2002، طبع بالمكتب الفني».
معظم الأشياء التي وردت في تلك الوثائق كنت قد نسيتها تماما مثل ذلك البيان الذي أردت إرساله إلى نقابة الصحفيين تهريبا من سور جامعة عين شمس فصادره أحد ضباط مباحث أمن الدولة ليقدمه مع مستندات تحرياتهم عني التي تقول: «أصدرت بيانا يتضمن استنكارها لبيان نقابة الصحفيين الصادر في 29/12/1972، ووصفت هذا البيان بأنه لا يعبر عن الرأي الحر داخل نقابة الصحفيين، وأنها قررت الاعتصام مع طلبة جامعة عين شمس لإحساسها بالغربة والوحدة داخل نقابتها». وفي صفحة 57 من الوثائق التي قدمها الأستاذ عادل أمين وجدت، ويا للفرحة، نص بياني الذي كنت قد حسبته قد ضاع إلى الأبد، بعد أن ضاع تماما من ذاكرتي، وهو كالتالي: «بيان إلى نقابة الصحفيين رقم 2: في اليوم الخامس لاعتصامي تضامنا مع الاعتصام الطلابي بجامعة عين شمس، الذي انقضى عليه الآن سبعة أيام والذي يشكل استمراريته وصموده شكلا من أشكال الإرادة الرائعة والإصرار الجميل على المطلب الشعبي في تحقيق الديمقراطية وترسيخ مبدأ الممارسة الصادقة الفعلية لحرية الفكر والتعبير عن الرأي، أعلن تضامني مرة أخرى مع هذه الحركة الطلابية النزيهة أولا: بإدانة التشويه المتعمد لهذه الحركة الطلابية واحتجاجي الخارج من صميم الوجدان الشعبي على هذا التشويه الذي تشارك فيه بالدرجة الأولى الصحف المصرية كجزء من حملة إعلامية المقصود بها ضرب الحركة الطلابية لغير مصلحة شعبية. ثانيا: أعلن إضرابي عن الطعام بداية من يوم الاثنين الموافق 8/1/1973 تضامنا وتدعيما لقرار الإضراب عن الطعام الذي اتخذته المجموعة التي تمثل قوة الاعتصام الطلابي بجامعة عين شمس بقصر الزعفران حتى يتم الإفراج عن جميع المعتقلين الوطنيين الذين بدأت سلسلة اعتقالاتهم منذ يوم الجمعة 29/12/1972 والتي لا تزال جارية ومستمرة حتى الآن والمندرج بعضها تحت اسم قضية 902 لسنة 1972 حصر أمن دولة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. التوقيع: صافي ناز كاظم 7/1/1973».
الطريف في تلك الوثائق كان إصرار المباحث على تعريفي بـ«الماركسية»، ولم يكن قد مر على أدائي لفريضة الحج غير عام واحد، بينما لم تشر إلى حقيقة أي واحد ممن كانوا يفخرون بانتمائهم الماركسي والعلماني.
ومنذ ذلك التعريف المباحثي الأمني غير الصادق وغير الحقيقي، عن هويتي العقائدية، وأنا أواجه المصرين على تصديق «ادعاءات» المباحث وتكذيب «صدقي» في أنني لم أكن في أي لحظة من لحظات عمري ماركسية أبدا أبدا أبدا والله خير الشاهدين.
تحت هذه الشعارات كان لابد أن تعود مصر إلى أسلوبها الذي تعودت عليه وهو إعلان مطالبها عن طريق الاحتجاجات الشعبية، فقامت في يناير 1972 مظاهرات طلابية أعادت إلى الأذهان صورة المظاهرات الوطنية المجيدة التي اجتاحت القاهرة في الأربعينيات، ضد الاحتلال الإنجليزي، وضد الفساد السياسي، وضد كل ما كان معاكسا للمصلحة الشعبية.
وكما كانت مظاهرات الأربعينيات من القرن الماضي قوامها طلبة جامعة فؤاد الأول، كانت مظاهرات 1972، من القرن نفسه، قوامها طلبة كل الجامعات وعلى رأسها، جامعة القاهرة وجامعة عين شمس، وتم تأييدها بعناصر وطنية من المثقفين والأدباء والشعراء.
في ذلك اليناير عام 1972 كنت في مناسك فريضة الحج، أطوف حول البيت الحرام وأنا أبتهل من جوامع قلبي ونفسي: «يا رب على الحاكم الظالم». لم أكن ساعتها على علم بمظاهرات الطلبة الاحتجاجية، لكنني كنت على علم بالظلم الذي وقع على قلمي بمنعي من النشر والتعبير من دون سبب واضح أو مسوغ منطقي، وكنت قد رأيت في إجراءات التنكيل بي دليلا فاضحا يكذب كل شعارات «الديمقراطية» و«الحرية» و«الأمان» التي رفعها السادات. بعد عودتي من أداء فريضة الحج، حاولت أن أستعيد حقي في النشر عن طريق تقديم مذكرات، وعن طريق مقابلات مع مسؤولين لم يكفوا عن بث غرامهم بالحرية والديمقراطية.. إلخ ـ منهم بالمناسبة دكتور أحمد كمال أبو المجد الذي تولى وزارة الإعلام في المرحلة الساداتية لفترة ـ وخاب مسعاي والوجوه كلها ساقعة مثلجة.
