ديفيد رونيجارد - ملحد في الجحر.. كيف يجد الملحد العزاء في مواجهة الموت؟.. ترجمة: فواز البنفلاح

أنا فيلسوف علماني التفكير. لا يشكل الإيمان لدي فضيلة من الفضائل. أدحض جميع الحجج التي تثبت وجود الرب وقدرته. فلسفتي في الحياة مبنية على التفكير العقلاني والأدلة المنطقية. أعتبر الموت نهاية لحياتنا الواعية، وأرى أن الإنسان يصنع قدره بنفسه.
إن التأملات العامة التي تكتب عن الموت غالبا ما تكتب خوفاً منه لا أثناء مواجهته. أنا في وضع متميز كوني أكتب عن الموت وأنا أواجهه. للتو قيل لي، في سن 37 عاماً، أنني في المرحلة الرابعة من سرطان الرئة. إن الإلحاد وتلقي أنباء الاقتراب الوشيك للموت لمزيج مؤسف حقاً. من أين يستمد الفيلسوف الملحد العزاء؟ من الذي يعطي للحياة المعاشة معنى، ومن أين يتأتى التسليم بالمصير المتوقع؟
لم يكن لدي ميل أبداً نحو الخوارق، ولم يشكل الدين في حياتي ذا مصداقية أو مصدراً للعزاء. كما لم يشجعني الموت الذي يلوح في الأفق على فهم العزاء بصورة زائفة، بالرغم من حاجتي الماسة إليه. في الواقع، أجدني بالرغم من هوسي بالموت، ألتمس العزاء من وصف سقراط للفلسفة بأنها عملية قبول الإنسان لموته. الآن، وأنا أواجه النهاية الحتمية للحياة في سن مبكرة، أتساءل عما إذا كنت قد استطعت الوصول إلى مرحلة القبول بها على الصعيد الشخصي.
غالباً ما يتم تصوير الفلاسفة بأنهم يحاولون الإجابة عن الأسئلة الكبيرة، خاصة سؤال ما معنى الحياة؟ في الواقع أن هذا السؤال لا يتناوله الفلاسفة إلا في محادثاتهم العابرة، ولكنني نادراً ما لاحظت أنه مدعاة للقلق بين مدرسي الفلسفة، على الرغم من أن عدد غير قليل من المفكرين غير المتدينين قد حاول الإجابة عن هذا السؤال بوجه أو بآخر. يكمن السبب في تجاهل الفلاسفة الإجابة عن سؤال معنى أو قيمة الحياة في أن لدى هؤلاء فهم ضمني بأن مثل هذا المعنى أو القيمة تجربة شخصية. وإن كان معظم الفلاسفة لا يضيعون أوقاتهم في التفكير في معنى لحياتهم فلماذا يتوجب على سواهم فعل ذلك؟ إنها أمثولة الفيل في الغرفة بالنسبة للفكر العلماني.
أما في الفلسفة التحليلية، فإن سؤال “معنى الحياة” غائب تماماً، فإلى وقت قريب تركزت المساهمات الفلسفية على فهم معنى “المعنى” و “الحياة” بدلاً من فهم “معنى الحياة”. وفي هذا تجيء مقولة برتراند راسل بأن “كل شيء غامض لدرجة أنك لا تدرك ذلك إلا عند محاولتك جعله دقيقاً” لتذكرنا بمدى الإعجاب الذي نكنه للفلسفة التحليلية التي تطمح إلى جعل كل شيء واضحاً. لكن بصراحة، لا شيء من هذا مفيد لفرد يبحث عن معنى للحياة وهو موشك على الموت. أما بالنسبة لعامة الناس فإنه أمر لا يحمل دلالة واضحة بل هو عصي على الفهم، كما أنه منزوع العاطفة ولا يفيد كتجربة شخصية. ما يفيد في هذا المجال هي الفلسفة الوجودية كونها ترتكز على أصالة الوجود واعتبارية الماهية، مما يقربنا من فهم ما يشكل قيمة في حياتنا ويساعدنا بالتالي على إيجاد معنى لها ونحن نحاول أن نحقق هذه القيمة. ولهذا، فإن سؤال “المعنى” لدى الفيلسوف الوجودي يعتبر بالنسبة له صيغة وصفية لا علاجية.
