د. كريمة نور عيساوي - هل نحن في حاجة لعلم الأديان"

مقدمة
هل نحن في حاجة لعلم الأديان ؟ كثيرا ما يرافقني هذا السؤال في الاستراحة والتجوال من دون دعوة أو اتصال، إما في المدرجات الجامعية أو في اللقاءات العلمية أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تخترقنا من دون رغبة أو قابلية، كنت دائما أَجدُني وأنا أستعد للإجابة عن هذا السؤال الذي يُلاحقني بمجرد الإفصاح عن تخصصي، أستجمع عدتي وأتسلح بأدلتي، كما لو أنني أقف في محكمة للدفاع عن متهم غائب، متهم وضع على عاتقي مسؤولية الدفاع عنه من دون طلب أو توكيل. المتهم هاهنا يا سادة علم اعتقد البعض عن جهل أو عن تقصير أنه نتاج غربي محض أفرزته العقلية الغربية المتمركزة على الذات المحنطة بالاستعلاء من دون ملح أو نطرون. علم أفرزته الدراسات الاستشراقية ورؤيتها القدحية عن العرب والمسلمين.
كنت غالبا ما أسأل محاوري، ما المقصود بعلم الأديان؟ وهل عُرف هذا العلم في التراث العربي الإسلامي؟ فكانت الردود تتراوح مابين الإيجاب والسلب من غير جواب مقنع شاف. كنت أدرك ساعتها أن التحامل على هذا العلم لا يعود للمتحدث فهو لا يد له في ذلك، وإنما المسؤولية، كل المسؤولية تقع في يد الوزارة الوصية على التربية والتعليم التي لم تُدرج في المناهج التعليمية، وضمن موادها الدراسية، حصصا لتعريف الناشئة بأديان وحضارات الأمم الأخرى، وعلى تاريخهم المشترك، مما جعلنا نخطو الخطوات الأولى في المدرسة، ونكبر دون أي اطلاع أو معرفة بهذه الأديان وتلك الحضارات، دون وعي بأن علماءنا كان لهم قصب السبق في هذا العلم، وأن تراثنا يزخر بعدد لا يستهان به من المصنفات في هذا المجال.
تعريف علم الأديان
إن علم الأديان في أبسط تعريف له حسب الأستاذ دين محمد محمد ميرا مثلما أثبته في كتابه علم الدين المقارن مقالات في المنهج نقلا عن Jordan, Loues هو «النشاط العقلي المنظم المهتم بدراسة الأديان نشأة وتاريخا وتطورا، وعقائد ومذاهب وطوائف، وبدراسة أثرها وتأثيرها على الواقع الإنساني في جميع أبعاده، وكافة جوانبه دراسة تقوم على مناهج علمية وتعتمد على مصادر أساسية وتهدف إلى الفهم والمعرفة قبل النقد والمقارنة» . فالمدقق في هذا التعريف يتضح له من دون ضبابية؛ أن علم الأديان هو علم يجعل من الأديان الأخرى موضوعا للدراسة، وذلك باعتبارها حقائق علمية وظواهر تستحق البحث اعتمادا على منهجٍ علميٍّ رصينٍ، يصنف مادَّتها ويصفها بحياديَّةٍ تامةٍ ويستخلص معانيها، فهو يدور حول وصفِ الأديان وصفاً علمياً دقيقاً متسماً بالموضوعية. وإلى جانب اهتمامه بمسيرة الأديان في التاريخ، يَعمد إلى مقارنة ظواهرها الأساسيَّة دون إغفال أي عنصرٍ من العناصر المكونة لهذه التجربة الدينية أو تلك.
