د. صبري محمد خليل خيري - الفن الهابط : تحليل منهجي لأسبابه وآليات محاربته

تعريف الفن الهابط: تعددت تعريفات الفن الهابط ، كمحصلة لتركيز كل تعريف على على بعض عناصره .ويمكن تقديم تعريف شامل له بالجمع بين كل – او على الاقل اغلب- عناصره ، ومضمونه هذا التعريف ان الفن الهابط هو عمل فني يتناقض من حيث المضمون مع المعايير القيمية ، ومن حيث الشكل مع المعايير الجمالية.
ويترتب على هذا التعريف التالى:
أولا: أن معيار الحكم على العمل الفني المعين كونه هابط يتصل بشكل هذا العمل الفني ومضمونه معا.
ثاني:ان الفن الهابط هو في حقيقة الأمر ليس فنا، اى انه ليس فن “حقيقي”
بل هو فن “زائف” ، لان الفن “الحقيقي ” هو فن سامي و راقي، لأنه يتسق من حيث الشكل والمضمون مع المعايير الجمالية والقيميه.
التمييز بين الفن الهابط والفن الشعبي: يخلط بعض الباحثين بين الفن الهابط والفن الشعبي ،بينما تعريف الفن الهابط مذكور أعلاه، أما تعريف الفن الشعبي” الفلكلور” فهو : عمل فني تلقائي ارتجالي ، تقره وتحفظه جماعه معينه، حتى يصبح جزء من بنيتها الحضارية.
المراحل التاريخية للفن الهابط في العصور الحديثة والمعاصرة: رغم أن الفن الهابط ظهر في كل العصور، إلا أن مؤرخو تاريخ الفن والنقاد أشاروا إلى مراحل تاريخية معينة ، ساد فيها الفن الهابط ، رغم وجود نماذج للفن الراقي في هذه المراحل.
أولا: في تاريخ الفن الغربي الحديث والمعاصر :
ظهور المفهوم في تاريخ الفن الغربي الحديث: يرى كثير من الباحثين أن مفهوم “الفن الهابط “ظهر في تاريخ الفن الغربي نحو الأعوام 1860- 1870 ، في بافاريا، عبر نمطية أسلوب لويس الثاني وطبقا لها فقد ارتبط المفهوم بفكرة الأعمال الفنية المزيفة”اى التي تستنسخ الأعمال الفنية الكلاسيكية ” والمثقلة بالتفاصيل وبالذوق الفني السيئ.
المراحل التاريخية للفن الهابط في تاريخ الفن الغربي: كما يرى هؤلاء الباحثين أن الفن الهابط قد مر بمراحل تاريخية معينة في تاريخ الفن الغربي وهى :
المرحلة الأولى ) منتصف القرن التاسع عشر): المرحلة الأولى من الفن الهابط فى تاريخ الفن الغربى، ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر،حيث أدى التصنيع والمدنية في أوروبا وأمريكا الشمالية الى ظهور طبقة وسطى جديدة قامت بتطوير ذوق”فنى” يميل إلى أعمال رخيصة تقلّد الفن التقليدي الراسخ.
المرحلة الثانية(منتصف القرن العشرين): وانه في منتصف القرن العشرين، تطورت المرحلة الثانية من الفن الهابط، ليصبح هدفا مفضلاً للانتقادات الموجّهة لمفهوم الثقافة الجماهيرية. فقد استخدم المثقفون اليساريون الفن الهابط لإدانة ثقافة المجتمع الاستهلاكيّ المتنامي.
العولمة :وأخيرا فإنه بالتوازي مع العولمة التدريجية للأسواق والمنتجات المتداوَلة، أصبح الفن الهابط تلقائياً من الأساليب الأكثر انتشاراً في العالم من خلال عمليات الاستهلاك المعروفة.
