فراس زوين - قراءة في كتاب "الموت والعبقرية

"أن الحياة تقتضي الموت، وما الموت إلا حد للحياة، وهو الصورة التي تلبسها الحياة وتحطمها فيما بعد، وهذه الصورة لا توجد في اللحظة الأخيرة فحسب بل توجد في كل لحظة من لحظات الحياة" .

الموت والعبقرية ،، كتاب للدكتور المصري عبدالرحمن بدوي يحتوي على 264 صفحة، يتناول من خلاله الموت بمعناه الفلسفي، وارهاصاته داخل الروح الانسانية بأعتبار الموت هو النهاية الحتمية لكل ما هو محسوس، وقد يبدوا للقارئ لأول وهلة أن الكاتب يتناول مشكلة جزئية من مشاكل الوجود ولكن الكتاب لا يلبث يتوسع حتى يكاد أن يكون بحث شاملاً في الوجود بمفهومه الفلسفي العام.

#الموت بين الاشكال والمشكلة

‏ في بداية الكتاب يستعرض الدكتور بدوي الموت كفكرة تحتوي على إشكالية، وما تلبث ان تتحول هذه الإشكالية الى مشكلة تلح في طلب الحل، ومن هذا الفهم الفلسفي يأخذنا عبدالرحمن بدوي امام سؤال مهم .
"هل الموت مشكلة ؟ أوليس الموت واقعة ضرورية كلية لابد لكل فرد أن يعانيها ويمر بها يوماً ما"؟
ولإدراك طبيعة هذا السؤال لابد للقارئ التفريق بين الاشكال والمشكلة، من حيث الاصطلاح، من جهة ومدى واقعية اطلاقهما على الموت من جهة أخرى .
فالإشكال : هو صفة تطلق على كل شيء يحتوي في داخل ذاته على تناقض وتقابل في الاتجاهات.
والمشكلة : هي الشعور بالألم الذي يحدثه هذا الطابع الاشكالي، ووجوب رفع هذا الطابع وازالته ومحاولة القضاء عليه .

‏وبعد ان يضع المؤلف الحد الفاصل بين الأشكال المشكلة يعمد إلى صفة الاشكالية على الموت من خلال أربع تناقضات يتصف بها الموت .

أولاً : الموت فعل فيه قضاء على كل فعل .
ثانياً : الموت نهاية الحياة بمعناها المتناقض فقد تكون هذه النهاية بمعنى الأمان وبلوغ حد النضج والكمال، وقد تكون بمعنى وقف الإمكانيات عند حد وقطعها عند درجة، مع بقاء كثير من هذه المكانيات غير متحققة بعد .
ثالثاً : انه إمكانية معلقة، أي بمعنى انه ممكن واقع لا محالة، ولكنه مؤجل، فهو واقع مؤكد مما لاريب فيه، ولكنه ليس بواقع بعد.
رابعاً : ‏إن الموت حادث كلي كلية مطلق من ناحية، وجزئي جزئية مطلقة من ناحية أخرى، فالكل فانون لكن كل يموت وحدث ولابد ان يموت هو بنفسه، ولا يمكن ان يكون بديلاً عن احد ولا بديله احد.
‏فعلى هذه التناقضات الأربعاء يكون الموت اشكالاً بامتياز ولكن متى يكون الموت مشكلة ؟؟؟

"يكون الموت مشكلة عندما يشعر الإنسان شعور قوي واضح بهذه الاشكال ويحاول أن ينفذ إلى سره العميق الدقيق" وهذا ما شغل بال فيلسوفنا عبدالرحمن بدوي كما شغل من قبل بال الفلاسفة والشعراء وارباب الحكمة والمعرفة.

#الموت والذكرى
‏ان رغبة بدوي في إدراك معنى الموت وترسباته داخل النفس الإنسانية دفعته للغوث عميقاً في احساسه الداخلي فوجد هناك ارتباط وثيقً بين الحب والموت، فلا يكاد يتصور احدهما دون الاخر، ولعل مرد هذا كما يصفه بنفسه الى "ان اعمق تجربة للحب عانيتها طوال محياي قد قدر لموضوعها ان يغتاله الموت والتجربة لما تبلغ ظهيرتها بعد، بل ولا ضحاها؟" .