إشكالية التسمية
إنَّ هذا العلم، على اختلاف مسمياتِه " مقارنة الأديان" و"علم الأديان" و"علم تاريخ الأديان" يدل على حقل معرفي واحد، إذ أنَّ لكل تسمية من هذه التسميات مبرراتها ودواعيها. ففي إنجلترا وخصوصا في جامعة أكسفورد أُطلق عليه اسم علم "مقارنة الأديان" " Comparative Religions" على يد باحث شهير هو ماكس موللر Max Muller الذي أُسند إليه تدريس هذه المادة سنة 1896. وقد شاع في ألمانيا اسم آخر هو "علم الأديان" "Religions Wissenschafft" ولعل في توظيف الألمان لهذا الاسم دلالة خاصة، فقد كان علم الأديان، كما هو معلوم، محتكرا من قبل الكنيسة التي عندما مارست البحث في الأديان الأخرى لم تكن كتاباتها اللاهوتية تتسم بالموضوعية؛ فجاء هذا الاسم أي علم الأديان إشارة إلى أنَّ ما كانت تقوم به الكنيسة ليس علما، وأنَّ الهدف من هذا العلم هو دراسة الموضوع بشكل علمي وبكل موضوعية وحيادية،أما اسم تاريخ الأديان فهو ترجمة عن الإنجليزية والفرنسية، ويُعتبر الفرنسيون هم أول من أطلق عليه هذا الاسم، وقد نقله الأمريكان عن الفرنسيين سنة 1952، خاصة عندما استقدموا مارسيا إلياد أو ميرتشا إليادMircea Elaide ، أستاذ تاريخ الأديان في جامعة السوربون بباريس، وعينوه أستاذا بجامعة شيكاغو في كلية اللاهوت، فأسس هذا الأخير مجلة أطلق عليها عنوان "تاريخ الأديان" "History of Religion" ومنذ ذلك الوقت اشتهر هذا الاسم في الأوساط الأكاديمية" الأنجلوساكسونية" "Anglo-Saxon" .كما أشار إلى ذلك الأستاذ محمد خليفة حسن.
علم الأديان في الغرب
لقد اهتم الغرب بهذا العلم نظرا لإحساسه بأهمية التدين، واقتناعه بأهمية الدين في حياة الشعوب، فأولاه الأهمية القصوى، وقد ساعدتهم مجموعة من العوامل في ذلك منها، تطور العلوم الإنسانية مثل: "اللسانيات التاريخية" "Linguistique historique" و"النحو والمقارن" "Grammaire comparée" و"علم الفيلولوجيا" "Philologie" هذا فضلا عن اهتمامهم ب"الأساطير" "Mythologie إلى جانب الطفرة النوعية التي عرفها "علم الآثار" "Archéologie" و"العلوم الإنسانية" "sciences humaines" ك"علم النفس" "Psychologie و"علم الاجتماع" " Sociologie" و"علم الإنسان" " l'anthropologie" و"فلسفة الدين" Philosophie de la religion ...؛ " وفك طلاسم "الكتابة المسمارية" "Écriture cunéiforme" و"الكتابة الهيروغليفية المصرية" "Hiéroglyphes égyptiens" .
إنَّ علم الأديان في الغرب ساهمت في تبلوره وتطوره ثلاثة عوامل أساسية: تأسيس أو تطوير العلوم الإنسانية (علم الاجتماع، أنثروبولوجيا...) تقسيم اللغات إلى عائلات لغوية (اللغات الهندوأوروبية، اللغات السامية...) ثم فك طلاسم الكتابة المسمارية والكتابة الهيروغليفية، هذه الأخيرة كان لها الفضل في الكشف عن مجموعة من الحقائق التاريخية المغيبة، ولنا أن نتساءل هل عرف العرب والمسلمون علم الأديان؟ وما هو المنهج الذي توسل به العلماء المسلمون في دراستهم لهذا العلم؟
علم الأديان في التراث العربي والإسلامي
يرى الأستاذ محمد خليفة حسن في كاتبه "تاريخ الأديان دراسة وصفية مقارنة"، » أنَّ علم تاريخ الأديان من العلوم الأساسية في التراث العلمي الإسلامي، بل هو علم إسلامي مهمل إذ لم يلق عناية كافية من الباحثين المعاصرين، خاصة فيما يتعلق بالجانب المنهجي الذي طوره علماء تاريخ الأديان في القرون الأولى للهجرة، .« ومن خلال استقرائنا لعدد من المصنفات التي تزخر بها المكتبة العربية الإسلامية يُمكننا الجزم بأن علم تاريخ الأديان علم أصيلٌ في التراث العربي الإسلامي، ويكفي أن نذكر بعض الأسماء ومن هؤلاء العلماء العرب والمسلمين:
– علي بن ربن الطبري (ت 247هـ ) صاحب كتاب “الدين والدولة في إثبات نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم”.
– أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت255ه ) صاحب كتاب”في الرد على النصارى”.
– أبو الريحان البيروني (ت 440 هـ) صاحب كتاب “حقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة “.
– أبومحمد علي بن حزم الأندلسي(ت456هـ) صاحب كتاب “الفصل في الملل والأهواء والنحل”.
– السموأل بن يحيى المغربي (ت570ه) صاحب كتاب “غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود”.
-شهاب الدين الصنهاجي القرافي: (ت684هـ) صاحب كتاب “الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة”.
-شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت 728هـ) صاحب كتاب “الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح”.
إن هذه المصنفات وغيرها كثير؛ هي بمثابة وثائق حية وملموسة تفصح عن السبق الزمني للعلماء المسلمين إلى هذا العلم بحثا وتصنيفا ودراسة، وقد كان لهم الفضل في الكشف عن أسسه التي أرسى القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا قواعدها العلمية. وليس غريباً أن يكون تاريخ الأديان، في صورته الغربية قد تأسس على كتابات هؤلاء العلماء المسلمين الذين تُرجمت أعمالهم منذ وقت مبكر إلى العديد من اللغات الأوروبية، مما أتاح الفرصة أمام علماء الغرب المتخصصين، الذين اهتموا بدراسة المادة الدينية والفرق والمذاهب، من الاطلاع على مناهج العلماء المسلمين في دراسة الأديان والملل الأخرى. وحسبنا هنا الاستشهاد بقول الشهرستاني أحد كبار مؤرخي الأديان «اعْلم أنَّ العربَ الجاهليَّة كانت على ثلاثةِ أنواعٍ من العلومِ: أَحدها علمُ الأنسابِ والتواريخِ والأديانِ» والفكرة نفسها نستشفها من "رسائل إخوان الصفا" في قولهم: «واعْلم يَا أخِي أنَّ العلمَ علمانِ: علمُ الأبدانِ وعِلمُ الأديان» ولعل ما يمكن أن سنخلصه كذلك من هذا القول هو السبق التاريخي في تسمية هذا العلم بعلم الأديان، وهي التسمية التي يستعملها الألمان للدلالة على هذا العلم.
هل نحن في حاجة لعلم الأديان؟
لقد كان للعولمة والطفرة النوعية التي شهدتها وسائل الإعلام والتواصل دور مهم في جعل العالم عبارة عن قرية صغيرة بل شقة صغيرة؛ إذ فتحت الباب على مصراعيه أمام كل مكونات المجتمع للاطلاع على لغات وثقافات وحضارات وأديان أخرى، لكن ما تُقدمه هذه الوسائل من لقاءات ومحاضرات وبرامج ليس بريئا فقد تعتريه بعض الخطابات العنصرية ذات الخلفيات الإيديولوجية. وليس كل من يتحدث عن الأديان هو من أهل الاختصاص، مما يجعل من هذه المواقع ساحة مناسبة لإشعال فتيل الفتنة والفرقة من غير إخمادها. لذا كانت الحاجة ماسة لإحياء هذا العلم، وإعادة قراءة التراث العربي الإسلامي بعين المتفحص المعتدل وتسويقه بلغات أخرى، والتوسل بالسبل الكفيلة والناجعة لنشر الإسلام في ربوع العالم وذلك مصداقا لقوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة سبأ،الآية:28] ومن البديهي أن تكون هناك استراتيجية لمعرفة لغات وثقافات الآخر، وتوجهاته الفكرية ومعتقداته الدينية من أجل بسط طاولة الحوار والدعوة إلى عبادة الله الواحد الأحد، فكُتب التاريخ الإسلامي تزخر بهذا النوع من المناظرات والجدل الديني.
