«نفيسة قنديل»بأى ذنب قتلت؟
***
«الويل.. الويل
من شجر ينبتُ فى
النيران
ويعشش فيه البوم الأخضرُ
والغربان»
(الإسكندرية ـ 2020)
داخل غرفة ضيقة، خافتة الضوء، ليس فيها سوى رائحة الموت، وأصوات أقدام، وبقايا كلام، ونهايات أحلام، ونتيجة على الحائط معلقة بلا أيام، وشباك صغير لا يتسرب منه سوى الندم، والدموع، والأحزان. يقف الشاب عادل يونس وشهرته «ولاء أبوحديدة» مرتدياً بدلته الحمراء فى انتظار تنفيذ حكم الإعدام داخل سجن برج العرب الذى يبعد 230كم شمال القاهرة. الآن يتقدم ببطء نحو حبل المشنقة، بعد الحكم النهائى الذى صدر ضده من الدائرة الثالثة جنايات ـ مدينة شبين الكوم. والذى جاء فيه: حكمت المحكمة برئاسة المستشار عبدالحليم حسين المسيرى بالإعدام شنقاً حتى الموت على المدعو «السيد عادل السيد يونس ـ 31 عاماً» قاتل السيدة «نفيسة محمد قنديل ـ 72 عاماً» زوجة الشاعر الراحل محمد عفيفى مطر بعد تأييد فضيلة المفتى للقرار فى القضية ـ التى حملت رقم 10589 جنايات ـ التى وقعت أحداثها الدامية فجر يوم 19 مارس 2019.
***
«لو جئت فى عباءة الهزيمة
فأفسحوا طريقى
ففى جيوبها دفاتر الجريمة»
(غرفة الإعدام ـ بعد 10 دقائق)
الآن يقف ممثل النائب العام ومأمور السجن ومعهما شيخ أزهرى. بعد دقائق قال الشيخ: «انطق بالشهادتين يا ابنى»؟
ـ عادل.. صامت، شاحب، جسده يرتعش، وشفتاه ترتجفان دون النطق بهما أو الرد عليه! بعد لحظات من الصمت الحزين جاء صوت آخر من قريب قائلاً: «عايز حاجة يا عادل قبل ما ننفذ الحكم»؟ هنا انتفض جسده وارتفع صوته: «أيوه.. عايز أزور قبر الشاعر محمد عفيفى مطر»!. وكرر طلبه المباغت عدة مرات وسط ضباب الحجرة، وصمت الحضور، واهتزاز حبل المشنقة المعلق بالمكان. بعد مداولات، واتصالات، واستشارات، واستراجاع لقانون الإجراءات الجنائية والمواد «471، 472، 473، 474، 475» انتهى الأمر واستقر ـ فى واقعة قد تكون غير مسبوقة ـ إلى تنفيذ تكليفات الجهات العليا التى وافقت على تأجيل تنفيذ الحكم لتحقيق الطلب الأخير للمتهم قبل موته شنقا!
***
«وقف الموتُ على الشباك
ساعات طويلة
كان فى هيئة صَقْرٍ ضامرٍ..
يسمع أنفاساً ضئيلة»
(المنوفية ـ 2020)
عدة سيارات مدرعة ـ بينها سيارة إسعاف ـ تسير بسرعة شديدة وسط حراسة أمنية مشددة، حتى اخترقت طرق وشوارع ومدن قرى الدلتا إلى أن وصلت ـ حاملة المتهم ـ إلى قرية «رملة الأنجب ـ مدينة أشمون» التى عاش ودفن بها الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر يوم 28 يونيو 2010. وسط المقابر وأمام قبره وقف المتهم بصوته المبحوح يتكلم هامساً:
«كانت الست «نفيسة» فضلها ـ بعد الله ـ علينا كبير، لأنها كانت تساعد والدتى فى المعيشة، وأنا ندمان على كل اللى حصل منى، والشيطان لعب دوراً كبيراً وقتها، وأنا مستعد للعقاب لأننى قتلت سيدة خيرها علينا» قال ذلك ثم سكت!