في 29 ديسمبر 1972 تم اعتقال مجموعة كبيرة من الكتاب والمحامين والمثقفين والشعراء، ولم يكن بنقابة الصحفيين إلا المؤيدين للنظام بالحق وبالباطل. في موقف أقرب إلى التعبير الشعري ساقتني قدماي للانضمام إلى اعتصام طلبة جامعة عين شمس في 3 يناير 1973. قلت للطلبة، إنني أؤيد مطالبهم بتحقيق شعارات حرية التعبير وحرية الرأي، ولأنني ممنوعة من النشر فليس أمامي سوى أن أكون بنفسي بينهم متضامنة مع مطالبهم لأنها مطالب كل الناس لمصلحة كل الأمة. رحبوا بي، وكان الجو نقيا، والإحساس صادقا، والنفوس طيبة. كنت في الخامسة والثلاثين وكانوا بين 19 و24 سنة، معظمهم من كليات الطب والآداب والحقوق والهندسة. طالبات نابهات مفوهات بليغات في التعبير عن الأزمات وآلام الوطن وطلبة مثلهم وإن غلبت على الجميع لمسات طريفة من ناتج البراءة والسذاجة والعفوية.
حين تم اقتحام الاعتصام الذي استمر حتى 11 يناير 1973 تحلق حولي الضباط للقبض علي بدعوى أنني الرأس الكبير الذي تزعم كتيبة الطلبة وأنني مندسة بين صفوفهم، وكانت هذه هي التهمة التي أكدتها تحريات المباحث ووجدتها أنا شرفا لا أدعيه، فالحقيقة أن الشباب الطلابي كانوا هم العقل والحركة واللسان، وكنت مبهورة بعنادهم وصلابتهم ولم يتعد دوري المساندة والرصد والإعجاب والفرح بأن مصر قد أنجبت مثل هذا الجيل المتأجج بالحماس والحيوية. أشياء كثيرة قالوها وحوادث كثيرة تتابعت ومفارقات عديدة أضحكتني وآلام شديدة أوجعتني.
بعد سنوات بلغت الثلاثين قام المحامي النبيل عادل أمين، الذي كان ضمن كتيبة دفاع وقفت بلا مقابل مادي تطالب لنا بإخلاء السبيل، بتجميع الوثائق الخاصة بالحركة الطلابية، بدأب وصبر وأمانة وأخرجها في مجلد من 632 صفحة، مبوبة ومنسقة مثل «ألبوم» لصور نحبها من أيام الشباب تحت عنوان: «انتفاضة الطلبة المصريين، 1972 – 1973، الجزء الأول، عادل أمين المحامي، القاهرة 2003، رقم الإيداع 14704 / 2002، طبع بالمكتب الفني».
معظم الأشياء التي وردت في تلك الوثائق كنت قد نسيتها تماما مثل ذلك البيان الذي أردت إرساله إلى نقابة الصحفيين تهريبا من سور جامعة عين شمس فصادره أحد ضباط مباحث أمن الدولة ليقدمه مع مستندات تحرياتهم عني التي تقول: «أصدرت بيانا يتضمن استنكارها لبيان نقابة الصحفيين الصادر في 29/12/1972، ووصفت هذا البيان بأنه لا يعبر عن الرأي الحر داخل نقابة الصحفيين، وأنها قررت الاعتصام مع طلبة جامعة عين شمس لإحساسها بالغربة والوحدة داخل نقابتها». وفي صفحة 57 من الوثائق التي قدمها الأستاذ عادل أمين وجدت، ويا للفرحة، نص بياني الذي كنت قد حسبته قد ضاع إلى الأبد، بعد أن ضاع تماما من ذاكرتي، وهو كالتالي: «بيان إلى نقابة الصحفيين رقم 2: في اليوم الخامس لاعتصامي تضامنا مع الاعتصام الطلابي بجامعة عين شمس، الذي انقضى عليه الآن سبعة أيام والذي يشكل استمراريته وصموده شكلا من أشكال الإرادة الرائعة والإصرار الجميل على المطلب الشعبي في تحقيق الديمقراطية وترسيخ مبدأ الممارسة الصادقة الفعلية لحرية الفكر والتعبير عن الرأي، أعلن تضامني مرة أخرى مع هذه الحركة الطلابية النزيهة أولا: بإدانة التشويه المتعمد لهذه الحركة الطلابية واحتجاجي الخارج من صميم الوجدان الشعبي على هذا التشويه الذي تشارك فيه بالدرجة الأولى الصحف المصرية كجزء من حملة إعلامية المقصود بها ضرب الحركة الطلابية لغير مصلحة شعبية. ثانيا: أعلن إضرابي عن الطعام بداية من يوم الاثنين الموافق 8/1/1973 تضامنا وتدعيما لقرار الإضراب عن الطعام الذي اتخذته المجموعة التي تمثل قوة الاعتصام الطلابي بجامعة عين شمس بقصر الزعفران حتى يتم الإفراج عن جميع المعتقلين الوطنيين الذين بدأت سلسلة اعتقالاتهم منذ يوم الجمعة 29/12/1972 والتي لا تزال جارية ومستمرة حتى الآن والمندرج بعضها تحت اسم قضية 902 لسنة 1972 حصر أمن دولة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. التوقيع: صافي ناز كاظم 7/1/1973».
الطريف في تلك الوثائق كان إصرار المباحث على تعريفي بـ«الماركسية»، ولم يكن قد مر على أدائي لفريضة الحج غير عام واحد، بينما لم تشر إلى حقيقة أي واحد ممن كانوا يفخرون بانتمائهم الماركسي والعلماني.
ومنذ ذلك التعريف المباحثي الأمني غير الصادق وغير الحقيقي، عن هويتي العقائدية، وأنا أواجه المصرين على تصديق «ادعاءات» المباحث وتكذيب «صدقي» في أنني لم أكن في أي لحظة من لحظات عمري ماركسية أبدا أبدا أبدا والله خير الشاهدين.