دور الجدل الديني في تطوير علم الأديان
يجب أن نعترف بأننا مقصرين في التعريف بتراثنا العربي والإسلامي. ولاشك في أنَّ الكثيرين منا لا يعرفون بأنَّه تراث متنوع ومنفتح على ثقافات مختلفة، وأنَّ الحوار بين أتباع الديانات السماوية وغيرها كان سمة أساسية فيه. يكفي أن نستحضر في هذا السياق المناظرات الدينية التي كان يشارك فيها مسلمون ومسيحيون ويهود. وغالبا ما كانت تحظى برعاية ملكية أو أميرية. فقد تعددت المجالس أو المناظرات من قبيل: لقاء البطريرك السرياني يوحنا الأول (635-648) مع أمير جند حمص عمرو بن سعد، ولقاء البطريرك النسطوري تيموثاوس الأول Timothy I (Nestorian patriarch) (بطريرك من 780 إلى 823) والخليفة المهدي، ومجادلة إبراهيم الطبراني مع الأمير عبد الرحمن بن الأمير عبد الملك بن الصالح الهاشمي سنة 820م، ومجادلة أبي قرة مع المتكلمين المسلمين في حضرة المأمون، ومجالس مار إيليا مطران نصيبين (ت1049) مع الوزير أبي القاسم الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن محمد المغربي.
كما أنَّ انتماء المسيحيين واليهود إلى ما يسمى بالأقليات الدينية لم يحل أبدا دون انخراطهم في الجدل، وفي الدفاع عن الديانات التي ينتسبون إليها . ولم يكن ارتباط البعض منهم بدواليب الحكم عائقا دون تأليفهم كتبا أو رسائل في دحض الدين الإسلامي أو في نقد القرآن الكريم. وأبرز مثال على ذلك أبو نوح الأنباري الذي ألف كتابا في نقد القرآن الكريم، على الرغم من أنَّه كان كاتبا لدى حاكم الموصل. الأمر الذي دفع العلماء المسلمين إلى الرد عليهم، ومقارعة الحجة بالحجة. فكثرت المصنفات من قبيل الرد على النصارى أو الرد على اليهود. من ذلك أبو هذيل العلاف الذي رد على المسيحي عمار البصري ، والمردار الذي رد على المسيحي الملكاني ثيودور أبي أبي قرة.
في سياق تاريخي يشجع على الحوار ومجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن كان من الطبيعي أن تشهد الحضارة العربية الإسلامية نشأة علم الأديان. المؤسف أنَّ هذا الجزء من التراث يكاد أن يكون مغيبا وقد لا يصدق بعض الغربيين وجود إنتاج فكري وديني مسيحي مكتوب بالعربية. نتحمل قسطا من المسؤولية في إهماله وفي تقاعسنا عن التعريف به سواء على مستوى العالم العربي والإسلامي أو على المستوى الدولي. لقد شكل إسهام الأقليات الدينية في التراث العربي الإسلامي إبان العصور الوسطى علامة فارقة في تاريخ الحضارات الإنسانية. فالأمر لا يتعلق ها هنا ببضعة أفراد أو بجماعة بعينها أو بحالات معزولة، وإنَّما بانخراط كامل لهذه الأقليات، بغض النظر عن معتقداتها الدينية، في الكتابة وفي التأليف وفي المشاركة الفعالة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية. وقد تجسد ذلك أولا في تبنيهم للغة العربية، واتخاذها إما جزئيا أو كليا أداة لتحرير مصنفاتهم العلمية والفكرية والدينية، وتفاعلهم الدائم مع إنتاجها الثقافي والفكري.