ويعترف الكاتب بان عجزه عن ادراك كنه الآصرة بين الحب والموت دفعه الى التماس الأجوبة الشافية عند الشعراء فوجدهم يعانون نفس الحيرة والقلق، ويقرون هذه العلاقة بل ويؤيدونها بالاتحاد التام بين الاثنين، فهذا الشاعر الالماني الشاب الحزين "نوفالس" (1772-1801) يقول ان الحب لا يكون عذباً في شيء كما يكون في الموت" وكذلك الشاعر والكاتب الإيطالي "ليوباردي" (1798-1837) يلح بهذا التوكيد بل ويزيد عله بان الحب خيراً ايجابياً ينشئ عنه اسمى ما في الوجود من نعيم، والموت خيراً هو الاخر لكنه خيراً سلبي، لان به يمحى ما في الوجود من شقاء وعذاب، فالوجود بدون الحب يبدوا مقفراً وكأنه العدم اذا لم يعمره الحب العميق.

ومع هذا فان بدوي لا يجد ضالته عند الشعراء، فهم يصفون ولا يعللون، ويحسنون الشعور ولا يبينون، فيطلب الإجابة عند المتصوفين الغرب فيبدأ عند القديسة "تريزا" التي تتغنى بهذه الصلة في نبرات حادة وقعتها على أوتار قلب ملتهب بنار الحب الإلهي "ما اقوى هذا الحب الذي هو كل كياني، هلمي ايتها الحياة فغادرنا، فاني اريد ان افقدك لكي اكسبك، فهذا ما بقي في مقدوري، على ما انا عليه من ضعف تعال الي إذاً أيها الموت عذباً رقيقاً كالنسيم، لأني اموت من كوني لا اموت" فما الموت عند "القديسة تريزا" سوى انعتاق الروح واطلاقها في فضاء الحرية للاندماج بالمصدر الأول، فهو شوق الى السمو الذي لا يتحقق الا بالفناء.

وثمة تصوير اخر للصلة بين الحب والموت عند الصوفية، نجده عند القديس "يوحنا الصليبي" الذي يربط بين الاثنين على أساس فكرة "الليلة الظلماء" والتي هي حالة من العشق الإلهي تتراوح بين الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، والقلق والطمأنينة ، والغيبة والمشاهدة، والقبض والبسط، تنتهي عند ما يسميها المتصوفة المسلمين باسم الصعق اوالمحو اوالطمس وفيها يكون الشعور بالعشق بالغاً أوجه، وتكون الرغبة بالموت الذي يمثل العودة الى الاصل على اشدها، وهذا لا يتحقق الا في "الليلة الظلماء" والتي لا تعني سوى الموت عند "القديس يوحنا الصليبي".


الترجمة الذاتية

منذ ان بدأ الإنسان يدرك ذاته، ‏وعندما اصبح الإنسان مسألة بالنسبة إلى نفسه، وحاول أن يجد جوابا لهذه المسألة، برزت الحاجة الملحة إلى وجود فن يقيد فيه الإنسان تجاربه الذاتية في طريقه إلى معرفة نفسه، وإدراك ما حوله ومن حوله، اي بمعنى ادق برزت الحاجة إلى فن كتابة السيرة الذاتية لتدوين التجارب الحياتية التي مر بها أصحابها ونقلها للأجيال القادمة، لرسم مسار للوعي الإنساني خارج حدود الحياة الضيقة بل خارج الحدود الطبيعية للموت، هنا بالذات تكون الحاجة الى صفحات خطت لتكون شاهدا على وجودها وتضل باقية ما بقى للإنسان وعي ووجود.

وبالرغم من أهمية السيرة الذاتية في الادب والتاريخ والفن، الا ان بدوي لا ينكر وجود بعض المفارقات والتناقضات في هذه العملية، فان كتاب الترجمة الذاتية ‏فنانون قبل كل شيء، ومعنى هذا أنهم لا يستطيعون أن يسردوا الوقائع سرداً ويسجلونها تسجيلاً خالصاً، بل من البديهي ان تدخل فيها صفة الصنعة والخيال، ومن هذا الخيال تحديداً تدخل الإضافات الى الحقيقية، بصورة قد تكون مقصودة وغير مقصودة في بعض الأحيان.

ويتطرق بدوي إلى مجموعة من العوامل تأخذ كتاب السيرة الذاتية وتدفع بهم باتجاه خلاف الواقع، فالذاكرة ليست الة صماء تسجل الاحداث والأفكار دون تشويه او تمويه، او زيادة ولا نقصان وانما هي جزء من نسيج الانسان الحي وتكاد تكون كائن حي تتطور وتتغير وتخضع للعديد من العوامل، فان كاتب السيرة الذاتية قد يختار الأحداث المهمة الضخمة في حياته ويسلط الضوء عليها دون سواها ليعطي انطباع للقارئ انه شخص عظيم، ولكن الواقع خلاف ذلك، بالإضافة الى وجود عوامل أخرى مثل الحياء الباطني الذي يعد الرقيب على جوهر الإنسان والمسؤول عن كتم اسراره وحراستها بطرق ملتوية عديدة قد لا تخطر على بال اكثر القراء فطنة وذكاء، كما في "اعترافات جان جاك روسو" الذي ينقل عن نفسه صورة وحشية وهو يرمي بأطفاله الى ميتم اللقطاء بدعوى التفرغ للفكر والادب، ليخفي بالمقابل حقيقة اكثر ايلاماً بالنسبة اليه وهي انه لم يكن لديه أولاد !!! فهذا الحياء الباطني من عدم انجابه للأطفال هو ما دفعه لتحريف الواقع وصبغه بالوان غير واقعية للهروب من واقع اشد ايلاماً .