تجرع المرارة
في هذا الفراغ، يزعم الدين احتكاره لصيغة حصرية لمعنى الحياة والموت. هنا يرد المعنى الديني مع وعد في نهاية المطاف بالنجاة من الموت تماماً (على سبيل المثال، إنجيل يوحنا (25:11) “من آمن بي ولو مات سيحيا”). إن توق الإنسان إلى الدين ينبع جزئياً من خوفه من الموت وبحثه عن العزاء من خلال الإيمان بالدار الآخرة.
ومع ذلك، فإن الفكرة المطمئنة عن الدار الآخرة من غير المرجح أن تكون صحيحة، بل ليست هناك حاجة إليها. ففي رأيي، لا أعتقد أن الموت يجب أن يخشى، لأنه حالة من العدم وامتداد للصمت المطبق الذي جئنا منه. علاوة على ذلك، مع عدم وجود الحياة الأخروية، علينا أن نستغل ما تبقى لدينا من وقت في هذه الحياة بالصورة المثلى، خاصة وأن فرص الاستفادة مما تبقى لنا من هذا الوقت مجهولة إلى حد كبير لدى معظمنا. ولذلك يجب أن تكون مخاوفنا، إما بسبب ضياع هذا الوقت، أو بسبب عدم حصولنا على ما يكفي منه.
إن النظرة غير الدينية لا تشكل وعداً بالخلود، ولكنها توفر بعض الراحة. على سبيل المثال، ليس لدي أي شعور بأنني قد عوملت بشكل غير عادل. أنا لا أتساءل ماذا فعلت لاستحق ما يحدث لي ــــــــــ وأنا بالتأكيد لا أعتقد أن أي شخص آخر هو أحق بمصابي مني. حسناً، أستطيع أن أفكر في بعض من يستحق ذلك، ولكن هذا خارج عن الموضوع. المهم في الأمر بأنه ما من أحد كتب علي هذا المصير، وبالتالي لست بحاجة إلى تبديد ما تبقى لدي من وقت في التفكير بظلم ما وقع علي. ببساطة كنت كمن وقعت في يديه ورقة يانصيب الطفرة الجينية الخبيثة.
يقول رجال الدين أحياناُ بأنه ما من ملحد يستطيع بمجرد الوقوع في حفرة الاحتفاظ بإلحاده، بافتراض أن الملحد سيغير معتقداته ويؤمن بالخوارق بمجرد تغير حظوظه الدنيوية. ولكن إن كان التمني سهلاً وفاعلاً في هذه الحالة، لكنت ببساطة تمنيت شفائي من السرطان. إن المنحى الإنساني الذي يتجنب الخوارق يتيح لنا الاستفادة مما تبقى لنا من أعوام في هذه الحياة. المعضلة تكمن في أننا لم نحصل على أعوام كافية كما كنا نأمل (ناهيك عن الآخرة). أتمنى أن أقول في هذه اللحظة ما يبعث على المواساة ولكن ربما هي جزء من أزمة وجودية يتوجب أن يعيشها أي إنسان.
المشاعر السرمدية
عندما لا يوجد ما يمكننا أن نخسره فإننا ندرك تماماً ما يتوجب علينا ألا نخسره. أنت تعيش الحياة بطريقة مغايرة تماماً لأنك تعلم أنك ميت. لدى ممرضتي وشم على ذراعها مكتوب فيه “عش حياتك كأنك ستموت اليوم، وأحب كأنك ستعيش إلى الأبد”. يصبح العيش في الحاضر أكثر يسراً عندما يدرك المرء بأن حياته شارفت على الانتهاء. إنه يعي أيضاً أهمية من يحبهم، وتفاهة ما يملكه من أموال ومقتنيات مادية. أنا أقول هذا الكلام لكوني أعيش في السويد وأتمتع بالرعاية الصحية الشاملة ولذلك لا أقلق بشأن الفواتير الطبية العالية المترتبة على علاجي. ولكن بغض النظر، فإن المال لا نفع منه إن لم تستطع إنفاقه. إن غياب القلق المادي، يمكن الإنسان من رؤية كل شيء بوضوح تام.