فى نفس الوقت خيم الصمت على القبور التى لم يعد يُسمع فيها سوى صفارات سيارات الشرطة، وأصوات السلاح، وهمهمات عناصر قوات التأمين التى انتشرت فى كافة المداخل والمخارج. حاجز الصمت اخترقه صوت الشاعر محمد عفيفى مطر قائلاً: «يا هذا.. تقول إنها كانت تساعد أمك وتعطيكم من بيتنا الذى بنيناه بالحب والعشرة الطيبة، وأنت اقتحمته بغبائك، وطمعك، وجهلك! وتقول إنها كانت تعطيكم من أرضنا التى زرعناها بعرقنا، وجهدنا. وأنت ذهبت لتسرقها بجشعك، وحقدك.. وشيطانك الذى دفعك لتقتل «أم لؤى» تلك المرأة، المثقفة، الناقدة، الكاتبة، الصبورة، الطيبة، التى أحببتها فى الحياة وكنت لها ـ منذ زواجنا ـ الأب والأخ والابن.. لقد بهرتنى بنظرتها، ووداعتها، وطيبة وجهها، ونقاء قلبها، فمنذ رأيتها فى بيت ملاصق لقريب لى قبل 50 سنة، وقعت فى غرامها من النظرة الأولى. وتقدمت إلى خطبتها عندما كانت طالبة تسكن فى المدينة الجامعية. أنا ما زلت أذكر هذه الأيام. وأذكر أول رسالة حب كتبتها لها وقلت فيها «من بين جميع البشر أظمأ إليك ظمأ ملتهباً قاسياً، وأرجو بين يديك الحياة والتفتح»، الحياة التى قتلتها أنت بيديك من أجل بضعة جنيهات لو كنت طلبتها منها ما كانت قد تأخرت عليك أبداً، وكانت ستعطيك مما أعطاه الله! فهى كانت تفعل ذلك مع كل فقراء القرية.
***
«قل يا أيها الضيف
من أى أرض أتيت
وفى أى ريح تكلمت
وفى أى ماء»
(الشرفة ـ ليلة الجريمة)
«الشاعر» ما زال يتحدث عن أيام الطفولة والصبا، والحب والزواج، والشعر والتعليم، والأرض والقمر، والقرية والسفر، ويتذكر أمه جليلة الجليلات «سيدة أحمد عمار» «فيض البركة فى الزمن الصعب» كما يصفها. ويسترجع نصائح أبيه وفقر أسرته، وكرامة عائلته، وأخلاق قريته. ونبل رجالها، وجمال نسائها فى ذلك الزمن الغابر.
أما «القاتل» فلا يذكر ـ فقط ـ سوى القتل، والموت، وحطام الزمن الحاضر. يقول عادل: «جلست عدة أيام أتابع منزلها لمدة قاربت الأسبوع، وذلك عن طريق الذهاب إلى جيم بجوار المنزل، وفى يوم تنفيذ الجريمة ذهبت ليلاً إلى المسكن وكسرت باب البلكونة» استعداداً لتنفيذ ذلك المخطط الإجرامى البشع الذى تمكن من نفسى وقتها!
***
«الموتُ قاسٍ، حائرُ الخطى
بلا ضميرْ
الموتُ يخنق الضياء والعبير»
(المقابر ـ بعد 30 دقيقة)
ـ يا هذا.. هل تعرف من أنا؟ أظنك لا تعرف؟ ولن تعرف؟ هكذا يسأل محمد عفيفى مطر ضيفه الثقيل فى دهشة ثم يرد على نفسه قائلاً: «أنا ابن القرية المصرية، والقرية عندى ليست بيئة طبيعة، بل بيئة إنسانية، فيها العمل، وأنماط الإبداع والفنون الشعبية. هذه القرية الجميلة كيف خرج منها أمثالك من أعداء الحياة؟ قد تقول ـ لتبرر لنفسك خستك وإجرامك ـ إنك فقير ومُعدم ومظلوم فى الحياة، ولا تملك طعام يومك، وهذا ـ وأنا لا أظنك كذلك ـ ليس مبرراً للإجرام، والوضاعة، والانهيار الأخلاقى، والانحطاط الإنسانى الذى كنت عليه لحظة تخطيطك وارتكابك للجريمة!
