د. صبري محمد خليل خيري - نقد مذاهب الإباحة الخلقية القديمة والمعاصرة

تعريف مذاهب الاباحه الخلقية: هى المذاهب التى تشترك فى الدعوة الى تجريد الفرد من كل القيم الأخلاقية ، التى ينبغي ان تضبط السلوك الإنساني ، بصرف النظر عن مصدرها ( الدين، العرف، المجتمع، العقل، الفطرة...)، باعتبار أنها قيود مفروضة من المجتمع على الفرد بهدف الغاء الوجود الفردى، وليست ضوابط لتنظيم العلاقة بين الفرد والمجتمع، تحدد الوجود الفردى، كما يحدد الكل الجزء ، فيكمله ويغنيه ولكن لا يلغيه.

اولا: نقد مذاهب الاباحه الخلقية فى الفلسفه الشرقيه القديمه :

شيوعية النساء الشامله فى المزدكيه:
تنسب الى مزدك الذي ظهر فى بلاد فارس فى القرن الخامس الميلادى، ويؤمن مزدك مثل زرادشت بالثنائية ( اى القول بان هناك إلهين " اله للخير وإله للشر")، الا انه يختلف عنه فى دعوته الى المساواة المطلقه، فرأى ان الناس ولدوا سواء، وليس هناك مبرر للتفريق بين شخص والاخر، واول ما تحب المساواه فيه المال والنساء ، للقضاء على الغضب والحسد والتباغض.

نقد: وهكذا فان دعوه المزدكية الى المساواة المطلقة اثمرت الدعوة الى شيوعية النساء، الا ان فرقة المزدكية لم يكتب لها الاستمرار والانتشار بصورة كبيرهـ، رغم انها تركت بعض الأثر- المحدود- على بعض قطاعات الثقافة الفارسيه، قبل وبعد دخول الاسلام بلاد فارس ،ومثال لها زواج المتعة فى المذهب الشيعي الأمامي فى ايران، الذى يرجح العديد من الباحثين ان جذوره ترجع الى تأثير هذه الفرقة ، رغم محاوله علماء المذهب - المعتقدين بمكونه مباح - إعطائه صيغة دينيه اسلاميه.

ثانيا: نقد مذاهب الاباحه الخلقية فى الفلسفه الغربيه:

ا/ فى الفلسفة اليونانية :

السوفسطائيه ورفض الاخلاق
:تم اشتقاق الاسم من اللفظ اليوناني سوفسطوس ، وتعنى المعلم أو معلم البيان في اللغة اليونانية ، لان اغلب فلاسفة هذه المدرسة كانوا يعلمون الناس البلاغة والجدل، وقد لحق هذه الكلمة التحقير في عهد سقراط وأفلاطون لأنهم كانوا يحاولون كسب الخصم بكل الوسائل عن طريق التلاعب اللفظي. وقد ذهب السفسطائيون إلي أن الأخلاق- كما المعرفة- ذاتية" تتغير بتغير الأفراد"، نسبية" تتغير بتغير المكان والزمان"، ومعيارها الحواس لا العقل ، فهي وسيلة لغاية هي إشباع الرغبات" المادية والحسية كالمشرب والمأكل والملبس ... " لا المعنوية أو الروحية. فالطبيعة الإنسانية هي السعي لإشباع الرغبات الحسية ، والأخلاق تتناقض مع هذه الطبيعة الإنسانية ، لأنها محاوله لكبح هذه الرغبات، وهى من وضع الضعفاء ، الذين يعجزون عن إشباع هذه الرغبات، بخلاف الأقوياء،والسعادة هي إشباع الرغبات المادية أو الحسيه.

نقد:وهكذا رفضت السوفسطائية الاخلاق، باعتبارها تتناقض مع الطبيعة الانسانيه، التى حصرتها فى مستواها المادى الغريزى،وارتدت بالمجتمع الى الأطوار القبليه، التى يسود فيها منطق القوه، نتيجه اتصافها بالصراع القبلى على الأرض والموارد.

