د. سيد شعبان جادو - السرد بين الطيب صالح ونجيب محفوظ!

برز في عالم السرد العربي كاتبان امتلكا ناصية الإبداع؛ كانت الكتابة عندهما اتجاه حياة ونمط تفكير؛ حين نقارن ما تركاه نجده يفوق الوصف؛ لم يعلن أحدهما عن نفسه بل يعرض مادته على وسائل الإعلام؛ إنها حالة من رهبنة مغايرة.
كلاهما دخل ميدان الأدب من غير باب التخصص؛ فنجيب محفوظ دارس للفلسفة والطيب ولجه من دنيا الزراعة، لكن العجب يتملك حين تقرأ لأيهما في القدرة على معايشة الشخصيات والتصرف في فنية السرد والحكي؛ يجد نجيب محفوظ حارته متنفسا لسرده ربما كانت ثمة ظلال من واقع عايشه أو مشاهد طالعها وهو جالس على مقعده في مقهاه بعد دوام عمله؛ امتاز نجيب بالدقة والصرامة؛ ساعات محددة يكتب فيها عن عالم الحرافيش وزوايا المحروسة راصدا عوامل التغير.
كانت مصر على موعد مع رجل يرصد ويحلل ومن ثم يبدع نصوصا تفسر وتقدم رؤى مغايرة لما اعتاد الناس عليه؛ أكمل إلقاء الحجر في مياه النيل بعد طه حسين، فكانت " أولاد حارتنا" وما تبعها من منع ومصادرة.
بها شطط في التعبير ومصادمة لما يعتقده العوام؛ لكن قليلا من النابهين من رآها عين المبدع الناقدة لمآلات سطوة القوة ونزعة التسلط وخنوع الحرافيش أمام سلطة تستعبدهم.
هل كانت شخصية كمال ابن السيد أحمد عبد الجواد هي هو، أم تراه كره النفاق الإجتماعي في محجوب عبد الدايم والذي اشتغل قوادا بجسد إحسان شحاته؟
وهل كانت زهرة في ميرامار هي المحروسة التي غدر بها الجميع وباتت تحمل جرثومة الخطيئة في رحمها؟
حتى جاء من أراد قتله بطعنة غادرة ويا للعجب يعفو الرجل عنه في تسامح الأطهار وكرم الطيبة التي تسللت عبر نصوصه.
وإذا ما جئنا إلى عالم الطيب صالح وجدناه مسكونا بغلالة شفيفة من محبة خالصة؛ يسبح في النيل وينظر ناسه وحيوانه نخله الذي يطعم الفقراء والأغنياء على سواء؛ في موسم الهجرة إلى الشمال مصادمة ومعاركة للواقع ومغايرة لنمط التعبير؛ رآها البعض رواية الغرف الحمراء والنوادي الليلية؛ وقامت حولها الدنيا ولم تقعد؛ هل حاول هؤلاء رؤيتها من أبعاد مختلفة؛ الهم العروبي واستعلاء الآخر وتلمس مقاومة الرجل الأبيض في نسائه هؤلاء الشبقات اللواتي يعشن عالم الفحش الذي تضج به مواخير وحانات الغرب؟
ربط البعض بين مصطفى سعيد والطيب صالح؛ رأوهما واحدا عبر عنه قلم الطيب؛ تلك معضلة الإبداع أن تربط بين السارد وسيرته الذاتية؛ وفي هذا يختلف عن الشعر!
ودومة ود حامد و ضو البيت؛ لقد أجاد تصوير الحياة في عالم الجنوب؛ صور حياة البسطاء واغترف من حكاياتهم وارتحل إليهم في مضارب الإبل ومراح الضأن؛ ركب الحمار ورعى الأبقار؛ حصد القمح وغاص في ماء النيل، حقا لقد ترك لنا بصمة سردية لا تنسى!
لغة السرد
مؤكد أن ثمة تباينا بينهما في استخدام مفردات اللغة؛ معجم نجيب محفوظ لا يحفل بالعامية ولا ينصرف إليها؛ يلاحظ المحلل اللغوي أن نزوع نجيب محفوظ إلى الفصحى اختيار ونزوع إلى التجويد والإتقان؛ إنه خليفة المدرسة اللغوية المصرية؛ أحمد شوقي والرافعي والعقاد والمنفلوطي والزيات وطه حسين ومعركة التحدي الحضاري؛ استوعب محفوظ كل هذا فأبدع وجود، سردا استوعب عصره وجاء في سياقه الحضاري.
أما الطيب صالح فكان لسان عالم الجنوب بكل حكاياته وأساطيره، معايشة الناس ومخالطتهم تركت في سرده بصمة الحكي المغلف بإطار شفيف من تصوف عرف به أهلنا في جنوب الوادي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...