الترجمة ودورها في التلاقح الثقافي بين العالم الإسلامي والغرب
في هذا الصدد لا يفوتني أن أشير إلى أثر التراث اليوناني في نشأة بعض العلوم الإسلامية، ودور مسيحيي الشرق في ترجمته إلى العربية (إسحاق بن حنين215-298) هـ830/ - 910 م(، عيسى بن زرعة ( 943 /1008م )، يحيى بن عدي( 893 / 950م). وفي الوقت نفسه لا أحد يستطيع أن يستهين بدور العلماء المسلمين في شرح وتفسير وتنقيح التراث اليوناني، واستفادة الحضارة الغربية من هذه الشروح. وهنا لا بد من الإشارة إلى دور اليهود في الأندلس الإسلامية في نقل التراث العربي والإسلامي إلى الغرب المسيحي. لقد ترجم اليهود حسب الأستاذ أحمد شحلان على مدى قرون، كتباً فلسفيةً وعلميةً عربيةً إسلاميةً مشرقيةً ومغربيةً. ونذكر بعض أسماء المترجم لهم لنستدل بها على نوع النقول والامتداد الزمني الذي احتوته، وشساعة الحيز الجغرافي الذي جرت فيه وقائع هذه الترجمات. « فمن بين المترجم لهم قسطا بن لوقا وثابت بن قرة واسحاق بن حنين وحنين بن إسحاق وأبو إسحاق البطروجي وأبو الحسن بن أبي الرجال والفرغاني وأبو إبراهيم بن يحيا الزرقلا وابن الهيثم والكندي والفارابي وابن سينا والرازي وأبو القاسم الزهراوي وإخوان الصفا وابن السيد البطليوسي وأبو القاسم أحمد بن السفار وأبو جعفر بن الأفلح الأشبيلي وابن باجة وابن طفيل والغزالي وابن رشد» . وشكل ابن رشد محور أعمالهم إلى درجة أن الكثير من أصولها لم تصلنا باللغة العربية، وإنما وصلت في هذه الترجمات أو وصلتنا وقد كتبت عربية بحرف عبري .
ولعل هذا يكشف وعي الحضارة الغربية بأهمية ترجمة التراث العربي والإسلامي: وهنا لابد من الإشارة إلى ريموند رئيس أساقفة طليطلة الذي أسس مجمع المترجمين، وجعل على رأسه دومنيك كوند زلفي. وظهرت الترجمات الأولى وتلتها محاولات ترجمة ابن سينا ورسائل الكندي والفارابي. كما كان لجامعة باريس وتولوز ومونبلي وأكسفورد وجامعة بادو دور كبير في الترجمة.
فنحن اليوم في أمس الحاجة لترجمته هذا التراث إلى اللغة العربية وهو ما يقوم به الدكتور أحمد شحلان مشكورا حيث ترجم كتاب ابن رشد "الضروري في السياسة" الذي ضاع أصله العربي وبقي في نسخته العبرية، ورد في مقدمة الكتاب على لسان المفكر المغربي محمد عبد الجابري « لقد آن الأوان لتصحيح معرفتنا بابن رشد الذي أضعناه طويلا... لقد سبق أن ربطنا هذا الكتاب بنكبة ابن رشد عندما أتيح لنا أن نقرأه في ترجمته الإنجليزية المنقولة عن الترجمة العبرية بعد أن عم اليأس من العثور على الأصل العربي... إن هذا الكتاب الذي ضاع أصله وضاع اسمه الحقيقي، والذي نعيده إلى لغته الأصيلة، لغة الضاد حاملا اسمه الذي استخرجناه من متنه... هذا الاكتشاف الجديد لوجه آخر من وجوه عقلانية ابن رشد وأفقه الإصلاحيين ما كان ممكنا لولا الجهد الذي بذله الصديق الدكتور أحمد شحلان، أستاذ اللغة العبرية في كلية الآداب بالرباط والمتخصص في المؤلفات الرُّشدية في التراث العبري، ليس فقط في ترجمة الكتاب ترجمة أمينة بل أيضا في تصحيح قراءة المترجم اليهودي للنص العربي»