يا هذا.. أنا كنت أكثر منك فقراً، وكان من حسن حظى أو من سوئه ـ لست أدرى- أننى نشأت فى بيئة ريفية أفقر من التى نشأت أنت فيها، كان فى القرية العدل والظلم، والحلال والحرام، والقوة والضعف، كان فيها كل ذلك وما هو أسوأ من ذلك لكن كان فيها أخلاق. وأنا أخلاقى وقيمى ومثلى العليا جعلتنى أحاول أن يكون طعامى من عرقى، وأن تكون أيامى مجدية لى ولغيرى. وكما قلت ذات يوم ـ وأقول دائماً ـ كان أملى وحلمى أن أزود أرض مصر أرضاً خضراء جديدة ولو مساحة شبر واحد، وأترك فى اللغة ولو جملة واحدة! وأنا لم أنشأ فى المدن ولم أعمل فيها. والمدن التى اضطرتنى الظروف للعمل بها ـ مثل بغداد ـ اعتبرها قرية صغيرة. والقاهرة اعتبرها مدينة مختلفة مفزعة ولا أستطيع العيش فيها خصوصاً بعد سيادة البلطجة والزحام بها، ولذلك قررت أن أستقر فى قريتى، فى أرضى، فى قلب الطمى!
يا هذا.. مصر بدون طمى لا تكون مصر! ورجوعى للأرض ليس عودة، لكنه استمرار بعد قطيعة سببها البعد عن الغرس، والطين، والزرع. أنا عشت عمرى كله «75 عاماً» أحب الغيطان، وصوت أبو قردان، وندى الصباح، ورائحة الفلاح، ودخان الأفران، والترع والجسور، والجلابية الكستور، والفلاحة، وتربية الحيوان وخلايا النحل؛ لأن ذلك كله كان يوصلنى ويربطنى بالحياة. أما أنت ـ ومن مثلك ـ فلا تعرفون الفلاحة، ولا الكرامة، ولا الأخلاق، ولا الطمى، ولا القرية، ولا النيل، ولا الطين، ولا العرق، ولا الناس الطيبين، لذلك عشش فى قلوبكم وعقولكم الإجرام، والدم، والقتل، بعدما فسدت الذمم، وانهارت القيم، وتحولنا من عصور الأمل والعمل والإنتاج إلى عصور اليأس والبؤس والاستهلاك! الأمر الذى جعلك تتخلى عن كل المشاعر الإنسانية النبيلة وتصعد إلى شرفة بيتى فى جنح الظلام لتسرق وتقتل امرأة مسنة تعيش بمفردها مع كتبى وأشعارى وصورى وذكرياتنا الجميلة!
***
«ترُى من أى جُرح
ينزف القمر
وهذا الليل والإنسان والسفر»
(الصالة ـ ليلة الجريمة)
ما زال الصمت يخيم على المكان داخل المقابر، باستثناء خطوات قوات الحرس التى لا تتوقف، وما زال المتهم يواصل حديثه عن تلك الجريمة المؤسفة فى تلك الليلة الدامية قائلاً: «بعدما صعدت للشرفة كسرت الباب بـ«مفك» و«حديدة» فمهنتى أصلاً نجار مسلح، وهذه من أدوات عملى الدائم. ثم دخلت للصالة فى صمت وهدوء تام إلى أن فوجئت باستيقاظها من النوم لصلاة الفجر فقيدت يديها، وقدميها، ووضعت إيشارب على عينيها. هنا قالت: «على فكرة أنا عرفتك» فى هذه اللحظة قررت قتلها بالحديدة التى كانت فى يدى، فضربتها عدة ضربات على رأسها حتى سقطت غارقة فى الدم. وبعدما تأكدت إنها ماتت قمت بسرقة 4 آلاف جنيه وهربت ولم أتخيل يوماً أن تنكشف جريمتى».
***
«دفنّا فى جذور التوت موتانا
وعدنا...