ما بعد الحداثة: أما اليوم فانه يمكن القول إن الاتجاهات الجمالية ما بعد الحداثية قد أعادت إلى حد كبير تثمين مفهوم الفن الهابط على أساس نظري طالما وقع السجال معها تشكيلياً .(عمود تلويحة المدى – شاكر لعيبي / ما هو الفن الهابط “الكيتش”؟)
ثانيا:في تاريخ الفن العربي الحديث والمعاصر: يشير كثير من النقاد إلى أن الفن العربي الحديث والمعاصر قد مر بمرحلتين أساسيتين هما مرحلتي الفن الجميل والفن الهابط (تلك المقارنة بين زمن الفن الجميل والفن الهابط هذه الأيام تجعلني أجزم بأننا كنا مجتمعاً أكثر تحضراً قبل 50 عاماً عما نحن عليه الآن.. مجتمع راق وواع يتمسك بالعادات والتقاليد والقيم الرفيعة وطاعة الوالدين واحترام الكبير وهي أشياء افتقدناها هذه الأيام وما أحوجنا إليها الآن) (سامي حامد/ كلام بالعقل )
المرحلة الأولى (مرحله الفن الجميل): وهى التي شاع فيها الفن السامي والراقي رغم وجود نماذج للفن الهابط فيها، وقد تلازمت بدايتها مع بداية التاريخ العربي المعاصر و المشاريع النهضوية التي ظهرت فيه، ومنها المشروع النهضوى السياسي لمحمد على باشا، و القائم على أساس امبراطورى”اى محاولته تأسيس إمبراطورية عربيه حديثه، قادرة على مواجهة القوى الاستعمارية الناشئة في أوربا”، ومنها محاولات النهوض الفكري بالثقافة العربية- الإسلامية، لمواجهة التغريب الذي اخذ شكل محاوله الاستعمار القديم اقتلاع الشخصية العربية من جذورها العربية الإسلامية ، ومنها نشوء الحركات الوطنية المطالبة بالاستقلال، وبلغت ذروتها بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 في مصر بقياده الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، والذي تولى القيادة الجماهيرية لحركة التحرر القومي العربي من الاستعمار القديم”البريطاني /الفرنسي/الايطالي…”، والاستيطاني”الصهيوني” ، والجديد “الامبريالي الأمريكي " طوال عقدى الخمسينات والستينات ، والتي أثمرت نيل الدول العربية لاستقلالها .
مرحله الفن الهابط:وهى التي شاع فيها الفن الهابط رغم وجود نماذج للفن السامي والراقي فيها ،وكانت بدايتها بعد تولى الرئيس محمد أنور السادات السلطة في مصر بعد وفاه الزعيم جمال عبد الناصر 1970،ثم ارتداده عن سياسات الزعيم الراحل التي اتسقت – في مجملها – مع غايات الاراده الشعبية العربية ، فانتقل من مناهضة الاستعمار القديم و الاستيطاني والجديد، إلى التبعية إلى الغرب بقياده الولايات المتحدة الأمريكية تحت شعار”تسعه وتسعون في المائة من أوراق اللعب فى يد أمريكا، ومقاطعه العرب والانحياز إلى الصهيونية “اتفاقيه كامب ديفيد”، ومن إقامة اقتصاد يسعى لتحقيق التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية، إلى تطبيق النظام الاقتصادي الرأسمالي الربوى تحت شعار” الانفتاح الاقتصادي”.،ثم سير العديد من النظم العربية على ذات الخط. كما ظهرت مرحله جديدة من مراحل الفن الهابط بعد انتهاء الثنائية القطبية بانهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية، وظهور القطب الواحد بانفراد الولايات المتحدة الامريكيه بقياده العالم،وما لازم ذلك من ثوره في وسائل الاتصال والإعلام”ظهور الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي فيه والقنوات الفضائية والموبايل…” هذه الثورة كان لها جوانب إيجابية كالتواصل الذي تجاوز الحدود السياسية، وازدياد معرفة الناس بالواقع ، وإتاحة الخاصية التفاعلية لوسائل الإعلام المعاصرة للارادة الشعبية أن تعبر عن ذاتها،كما ان لها جوانب سلبية منها الغزو الفكري والثقافي الذي يهدف الى اجتثاث الشخصية الوطنية والقومية من جذورها، عن طريق محاوله استبدال المفاهيم والقيم الوطنية والقومية بقيم ومفاهيم الحضارة الغربية.
أسباب ظاهرة الفن الهابط:
أسباب فنيه” غياب الفن الراقي”
: خلو الساحة الفنية من الفن الراقي ، فالنزوع للجمال والتذوق الجمالي أمر فطرى كما قررت النصوص كما فى قوله (صلى الله عليه وسلم) ( إن الله جميل يحب الجمال ) ، لذا فان الموقف الحقيقي للإسلام من الفنون كمحاولة لإشباع التذوق الجمالي الفطري- هو الضبط وليس المنع- لذا فان غياب الفن الراقي يمهد الطريق أمام ظهور الفن الهابط استنادا إلى قاعدة “الطبيعة تكره الفراغ”.
أسباب نفسيه : الإحباط ومحاوله الهروب من الواقع: ترى الدكتورة عزة كريم أستاذ العلوم الاجتماعية في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بمصر أن الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي يشعر بها الشباب، والتي تؤدي إلى تعرضهم لمشاعر الإحباط والاكتئاب في أوقات كثيرة ، هي السبب في اندفاعهم نحو أعمال فنية هابطة، لمجرد تفريغ شحنة الاكتئاب أو الإحباط.كما يرى باحثين آخرين أن من أسباب الإقبال على الفن الهابط محاوله الهروب من الواقع ومشاكله.