لقد اهتم القرآن الكريم بالأديان الأخرى وأرسى قواعد هذا العلم وأسسه العلمية؛ المبنية على ضرورة طلب العلم حيث كشف لنا القصص القرآني عن مادة معرفية غزيرة حول الأديان السابقة، بل أكثر من ذلك أفصح لنا عن أول تصنيف وتقسيم لأديان العالم استنادا إلى الوحي، مستعملا في ذلك مصطلح "أهل الكتاب" ليفرق كما قال الدكتور محمد خليفة حسن بين ثلاثة أصناف من الأديان « أديان لها كتب مقدسة، وأديان لها شبه كتاب، وأديان لا تملك كتبا مقدسة،» ولعل هذا يطرح أمامنا تحديا أخر يتمثل في البحث عن السبل الناجعة للتعامل مع قضية التعدد الديني ولكن بشكل إيجابي. فالجواب نجده في الآية الكريمة {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [سورة الكافرون: الآية 6] فعلى امتداد التاريخ الإسلامي، وكما أشرنا سابقا، اعترف المجتمع الإسلامي بالتعدد، وآمن بالتعايش السلمي بين مختلف الجماعات الدينية المختلفة. ولعل "صحيفة المدينة" كانت بمثابة أول دستور أرسى قوانين وسبل التعامل مع أهل الذمة، وبذلك يمكن الجزم كما يرى الأستاذ دين محمد محمد ميرا أنه« لم يشهد التاريخ الإنساني مجتمعا اهتم في دستوره وقوانينه بقضية التعدد والتعايش وبيان الحقوق والواجبات في هذا المجال مثل المجتمع الإسلامي، وتم ذلك بتوجيه من تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية الشَّريفة.»
خاتمة
جملة القول إنَّ الحاجة أصبحت ملحة لتدريس هذا العلم والتعريف به وإعادة الاعتبار له، فلن نكون مغالين إذا اعتبرناه المخرج الوحيد المتاح أمام البشرية للتعاون المشترك من أجل إيجاد نظام عالمي جديد يستند إلى القيم الأخلاقية العليا المشتركة فيما بينها. إنَّ علم الأديان ليس ترفا فكريا أو خيارا فرديا، فهو يعبر عن حاجةٍ إنسانيةٍ ملحةٍ ومستعجلةٍ تتطلبها التحولات التي يشهدها العالم في هذه المرحلة الدَّقيقة والحرجة من تاريخ البشرية، خاصة في ظل اتساع رقعة التوتر واندلاع النزاعات الإيديولوجية وتزايد مخاطر الفكر الاستئصالي. فعلم الأديان وما يرتبط به من حوار الحضارات والثقافات خيار استراتيجي. وهو السبيل الأوحد لمواجهة كل أشكال الإقصاء وكل أنواع الإرهاب، ولمقاومة خطاب الكراهية الذي بدأ يستشري كالنار في الهشيم في وسائل التواصل الاجتماعي.
المراجع
- أحمد شحلان، التراث العبري اليهودي في الغرب، التسامح الحق منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط. الطبعة الأولى 2006 .
- أحمد شحلان، الضروري في السياسة مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى ، 1998.
- دين محمد محمد ميرا في علم الدين المقارن مقالات في المنهج، دار البصائر، القاهرة 2009.
رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، المجلد الرابع. دار بيروت للطباعة والنشر بيروت.
- كريمة نور عيساوي التوراة من التدوين إلى النقد دراسة تطبيقية في سفر التكوين لقضايا الخلق والخطيئة والطوفان وبرج بابل، المركز الأكاديمي للأبحاث، بيروت، الطبعة الأولى 2020.
- محمد خليفة حسن تاريخ الأديان دراسة وصفية مقارنة، رؤية للنشر، القاهرة، 2016.
- Jordan, Loues H.Comparative Religon : its genesis and growth (Edinbugh.1905) p 63 Sharpe Eric J .comparative Religion Ahistory (Charles Scribers soons New york1975)

كريمة نور عيساوي
أستاذة تاريخ الأديان وحوار الحضارات
كلية أصول الدين
جامعة عبد المالك السعدي، تطوان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...