نملأ الأفران دخّانا»
«المقابر ـ بعد 50 دقيقة»
الأبناء.. أنا لا أعرف ما حال الأبناء «لؤى وناهد ورحمة» بعد سماعهم نبأ جريمتك.. وفعلتك الخسيسة؟ هكذا يسأل الشاعر ثم بعد فترة صمت طويلة قبل أن يقول: «ولدتنى أمى على ضفاف النهر، وعشت طفولتى بالقرية ثم تخرجت من كلية الآداب ـ قسم الفلسفة - جامعة عين شمس. بعد ذلك عملت مدرساً فى محافظة كفر الشيخ التى قضيت فيها سنوات طويلة، أنشأت خلالها مجلة «سنابل» الأدبية التى جعلتها منشوراً ثورياً طالبت فيه بالخروج من حالة اللاحرب واللاسلم عام 1968 ثم رفضت الخط السياسى للرئيس السادات مما دفعنى للهروب إلى السودان ومنها سافرت إلى العراق لقناعتى بالدور الذى يجب أن يخوضه المثقف لدعم التوجه العروبى القومى وهذه القناعة هى التى دفعتنى لمعارضة ضرب العراق وعرضنى هذا لمحنة الاعتقال عام 1991. وفى قلب هذا المشوار كتبت وأصدرت أعمالى الشعرية والنثرية وبعض الترجمات ومنها «من مجمرة البدايات» و«أوائل زيارات الدهشة ـ سيرة ذاتية» «الجوع والقمر» و«ويتحدث الطمى» و«باعية الفرح» و«احتفالية المومياء المتوحشة» و«فاصلة إيقاعات النمل» و«أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت» و«النهر يلبس الأقنعة» و«صيد اليمام» و«شهادة البكاء فى زمن الضحك» و«كتاب الأرض والدم» و«رسوم على قشرة الليل» و«الجوع والقمر» و«من دفتر الصمت» و«ملامح من الوجه الأمبيذوقليسى» وغيرها من الأعمال. كل هذه الكتابات قدمتها وكل هذه المواقف اتخذتها، وكل هذا العمر عشته من أجل القرية والوطن والإنسان. ومن أجل الحق، والخير، والعدل.. وقدمت ذلك وفعلته دون أن «أغلق باباً فى وجه أحد، ودون أن أختطف شيئاً من يد أحد، ولم أكن عوناً على كذب أو ظلم أو فساد»! والآن قل لى يا هذا.. لماذا جئت إلى هنا الآن؟
ـ أطلب السماح يا أستاذ!
***
«أردتُ أن أفَتَّتَ الرءوس فى مقاصل الغناء
لأننى الَمفَّجعُ الوحيدُ فى مواسم الضحك
لأننى المغرد الوحيد فى حدائق البكاء»
(المقابر ـ بعد 50 دقيقة)
ـ يا هذا.. عد من حيث جئت.. وواجه مصيرك المحتوم.. فالقصاص عدل.. والحق عدل.. والعدل أن تشرب من كأس الموت، وطلبك هذا ليس عندى.. أنه عند الروح التى قتلتها بدم بارد. ويوم القيامة سوف تلتقى الخصوم وتلتقيك ـ أى تلك الروح ـ وتسألك: يا هذا.. بأى ذنب قتلت نفيسة؟
***
(المقابر ـ بعد 60 دقيقة)
الآن يغادر المتهم المقابر، وسط الحراسة الأمنية المشددة. أقدامه تحمله بصعوبة، ودموعه تتساقط بغزارة، وملامحه تصرخ بالندم، وجسده يعتصر من الألم. لقد حانت لحظة العودة استعداداً لتنفيذ الحكم والمصير المحتوم. ورغم أن أصوات السيارات، والمدرعات الأمنية، والأفراد تتداخل مع أصوات الغربان والبوم. إلا أن ذلك كله لم يمنع سماع صوتاً هتف فى الفضاء سمعه أهل القرى والقبور معاً يقول: «إنُما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بقَيَتْ/ فإن هُمُ ذَهَبَتْ أَخلاقُهُمْ ذَهَبوُا»! هذا الصوت ظل يتكرر عدة مرات فى الوقت الذى كان فيه الغروب قد بدأ يزحف على المقابر وأهلها والقرية وسكانها، حتى اختفى الركب الأمنى وراء الظلام !
** حضر الزيارة
خيرى حسن
** الأحداث حقيقية.. وسيناريو المقال من خيال الكاتب.
** ينُشر غداً الجمعة 2 يوليو - فى صحيفة الوفد.. بمناسبة ذكري رحيل الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر الذي رحل يوم 28 يونيو / 2010
** الأشعار المصاحبة للكتابة:
* الشاعر محمد عفيفى مطر.
* أمير الشعراء أحمد شوقى.
** الصور:
الشاعر محمد عفيفى مطر
الزوجة نفيسة محمد قنديل
القاتل السيد عادل محمد موسى
** المصادر:
كتاب: أوائل زيارات الدهشة «هوامش التكوين - سيرة ذاتية» الهيئة العامة للكتاب/ 2006
** الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر محمد عفيفي مطر/ طبعة الشروق - 1998
** الصحف:
الشرق / الحياة/ عكاظ/ الأهرام/ الأخبار/ الوفد/ الأسبوع.
الأهالى
** المجلات:
صباح الخير/ الأهرام العربى/ روزاليوسف / أدب ونقد.