الابيقورية والاكتفاء بالسعاده الحسيه :ذهب أبيقور أيضا إلي أن السعادة هي إشباع رغبات الإنسان المادية أو الحسيه. لكنه رأى أن إشباع بعض الرغبات يؤدى إلي الألم ، كما أن بعض الآلام قد تؤدى إلى إشباع رغبه ، لذا انتهى إلي نوع من حساب الرغبات يقوم على أربعه قواعد( إشباع الرغبة التي لا تؤدي إلي الم / تجنب الألم الذي لا يؤدى إلي إشباع اى رغبه/ تجنب إشباع الرغبة التي تحرم من إشباع رغبة أكبر أو تسبب الم اكبر/ قبول الألم الذي يخلص من الم اكبر).كما قسم الرغبات إلي ثلاثة أنواع ( رغبات طبيعية ضرورية / رغبات طبيعية غير ضرورية / رغبات غير طبيعية وغير ضرورية ) . وعلى الحكيم الاكتفاء بإشباع الرغبات الطبيعية الضرورية، بالإضافة إلي التحرر من المخاوف ، وهنا تحدث طمانينه النفس " الاتراكسيا" وتتحقق السعادة.

نقد: أكد هذا المذهب على الجانب المادي للإنسان ، وألغى الجانب الروحي ، فقصر السعادة على إشباع الحاجات المادية الحسيه ،وتجاهل إشباع الحاجات المعنوية والروحية.ونلاحظ أن الأصل فى الأبيقورية - ورغم أنها بدأت بالحواس - أنها مذهب زهد ، كما يتضح من دعوة أبيقور إلي الاقتصار على إشباع الحاجات الطبيعية الضرورية،وليست مذهب اباحه ، إلا أن بعض أتباع ابيقور في مراحل تالية احالو الأبيقورية إلي مذهب اباحى.

شيوعيه النساء الجزئيه عند افلاطون: تصور أفلاطون مجتمع خيالى فى كتابه " الجمهوريه"، و هذا المجتمع يقوم على شيوعيه النساء ، فليس لأحد فيه حق إنشاء أسرة مستقلة، او تربية أولاده، لأن الجميع ملك الدولة، وهي وحدها تشرف على تربية الاطفال، و إنجاب النسل المختار. ولكن افلاطون حصر شيوعية النساء فى هذا المجتمع الخيالي على طبقتى الحكام والجنود ، اما باقى فئات الشعب فتعيش فى ظل نظام الأسرة التقليدي.

نقد: وهكذا فان أفلاطون ورغم انه دعا الى شيوعية النساء، الا انه حصرها فى طبقات معينة- ربما لادراكه استحالة تطبيقها على كل المجتمع- وفى كل الأحوال ظل المجتمع الذى تصوره مجتمع خيالى غير قابل للتطبيق.

ب/ فى الفلسفة الأوروبية الحديثة:

مذهب المنفعة واللذة كغايه للسلوك الأخلاقي
: اتفق رائدى مذهب المنفعة " جون ستيوارت مل و جيرمي بنتام" على تحويل الأخلاق من معرفة معيارية" فلسفه"، تبحث في ما ينبغي ان يكون عليه السلوك ، إلى علم وصفى يبحث في السلوك كما هو كائن في مكان وزمان معينين. كما اتفقا على اعتبار ان المنفعة هى غاية السلوك الاخلاقى. الا أنهما اختلفا فى العديد من النقاط التفصيلية ومنها: 1- أقام بنتام منفعة المجموع على أساس منفعه الفرد ، بينما أخضع مل المنفعة الخاصة للمنفعة العامة.2- ميز بنتام بين الرغبات "اللذات" كميا فقط( اى على أساس شدة الرغبة، ديمومتها، شمولها…مع كونها ذات طبيعة واحده اى كلها رغبات حسية) ، اما مل فلم يكتفي بذلك ، بل ميز بين الرغبات كيفيا (اى ميز بين الرغبات الحسية "الدنيا" والرغبات العقلية او الروحية " العليا" التى تتصف بالثبات والدوام والصفاء" اى الخلو من الآلام")، وعبر عن هذا بقوله ( لان تكون سقراطا شقيا خيرا من ان تكون خنزيرا شقيا).