تتبدى الحياة لدى معظم الناس كنوع من التطلع إلى المستقبل لا كعد تنازلي. ولكننا نحتاج كلا المنظورين. ففي مرحلة ما من حياتنا، سوف يلوح لنا الأفق وعلينا ساعتها أن نسأل أنفسنا السؤال التالي: ما الذي أراه عندما أنظر في المرآة الخلفية، وبماذا أشعر حيال ما أتركه ورائي؟
إن التمييز بين ما هو “مطلق” و “نسبي” لمعنى الحياة يتوقف على ما إذا كان أي شيء ذو قيمة خارج تصورنا لمفهوم القيمة. إن النظرة الدينية تفرض علينا تصوراً خارجياً مطلقاً للقيمة بينما تفرض النظرة الإنسانية علينا تصوراً نسبياً للقيمة. لا أعتقد أن هناك تصوراً مطلقاً للقيمة لأنها حالة ذهنية تتطلب وجود طرف خارجي يقوم بها. ومع ذلك، فقد يكون هناك مجال لمشاعر نعتبرها جميعاً ذات قيمة. إن قرب انتهاء الحياة قد يساعدنا على رؤية تلك القيمة.
إننا عندما نتطلع إلى المستقبل، فإن حياة الانغماس الذاتي لا تبدو غير معقولة، ولكن ما نقدره في الوقت الراهن قد لا يبدو في غاية الأهمية عندما ينظر إليه في سياق الحياة المحدودة. عندما نضطر أن ننظر من خلال المرآة الخلفية، فإن حياة الانغماس الذاتي قد ولت تماماً. ماذا تبقى بعد ذلك من قيمة تمكننا من الإحساس بأننا عشنا حياة ثرية؟ ما هي المشاعر التي ستبقى خالدة؟
كما أراها، فإن المشاعر الخالدة هي الذكريات التي اجتازت اختبار الزمن كلحظات الفرح مع من نحب، وتلك السعادة التي تشع في النفس من إنجازات حققناها. إنه لمن الصعب إيجاد كلمات تصف هذه المشاعر الخالدة لكنها مشاعر تحوي جانباً روحانياً. يقال بأن الفلسفة تبتدئ حيث ينتهي الدين، ولكن في هذه اللحظة فإن الشعر قد يعبر عن هذه المشاعر بطريقة تعجز عنها الفلسفة التحليلية. إننا نحتاج بدلاً عن الدقة المفاهيمية إلى إفساح المجال للغة أكثر ملاءمة للمشاعر.
إن ما يثير مشاعر خالدة يختلف من شخص لآخر، ولكنني أرى بتواضع أن هذه المشاعر سوف تنبع من الأحداث التي مست حياة الآخرين، وظلت محفورة في ذاكرتهم. إن النظرة الإنسانية للخلود ليست مادية بل تتبدى في صور متعددة تمس حياة الغير مثل الصداقات المتينة، ولحظات الولادة الأولى، والمشاريع التي نؤسسها، والكتب التي نكتبها. في جوهرها، هي آثار الأقدام التي نتركها وراءنا.
إن الحياة المعاشة بحق هي تلك التي عشناها من خلال الآخرين ونحن أحياء، إذ أن الآخرين يضفون معنى لحياتنا من خلال إتاحة الفرصة لنا كي نحبهم. أما عند موتنا، فإن المعنى الذي نقدمه لهم يكمن في الاستمرار في أن نكون موضع محبتهم. إن الوعي بالموت يسلط الضوء على مثل هذه المشاعر الخالدة ويبين لنا ما يتوجب علينا تقديره بعمق. ضمنياً، فإن الإيمان بالدار الآخرة، والذي يصل إلى حد إنكار الموت، قد يحجب عنا هذه البصيرة.
ــــــ تمت ـــــــ
نشر المقال التالي المترجم عن اللغة الإنجليزية في نوفمبر من عام 2014م في مجلة “الفلسفة الآن”. يحكي المقال انطباعات ما قبل الموت لدكتور سويدي ملحد مصاب بسرطان الرئة. المقال يفتح لنا آفاقاً لمعرفة الكيفية التي يتعامل بها الملاحدة مع معضلة الموت.
© مجلة الفلسفة الآن، العدد 105، نوفمبر/ديسمبر 2014
الدكتور ديفيد رونيجارد، سويدي حاصل على دكتوراه الفلسفة من كلية لندن للاقتصاد، وهو باحث ومدرس متخصص في مجال المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...