***
«الويل.. الويل
من شجر ينبتُ فى
النيران
ويعشش فيه البوم الأخضرُ
والغربان»
(الإسكندرية ـ 2020)
داخل غرفة ضيقة، خافتة الضوء، ليس فيها سوى رائحة الموت، وأصوات أقدام، وبقايا كلام، ونهايات أحلام، ونتيجة على الحائط معلقة بلا أيام، وشباك صغير لا يتسرب منه سوى الندم، والدموع، والأحزان. يقف الشاب عادل يونس وشهرته «ولاء أبوحديدة» مرتدياً بدلته الحمراء فى انتظار تنفيذ حكم الإعدام داخل سجن برج العرب الذى يبعد 230كم شمال القاهرة. الآن يتقدم ببطء نحو حبل المشنقة، بعد الحكم النهائى الذى صدر ضده من الدائرة الثالثة جنايات ـ مدينة شبين الكوم. والذى جاء فيه: حكمت المحكمة برئاسة المستشار عبدالحليم حسين المسيرى بالإعدام شنقاً حتى الموت على المدعو «السيد عادل السيد يونس ـ 31 عاماً» قاتل السيدة «نفيسة محمد قنديل ـ 72 عاماً» زوجة الشاعر الراحل محمد عفيفى مطر بعد تأييد فضيلة المفتى للقرار فى القضية ـ التى حملت رقم 10589 جنايات ـ التى وقعت أحداثها الدامية فجر يوم 19 مارس 2019.
***
«لو جئت فى عباءة الهزيمة
فأفسحوا طريقى
ففى جيوبها دفاتر الجريمة»
(غرفة الإعدام ـ بعد 10 دقائق)
الآن يقف ممثل النائب العام ومأمور السجن ومعهما شيخ أزهرى. بعد دقائق قال الشيخ: «انطق بالشهادتين يا ابنى»؟
ـ عادل.. صامت، شاحب، جسده يرتعش، وشفتاه ترتجفان دون النطق بهما أو الرد عليه! بعد لحظات من الصمت الحزين جاء صوت آخر من قريب قائلاً: «عايز حاجة يا عادل قبل ما ننفذ الحكم»؟ هنا انتفض جسده وارتفع صوته: «أيوه.. عايز أزور قبر الشاعر محمد عفيفى مطر»!. وكرر طلبه المباغت عدة مرات وسط ضباب الحجرة، وصمت الحضور، واهتزاز حبل المشنقة المعلق بالمكان. بعد مداولات، واتصالات، واستشارات، واستراجاع لقانون الإجراءات الجنائية والمواد «471، 472، 473، 474، 475» انتهى الأمر واستقر ـ فى واقعة قد تكون غير مسبوقة ـ إلى تنفيذ تكليفات الجهات العليا التى وافقت على تأجيل تنفيذ الحكم لتحقيق الطلب الأخير للمتهم قبل موته شنقا!
***
«وقف الموتُ على الشباك
ساعات طويلة
كان فى هيئة صَقْرٍ ضامرٍ..
يسمع أنفاساً ضئيلة»
(المنوفية ـ 2020)
عدة سيارات مدرعة ـ بينها سيارة إسعاف ـ تسير بسرعة شديدة وسط حراسة أمنية مشددة، حتى اخترقت طرق وشوارع ومدن قرى الدلتا إلى أن وصلت ـ حاملة المتهم ـ إلى قرية «رملة الأنجب ـ مدينة أشمون» التى عاش ودفن بها الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر يوم 28 يونيو 2010. وسط المقابر وأمام قبره وقف المتهم بصوته المبحوح يتكلم هامساً:
«كانت الست «نفيسة» فضلها ـ بعد الله ـ علينا كبير، لأنها كانت تساعد والدتى فى المعيشة، وأنا ندمان على كل اللى حصل منى، والشيطان لعب دوراً كبيراً وقتها، وأنا مستعد للعقاب لأننى قتلت سيدة خيرها علينا» قال ذلك ثم سكت!