نقد: رغم ان اعتبار ان المنفعه غايه للسلوك الاخلاقى، يمكن ان يشكل تبرير نظري للإباحة الأخلاقية وهو ما اتفق عليه كل من رائدى مذهب المنفعه ـ الا ان الصيغة البنتاميه للمذهب هى الأقرب الى مذهب الاباحه الاخلاقيه لأنها تركز على الفرد ولا تميز بين الرغبات الا كميا فقط كما اشرنا اعلاه.

ج/ فى الفلسفه الغربيه المعاصره :

الماركسيه والدعوه لصيغه معاصرة لشيوعيه النساء:
تنطلق الماركسية من فلسفه ماديه، ترى أن المادة وحدها لها وجود حقيقي، أما الفكر” الانسانى” فهو مجرد انعكاس لحركة المادة، أما الفكر المطلق ” الإله ” فتنكر وجوده ، فهي – تؤمن – أن المادة :أزليه، أبديه، لم يخلقها احد، و لا توجد ثمة قوه فوق أو خارج العالم . وقد افترضت الماركسية أن أول مراحل التطور الاجتماعي هو الطور" الشيوعي البدائي "، والقائم حسب تصورها على حياة جماعية ، تتضمن العلاقات الجنسية الحرة بين الرجل والمرأة حيث ( أن كل امرأة تخص كل رجل ، وبحيث أن كل رجل كان يخص كل امرأة) (أصل العائلة / ص 36( ، وكان للمرأة فى هذا الطور مركز مشرف للمراة داخل العشيرة يفوق مركز الرجل بأضعاف. ولذلك عندما ظهرت الملكية الخاصة وما رافقها من زواج أحادي قائم على العائلة البطريركية , خسرت المرأة مركزها المشرف . كما نظرت الماركسية إلى العلاقة بين الرجل والمراة في كل الأطوار الاجتماعية القائمة على الملكية الخاصة “كالطور الراسمالى” انها تقوم على (المصلحة في نقل الملكية بالوراثة ) (أصل العائلة ص 100 ) والتي تقوم على العائلة البطريركية التي تكون فيها السيادة للرجل ، وأن المرأة في تلك العائلة تعاني من اضطهاد مركب طبقي واجتماعي حيث ( الرجل في العائلة هو البورجوازي بينما المرأة تمثل البروليتاريا) (أصل العائلة ص 94) . وترى الماركسية أن الحل يكمن في تجاوز النظام الرأسمالي ’ والعمل على إقامة النظام الشيوعي على أنقاضه , الذي تتحول فيه وسائل الإنتاج إلى ملكية عامة , اجتماعية ,لا تبقى العائلة الفردية فيه وحدة المجتمع الاقتصادية وتغدو العناية بالأطفال وتربيتهم من شؤون المجتمع , والمجتمع سيعنى بالقدر ذاته بجميع الأطفال سواء كانوا شرعيين أم غير شرعيين ..وهنا تبرر الماركسية دعوتها إلى شيوعيه النساء بتقريرها (ليست بالشيوعيين حاجة إلى إدخال إشاعة النساء , فهي تقريبا كانت دائما موجودة …. ليس الزواج البورجوازي في الحقيقة والواقع سوى إشاعة النساء المتزوجات , وقصارى ما يمكن ان يتهم به الشيوعيون إذن هو أنهم يريدون , كما يزعم , الاستعاضة عن إشاعة النساء بإشاعة صريحة واضحة ) (البيان الشيوعي ص 69.)

نقد:سبقت العديد من الفلسفات الشرقية والغربية الماركسية في القول بشيوعيه النساء.ويرجع دعوة الماركسية لشيوعيه النساء إلى عده أسباب أهمها أنها خلطت بين الأسرة كطور تكوين اجتماعي، يمكن تجاوزه إلى أطوار تكوين اجتماعي أخرى" كالعشيرة والقبيلة والشعب والأمة.." وبين الأسرة كوحدة أساسية لتكوين المجتمع، لا يمكن تجاوزها. وهنا يجب الإشارة إلى وجود اختلاف بين الماركسيين الغربيين والشرقيين في الموقف من شيوعيه النساء، فبينما يقررها غلب الماركسيين الغربيين ، ينكرها اغلب الماركسيين الشرقيين، وقد يصل هذا الإنكار عند بعضهم إلى درجه إنكار أنها موجودة في الماركسية، رغم ثبوتها في النصوص الماركسية الكلاسيكية كما اشرنا أعلاه