أسباب اقتصاديه”تطبيق النظام الراسمالى و ترك الإنتاج الفني للقطاع الخاص”:تطبيق الدول العربية للنظام الاقتصادي الرأسمالي تحت شعارات “الانفتاح الاقتصادي ، الخصخصة ، التحرير/ الإصلاح الاقتصادي..”، والذي يتناقض مع القيم الحضارية والدينية للشخصية العربية المسلمة،والذي يحول اى نشاط انسانى” بما فيه الفن” إلى سلعة ،ويتصل بتطبيق النظام الرأسمالي ترك الإنتاج الفني للشركات الخاصة التي تستهدف الربح .
أسباب حضاريه : الغزو الثقافي والتغريب: الغزو الثقافي والتغريب الذي يحاول اقتلاع الشخصية العربية من جذورها العربية – الإسلامية المشاريع، تقف وراء هذا الغزو الثقافي والتغريب العديد من القوى ومنها القوى التي تقف وراء مشروع الشرق الأوسط الجديد- الامبريالي – الصهيوني ، والذي يهدف إلى الارتداد بالنظام السياسي العربي من مرحله التجزئة على أساس شعوبي “الدول الوطنية العربية “، بعد اتفاقيه “سيكس بيكو”، بين قوى الاستعمار القديم (بريطانيا وفرنسا) ، إلى مرحله التفتيت على أساس طائفي / قبلي – عشائري”الدويلات”.
أسباب عالميه: النظام الاقتصادي العالمي” نظام التفاهة”: يرى أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية الكندي ألان دونو فى كتابه “نظام التفاهة ”أن التافهين قد سيطروا على عالمنا وباتوا يحكمونه، ويرجع ذلك إلى عاملين:العامل الأول: تغير مفهوم العمل(تنميط العمل تشييئه)، والعامل الثاني: حكم التكنوقراط واستبدال الاراده الشعبية بالمقبولية الاجتماعية ، بناء على هذا التحليل فان من أسباب شيوع الفن الهابط على مستوى العالم ،ما أطلق عليه دونو”نظام التفاهة” ، والذي هو مرحله من مراحل تطور النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي.
أسباب سياسيه”الاستبداد”:ومن أسباب شيوع الفن الهابط أن النظم الاستبدادية تعمل على الهاء الشباب عن النشاط السياسي بكل السبل بما فيها تشجيع او على الأقل إفساح المجال أمام الفن الهابط.
آليات محاربة الفن الهابط:وقد اقترح الباحثون الكثير من آليات محاربة الفن الهابط ومنها:
· العمل على تحقيق توازن بين حرية الإبداع الفني ،والضوابط القيمية والأخلاقية للإبداع الفني.
· الاهتمام بمادة التربية الفنية في المراحل التعليمية المختلفة.
· التأكيد على دور الدولة والقطاع العام في تشجيع الفن السامي والراقي.
· المقاطعة الشعبية للأعمال الفنية الهابطة.
للمزيد انظر ( داليا أيسر / الفن الهابط ارمه مجتمع)
· منع الفن الهابط محل إجماع بين العلماء: ومن الناحيه الدينيه فلنه إذا كان العلماء قد اختلفوا في حكم الفنون الى مذهبين هما المنع والضبط ، فان منع الفن الهابط هو محل إجماع بينهم ، لان من قال منهم بالاباحه – مذهب الضبط – لم يقل بالإباحة المطلقة ، بل الاباحية المقيده بعدم التناقض مع الضوابط الشرعية ،وبالتالي فهي لا تشمل الفن الهابط ، وهنا نشير إلى بعض أقوال بعض العلماء القائلين بمذهب الضبط ، والتي تدل على تقريرهم منع الفن الهابط الذى “يحرك الصفات الذميمة ويثير الهوى ويوقظ الغزائر” بتعبيرهم، حيث يقول الإمام العز بن عبد السلام (ان السماع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:1-منها ما هو حرام محض: وهو لأكثر الناس من الشباب ومن تغلبت عليهم شهواتهم ولذاتهم ، وملكهم حب الدنيا. وتكدرت بواطنهم وفسدت كل مقاصدهم فلا يحرك السماع منهم إلا ما هو الغالب عليهم وعلى قلوبهم من الصفات الذميمة ..)(كتاب حل الرموز ومفاتيح الكنوز أو «بين الشريعة والحقيقة» للعز بن عبد السلام ص28، 29. ويقول الإمام الهروى (… وإن كان السماع مثيرًا للهوى موقظًا لغرائز النفس.ويراد به غير المقصود منه فهو في مثل هذا المقام فتنة ويحرم)(التمكين في شرح منازل السائرين, ص 50)
[/SIZE]
- الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات
الموقع الرسمي للدكتور صبري محمد خليل خيري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...