فى نفس الوقت خيم الصمت على القبور التى لم يعد يُسمع فيها سوى صفارات سيارات الشرطة، وأصوات السلاح، وهمهمات عناصر قوات التأمين التى انتشرت فى كافة المداخل والمخارج. حاجز الصمت اخترقه صوت الشاعر محمد عفيفى مطر قائلاً: «يا هذا.. تقول إنها كانت تساعد أمك وتعطيكم من بيتنا الذى بنيناه بالحب والعشرة الطيبة، وأنت اقتحمته بغبائك، وطمعك، وجهلك! وتقول إنها كانت تعطيكم من أرضنا التى زرعناها بعرقنا، وجهدنا. وأنت ذهبت لتسرقها بجشعك، وحقدك.. وشيطانك الذى دفعك لتقتل «أم لؤى» تلك المرأة، المثقفة، الناقدة، الكاتبة، الصبورة، الطيبة، التى أحببتها فى الحياة وكنت لها ـ منذ زواجنا ـ الأب والأخ والابن.. لقد بهرتنى بنظرتها، ووداعتها، وطيبة وجهها، ونقاء قلبها، فمنذ رأيتها فى بيت ملاصق لقريب لى قبل 50 سنة، وقعت فى غرامها من النظرة الأولى. وتقدمت إلى خطبتها عندما كانت طالبة تسكن فى المدينة الجامعية. أنا ما زلت أذكر هذه الأيام. وأذكر أول رسالة حب كتبتها لها وقلت فيها «من بين جميع البشر أظمأ إليك ظمأ ملتهباً قاسياً، وأرجو بين يديك الحياة والتفتح»، الحياة التى قتلتها أنت بيديك من أجل بضعة جنيهات لو كنت طلبتها منها ما كانت قد تأخرت عليك أبداً، وكانت ستعطيك مما أعطاه الله! فهى كانت تفعل ذلك مع كل فقراء القرية.
***
«قل يا أيها الضيف
من أى أرض أتيت
وفى أى ريح تكلمت
وفى أى ماء»
(الشرفة ـ ليلة الجريمة)
«الشاعر» ما زال يتحدث عن أيام الطفولة والصبا، والحب والزواج، والشعر والتعليم، والأرض والقمر، والقرية والسفر، ويتذكر أمه جليلة الجليلات «سيدة أحمد عمار» «فيض البركة فى الزمن الصعب» كما يصفها. ويسترجع نصائح أبيه وفقر أسرته، وكرامة عائلته، وأخلاق قريته. ونبل رجالها، وجمال نسائها فى ذلك الزمن الغابر.
أما «القاتل» فلا يذكر ـ فقط ـ سوى القتل، والموت، وحطام الزمن الحاضر. يقول عادل: «جلست عدة أيام أتابع منزلها لمدة قاربت الأسبوع، وذلك عن طريق الذهاب إلى جيم بجوار المنزل، وفى يوم تنفيذ الجريمة ذهبت ليلاً إلى المسكن وكسرت باب البلكونة» استعداداً لتنفيذ ذلك المخطط الإجرامى البشع الذى تمكن من نفسى وقتها!
***
«الموتُ قاسٍ، حائرُ الخطى
بلا ضميرْ
الموتُ يخنق الضياء والعبير»
(المقابر ـ بعد 30 دقيقة)
ـ يا هذا.. هل تعرف من أنا؟ أظنك لا تعرف؟ ولن تعرف؟ هكذا يسأل محمد عفيفى مطر ضيفه الثقيل فى دهشة ثم يرد على نفسه قائلاً: «أنا ابن القرية المصرية، والقرية عندى ليست بيئة طبيعة، بل بيئة إنسانية، فيها العمل، وأنماط الإبداع والفنون الشعبية. هذه القرية الجميلة كيف خرج منها أمثالك من أعداء الحياة؟ قد تقول ـ لتبرر لنفسك خستك وإجرامك ـ إنك فقير ومُعدم ومظلوم فى الحياة، ولا تملك طعام يومك، وهذا ـ وأنا لا أظنك كذلك ـ ليس مبرراً للإجرام، والوضاعة، والانهيار الأخلاقى، والانحطاط الإنسانى الذى كنت عليه لحظة تخطيطك وارتكابك للجريمة!