الليبرالية والنزعة الفردية المتطرفة: الليبرالية (LIBERALISM) لغه “ مذهب الحرية ” ، حيث يرجع الأصل اللغوي” اللاتيني” للمصطلح إلى معنى الحرية . أما اصطلاحا فان الليبرالية هي فلسفه ومنهج ومذهب ، اى أن لها ثلاثة أبعاد أساسية ، البعد الأول هو بعدها الفلسفي المتمثل في كونها فلسفه فردية “اى تنطلق من فكرة فلسفية مضمونها أن الفرد ذو حقوق طبيعية سابقة على وجود المجتمع ذاته”، طبيعيه” اى تنطلق من فكرة فلسفية مضمونها ان هناك قانون “طبيعي” يضبط حركة الإنسان وينظم العلاقة بين الفرد والمجتمع .أما البعد الثاني فهو بعدها المنهجي المتمثل في كونها منهج يستند إلى تصور معين لفكرة القانون الطبيعي مضمونه “أن مصلحة المجتمع ككل ستتحقق “حتما ” من خلال سعى كل فرد لتحقيق مصلحته الخاصة”.أما بعدها الثالث فهو بعدها المذهبي المتمثل في كونها مذهب ذو أركان أربعة أساسية هي:أولا:الفردية في الموقف من الأخلاق، ثانيا: العلمانية في الموقف من الدين، ثالثا:الرأسمالية في الموقف من الاقتصاد، رابعا: الديموقراطية “ فى صيغتها الليبرالية” في الموقف من السياسة. وهكذا فان الليبرالية تؤسس لنزعه فرديه متطرفه، تتطرف فى اثبات الوجود الفردى، لدرجه الغاء - او على الاقل التقليل من أهمية- الوجود الجماعى، وهى بذلك تجرد الفرد من التزاماته الاجتماعية تجاه المجتمع- المتضمنة التزامه بالقيم الاجتماعيه والاخلاقيه- فيصبح انتمائه الى ذاته وولائه لمصلحته.

نقد: هذه النزعة الفردية المتطرفة يلزم منها – موضوعيا وبصرف النظر عن النوايا الذاتية لفلاسفه الليبرالية وانصارها والمدافعين عنها - الاباحه الخلقية ، التى تظهر مظاهرها المتعددة فى المجتمعات الغربية الليبراليه- المقصود مجموع هذه المجتمعات وليس جميع المنتمين إليها- كما تظهر هذه المظاهر لكن بدرجة أقل فى المجتمعات الأخرى"غير الغربية " - التى طبقت الليبرالية او بعض اركانها ( مثل تطبيق المجتمعات العربيه المعاصره منذ سبعينات القرن الماضى للنظام الليبرالي فى الاقتصاد "الرأسمالية" ( تحت شعارات متعددة :كالانفتاح او الاصلاح او التحرير... الاقتصادي/ الخصخصة/ الليبرالية الجديدة/ رفع الدعم..).

الفلسفه الوجوديه والحريه الفردية المطلقة : هى فلسفة غربية معاصرة تذهب إلى أن الإنسان فهو الكائن الوحيد الذي يسبق وجوده " كجسم مادي" ماهيته "صفاته"، أي أن الإنسان يوجد أولاً ثم يختار صفاته " بأن يكون خيراً أو شريراً غني أو فقير...." . والوجود الإنساني عندها هو الوجود الذاتي (الفردي)، لذا رفضت خضوع الإنسان للحتمية والموضوعية، لأن خضوع الإنسان لهما يعني القول بوجود ماهية سابقة على وجوده ولاغيه لحريته في ذات الوقت ، وبناءاً على هذا رفضت القول بوجود أي معيار موضوعي للقيم "كالمجتمع في حالة العرف أو الدين في حالة القيم الدينية..." وقالت بمعيار ذاتي للقيم هو الحرية ، فالإنسان هو الذي يخلق القيم .هذا التصور الذاتي – النسبي للقيم ، يؤسس لتجرد الفرد من القيم الأخلاقية ، باعتبارها قيود على حريته الفردية " المطلقة".