#السل وفن اليوميات

في القسم الأخير من الكتاب يتناول الدكتور عبدالرحمن بدوي بعض من سيرة ثلاثة من ارباب الفكر والفن والشعر في اوربا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ممن لا يرون العالم كما يراه الانسان العادي، فهم يستمدون ملذاتهم من ينبوع اخر، ولا يرتوون من المسرات الصاخبة، التي يكون للبدن فيها نصيب اكبر من الروح، بل انهم ركنوا الى متع روحية اعلى واكمل، ممزوجة بشعور الحزن، تذكرهم دائماً بفكرة الموت وفناء الحياة، وهذا هو الملهم والدافع بل هو النعيم لتلك النفوس المضطربة، فكانت هذه اليوميات التي كتبوها بأيديهم تحت وطئة الموت الذي القى بظلاله عليهم، وكان الدافع الرئيسي لتدوين هذه اليوميات وتحدي فناء الموت من خلال وجود يطول ويبقى مع بقاء كتاباتهم.

ماريا بشكرتسيف : (1884- 1858) الرسامة الأوكرانية الأصل والروسية الجنسية، البارعة والتي دمرت معظم اعمالها الفنية خلال الحرب العالمية الثانية، والتي حاولت ان تقص للناس من خلال يومياتها التاريخ الكامل لامرأة تحدت الموت والفناء، بكل افكارها وامالها وما عندها من خيبة امل، وما آذى قلبها من خسة الناس ولؤم طباعهم، وما نعمت به من جمال واستشعرته من مباهج واحزان، وكيف نمت طفلة وتطورت حتى أصبحت امرأة، فكانت في يومياتها لا تخفي أي خاطرة ولا أي شك، بل تظهر نفسها بكل صدق، فقررت لهذا الصدق ان لا تنشر هذه اليوميات الا بعد وفاتها لأنها كما تصف نفسها "عرضت نفسي عارية الى حد لا يسمح لي بإشهار نفسي هكذا أيام حياتي".

نوفالس : (1772-1801) الشاعر الرومانتيكي الحالم، هذا الكائن النوراني الرقيق الذي اثر ان يقتل كل مشاعره ورغباته بعد موت خطيبته "صوفي" وعقد العزم على الاستشهاد في سبيل ذكراها دون ان يدع شعوره بالألم لفقدها ان يتبدد من داخله، فكان لسنوات طويلة يعيش في حداد نفسي هائل، فسطر من ذلك في يومياته أروع صفحات الذكرى والملامة على الموت الذي اقتطف زهرته الغالية باكراً قبل اوانها وسلب منه كل معنى للحياة.

موريس دي جيران : (1810-1839) هذا الشاب الرقيق الهادئ ذو النزعة الصوفية المفرطة في الإحساس بالطبيعة التي حوله، والذي آثر العزلة والانفراد على الاختلاط والصخب واثر الطبيعة على الصحبة والرفقة، فكشف في يومياته الأليمة ما كان يشعر به من طعم الرماد في كل ما حوله من الوجود، لنكتشف من خلال مقاطع عديدة في مذكراته ان تجربته مع الموت هي السبب في هذا المزاج القاتم كما يصف في احدى المقاطع "ان الاقدمين كانوا في وسط شهواتهم وملذاتهم يذكرون انفسهم بفكرة الموت وفناء الحياة، والوحدة وهزيم الريح وتأمل السماء، هذا هو مصدر النعيم لتلك النفوس".

#الخاتمة

ان الموت كما يراه الدكتور عبدالرحمن بدوي عنصر جوهري في الوجود وليس عارض فمتى كان الوجود كان الموت بالضرورة، ومن هذا المبدأ فان الموت هو النهاية، ولكن هذا الانتهاء موجود مع وجود البداية وملازم له، فمع بداية أي شيء فأن ذلك الشيء حمل في ذاته نهاية الموت وحتميته، او كما يصفهما "جوستان غاردر" في رائعته عالم صوفي بان الموت والحياة كوجهين لقطعة نقدية واحدة يلتصقان ظهراً لظهر، وعلى هذا النحو فان الوجود هو "وجود فناء" وهذه البداية هي نهاية لايحققها سوى الموت .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...