يا هذا.. أنا كنت أكثر منك فقراً، وكان من حسن حظى أو من سوئه ـ لست أدرى- أننى نشأت فى بيئة ريفية أفقر من التى نشأت أنت فيها، كان فى القرية العدل والظلم، والحلال والحرام، والقوة والضعف، كان فيها كل ذلك وما هو أسوأ من ذلك لكن كان فيها أخلاق. وأنا أخلاقى وقيمى ومثلى العليا جعلتنى أحاول أن يكون طعامى من عرقى، وأن تكون أيامى مجدية لى ولغيرى. وكما قلت ذات يوم ـ وأقول دائماً ـ كان أملى وحلمى أن أزود أرض مصر أرضاً خضراء جديدة ولو مساحة شبر واحد، وأترك فى اللغة ولو جملة واحدة! وأنا لم أنشأ فى المدن ولم أعمل فيها. والمدن التى اضطرتنى الظروف للعمل بها ـ مثل بغداد ـ اعتبرها قرية صغيرة. والقاهرة اعتبرها مدينة مختلفة مفزعة ولا أستطيع العيش فيها خصوصاً بعد سيادة البلطجة والزحام بها، ولذلك قررت أن أستقر فى قريتى، فى أرضى، فى قلب الطمى!
يا هذا.. مصر بدون طمى لا تكون مصر! ورجوعى للأرض ليس عودة، لكنه استمرار بعد قطيعة سببها البعد عن الغرس، والطين، والزرع. أنا عشت عمرى كله «75 عاماً» أحب الغيطان، وصوت أبو قردان، وندى الصباح، ورائحة الفلاح، ودخان الأفران، والترع والجسور، والجلابية الكستور، والفلاحة، وتربية الحيوان وخلايا النحل؛ لأن ذلك كله كان يوصلنى ويربطنى بالحياة. أما أنت ـ ومن مثلك ـ فلا تعرفون الفلاحة، ولا الكرامة، ولا الأخلاق، ولا الطمى، ولا القرية، ولا النيل، ولا الطين، ولا العرق، ولا الناس الطيبين، لذلك عشش فى قلوبكم وعقولكم الإجرام، والدم، والقتل، بعدما فسدت الذمم، وانهارت القيم، وتحولنا من عصور الأمل والعمل والإنتاج إلى عصور اليأس والبؤس والاستهلاك! الأمر الذى جعلك تتخلى عن كل المشاعر الإنسانية النبيلة وتصعد إلى شرفة بيتى فى جنح الظلام لتسرق وتقتل امرأة مسنة تعيش بمفردها مع كتبى وأشعارى وصورى وذكرياتنا الجميلة!
***
«ترُى من أى جُرح
ينزف القمر
وهذا الليل والإنسان والسفر»
(الصالة ـ ليلة الجريمة)
ما زال الصمت يخيم على المكان داخل المقابر، باستثناء خطوات قوات الحرس التى لا تتوقف، وما زال المتهم يواصل حديثه عن تلك الجريمة المؤسفة فى تلك الليلة الدامية قائلاً: «بعدما صعدت للشرفة كسرت الباب بـ«مفك» و«حديدة» فمهنتى أصلاً نجار مسلح، وهذه من أدوات عملى الدائم. ثم دخلت للصالة فى صمت وهدوء تام إلى أن فوجئت باستيقاظها من النوم لصلاة الفجر فقيدت يديها، وقدميها، ووضعت إيشارب على عينيها. هنا قالت: «على فكرة أنا عرفتك» فى هذه اللحظة قررت قتلها بالحديدة التى كانت فى يدى، فضربتها عدة ضربات على رأسها حتى سقطت غارقة فى الدم. وبعدما تأكدت إنها ماتت قمت بسرقة 4 آلاف جنيه وهربت ولم أتخيل يوماً أن تنكشف جريمتى».
***
«دفنّا فى جذور التوت موتانا
وعدنا...