نقد: أرادت الوجودية أن تعيد للإنسان الفرد دوره الذي سلبته منه الفلسفات المثالية الموضوعية (كالهيجليه)، لكنها انتهت إلى تحويل هذا الإنسان الفرد إلى اله يخلق نفسه والعالم كل لحظة.وهي بهذا رده فعل ذاتية متطرفة عاطفية نتيجة ما لاقاه الإنسان الأوروبي من معاناة في حربين عالميتين أدتا إلى شك الناس في أي قيم موضوعية. ومن جهة أخرى كانت الوجودية محاولة للإقرار بالإنسان كعامل حاسم في التطور الاجتماعي ، في وجه الفلسفات التي تجاهلت دور الإنسان كالمادية والمثالية، لكنها قرنت بين هذه النزعة الإنسانية والنزعة الذاتية المتطرفة التي تركز على الإنسان الفرد وتتجاهل الإنسان الجماعة. وكما أنها (في شكلها الملحد) ربطت بين الاقرار بدور الإنسان في التطور الاجتماعي واستبعاد المطلق (الاله والدين) تاثراً بالإرث الإغريقي ، والذي تصور الالهة على صورة قوى لا تنفك تحطم قوانين الطبيعة وتعارض إراده الإنسان.

الفلسفه التفكيكية عند ميشيل فوكو والتحرر الفردي المطلق من الضوابط الأخلاقية: عرف فوكو السعادة بانها اللذه،ويقصر اللذه على اللذه الحسيه، ولا يضع اى اعتبار لحساب اللذات الذي قال به كثير من أعلام مذهب اللذه, ويرفض وضع اى ضوابط اخلاقية او دينية لإشباع اللذه. ويعتبر ان اللذة الحسية هى غاية فى ذاتها ، وليست مجرد وسيلة لغاية اخرى.وهو هنا يساوى بين رفضه اعتبار الجنس وسيله لتكوين الاسره”كما فى الشرق ” ، واعتباره مجرد سلعه”كما فى الغرب الراسمالى”.

نقد: كل ما قام به فوكو هو محاوله اعاده احياء مذهب السعادة الحسية فى فلسفات اللذه الفلسفه الغربيه " كالسوفسطائيه والأبيقورية ومذاهب اللذه والمنفعة فى الفلسفه الاوروبيه الحديثه..",دون ان يضع فى اعتباره الانتقادات التى وجهت لهذا المذهب،واهمها ان للسعادة أنماط متعددة ،وليست مقصورة على السعادة الحسية.

ثالثا: نقد مذاهب الاباحه الخلقية التى ظهرت فى التاريخ الفكري للمجتمعات المسلمة:

مذهب الارجاء البدعى والتبرير النظرى للتحلل الخلقى
: الإرجاء في اللغة التأخير، والمرجئة فرقة ترجي " تؤخر" عقاب العصاة إلى يوم القيامة. فقالوا إن مرتكب الكبيرة يرجى أمره لله تعالى ليحاسبه يوم القيامة، فإن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه . و في فترة تالية ظهر من تطرف في القول بالإرجاء ، لينتهي إلى القول بأنه ( لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة ) ، أي أن المؤمن يظل مؤمناً مهما ارتكب من المعاصي، كما يظل الكافر كافراً مهما قام بأعمال صالحة ،وقالوا ( إن الإيمان اعتقاد، وان من أعلن الكفر بلسانه وعبد الأوثان، أو لزم اليهودية والنصرانية في دار الإسلام ،وعبد الصليب وأعلن التثليث في دار الإسلام ومات على ذلك، فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل ومن أهل الجنة). وهذا الارجاء البدعى شكل اساس نظرى يبرر للتحلل الخلقى والاباحيه.