نملأ الأفران دخّانا»
«المقابر ـ بعد 50 دقيقة»
الأبناء.. أنا لا أعرف ما حال الأبناء «لؤى وناهد ورحمة» بعد سماعهم نبأ جريمتك.. وفعلتك الخسيسة؟ هكذا يسأل الشاعر ثم بعد فترة صمت طويلة قبل أن يقول: «ولدتنى أمى على ضفاف النهر، وعشت طفولتى بالقرية ثم تخرجت من كلية الآداب ـ قسم الفلسفة - جامعة عين شمس. بعد ذلك عملت مدرساً فى محافظة كفر الشيخ التى قضيت فيها سنوات طويلة، أنشأت خلالها مجلة «سنابل» الأدبية التى جعلتها منشوراً ثورياً طالبت فيه بالخروج من حالة اللاحرب واللاسلم عام 1968 ثم رفضت الخط السياسى للرئيس السادات مما دفعنى للهروب إلى السودان ومنها سافرت إلى العراق لقناعتى بالدور الذى يجب أن يخوضه المثقف لدعم التوجه العروبى القومى وهذه القناعة هى التى دفعتنى لمعارضة ضرب العراق وعرضنى هذا لمحنة الاعتقال عام 1991. وفى قلب هذا المشوار كتبت وأصدرت أعمالى الشعرية والنثرية وبعض الترجمات ومنها «من مجمرة البدايات» و«أوائل زيارات الدهشة ـ سيرة ذاتية» «الجوع والقمر» و«ويتحدث الطمى» و«باعية الفرح» و«احتفالية المومياء المتوحشة» و«فاصلة إيقاعات النمل» و«أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت» و«النهر يلبس الأقنعة» و«صيد اليمام» و«شهادة البكاء فى زمن الضحك» و«كتاب الأرض والدم» و«رسوم على قشرة الليل» و«الجوع والقمر» و«من دفتر الصمت» و«ملامح من الوجه الأمبيذوقليسى» وغيرها من الأعمال. كل هذه الكتابات قدمتها وكل هذه المواقف اتخذتها، وكل هذا العمر عشته من أجل القرية والوطن والإنسان. ومن أجل الحق، والخير، والعدل.. وقدمت ذلك وفعلته دون أن «أغلق باباً فى وجه أحد، ودون أن أختطف شيئاً من يد أحد، ولم أكن عوناً على كذب أو ظلم أو فساد»! والآن قل لى يا هذا.. لماذا جئت إلى هنا الآن؟
ـ أطلب السماح يا أستاذ!
***
«أردتُ أن أفَتَّتَ الرءوس فى مقاصل الغناء
لأننى الَمفَّجعُ الوحيدُ فى مواسم الضحك
لأننى المغرد الوحيد فى حدائق البكاء»
(المقابر ـ بعد 50 دقيقة)
ـ يا هذا.. عد من حيث جئت.. وواجه مصيرك المحتوم.. فالقصاص عدل.. والحق عدل.. والعدل أن تشرب من كأس الموت، وطلبك هذا ليس عندى.. أنه عند الروح التى قتلتها بدم بارد. ويوم القيامة سوف تلتقى الخصوم وتلتقيك ـ أى تلك الروح ـ وتسألك: يا هذا.. بأى ذنب قتلت نفيسة؟
***
(المقابر ـ بعد 60 دقيقة)
الآن يغادر المتهم المقابر، وسط الحراسة الأمنية المشددة. أقدامه تحمله بصعوبة، ودموعه تتساقط بغزارة، وملامحه تصرخ بالندم، وجسده يعتصر من الألم. لقد حانت لحظة العودة استعداداً لتنفيذ الحكم والمصير المحتوم. ورغم أن أصوات السيارات، والمدرعات الأمنية، والأفراد تتداخل مع أصوات الغربان والبوم. إلا أن ذلك كله لم يمنع سماع صوتاً هتف فى الفضاء سمعه أهل القرى والقبور معاً يقول: «إنُما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بقَيَتْ/ فإن هُمُ ذَهَبَتْ أَخلاقُهُمْ ذَهَبوُا»! هذا الصوت ظل يتكرر عدة مرات فى الوقت الذى كان فيه الغروب قد بدأ يزحف على المقابر وأهلها والقرية وسكانها، حتى اختفى الركب الأمنى وراء الظلام !
** حضر الزيارة
خيرى حسن
** الأحداث حقيقية.. وسيناريو المقال من خيال الكاتب.
** ينُشر غداً الجمعة 2 يوليو - فى صحيفة الوفد.. بمناسبة ذكري رحيل الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر الذي رحل يوم 28 يونيو / 2010
** الأشعار المصاحبة للكتابة:
* الشاعر محمد عفيفى مطر.
* أمير الشعراء أحمد شوقى.
** الصور:
الشاعر محمد عفيفى مطر
الزوجة نفيسة محمد قنديل
القاتل السيد عادل محمد موسى
** المصادر:
كتاب: أوائل زيارات الدهشة «هوامش التكوين - سيرة ذاتية» الهيئة العامة للكتاب/ 2006
** الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر محمد عفيفي مطر/ طبعة الشروق - 1998
** الصحف:
الشرق / الحياة/ عكاظ/ الأهرام/ الأخبار/ الوفد/ الأسبوع.
الأهالى
** المجلات:
صباح الخير/ الأهرام العربى/ روزاليوسف / أدب ونقد.