نقد: يجب التمييز بين إرجاء بعض السلف من الصحابة والتابعين ، الذين امتنعوا عن الخوض في الصراع السياسي الذي ظهر في عهدهم ، وارجاء فرقة المرجئة - بصيغتيه المعتدلة والمتطرفة - وفى كل الاحوال فقد تطرقت فرقه المرجئة - بدرجات متفاوتة - في الفصل بين الإيمان والعمل ، كرد فعل على تطرف الخوارج في التوحيد بين الإيمان والعمل . والحل الصحيح لمشكلة مرتكب الكبيرة - فى علم الكلام - أن العلاقة بين الإيمان والعمل هي علاقة وحدة وارتباط (وليست علاقه خلط ودمج كما عند الخوارج) من جهة ، وعلاقة تمييز (وليست علاقه فصل كما عند المرجئة) من جهة أخرى.

المذهب الملاماتى المتاْخر والتبرير النظرى للاباحه الخلقيه : الملاماتيه هي فرقة من فرق الصوفية ، نشأت بمدينة نيسابور بخرسان ، في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، واسم الفرقه متصل بمفهوم اللوم الوارد في القرآن ، والمراد باللوم الملاماتي لوم النفس ، القائم على أن لا يرى الملاماتي لنفسه حظاً على الإطلاق، ولا يطمئن إلى عمل ، ظناً منه أن النفس شر محض. ومن ناحية أخرى المراد باللوم لوم الناس إياهم ، لأن الملاماتية خوفاً من أن تنكشف أحوالهم تعمدوا أن يظهروا للناس ما يجلب عليهم التأنيب. وقد تدهور المذهب الملاماتى عند بعض الملاماتيه المتأخرين، الذين استخدموا تعاليمه كمبرر للإباحة ، حتى اقترن المذهب في أذهان الناس بمعاني العبث بأمور الدين ، والتراخي في أداء العبادات، والمباهاة بالمعاصي.

نقد: الملامتية هي في الأصل هي محاوله لتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة ، التي بدأت تظهر عند بعض المنتسبين للتصوف كتفاخر بالدعاوى.لكن هذه المحاولة استندت الى نزعة من التشاؤم المطلق ، تنظر إلى النفس الإنسانية باعتبارها شراً محضاً يجب التخلص منه ، وهى ناتجة على الأرجح عن التأثر بمصدر اجنبى" زرادشتي - هندي" قائم على مفهوم وحده الوجود، وجد طريقه إلى صوفية خرسان، تحت تأثير البيئة التي عاشوا فيها.

دعوى" ليله الافاضه" عند غلاة الاسماعيلية : قرر بعض الكتاب القدماء والمحدثين ان للشيعة الإسماعيليين ليلة تُدعى “ليلة الإفاضة”، او ليلة الغدير، يجتمعُون فيها للعشاء ثم بعدها يطفؤون السراج، ويبيحون لكل رجل من وقعـت عليها يده من النساء)

نقد: إن هذه المقولة هى دعوى بدون دليل قاطع، ففكره وجود مجتمع يأخذ كله بالاباحه الخلقية غير متصور،فما بالك بمجتمع يشكل جزء من المجتمع العربى - الاسلامى- حتى لو شاعت فيه مظاهر من الانحراف المذهبي – الفكري- عن المذهب السائد " المذهب السنى" - وهو بفرض حدوثه فى الماضي البعيد، فلابد انه كان محصور فى فرق ممعنة فى التطرف و الغلو ، ومحدوده العدد ومعزوله عن مجتمعها.

مذهب " وحده الوجود" وسقوط التكاليف:مذهب وحدة الوجود هو مذهب مضمونه ان الوجود الالهى هو وحده الوجود الحقيقي.اما الوجود الكونى الطبيعى فليس له اى وجود حقيقى ، ومصدر اعتقادنا بوجوده الحقيقى خداع الحواس.وترجع جذوره الى الأديان الوضعية الشرقيه القديمه " كالهندوسيه والغنوصية والطاويه…"، ومنها تسرب الى بعض قطاعات الفلسفه الغربيه: القديمه كالافلاطونيه والافلاطونيه المحدثه…، والحديثة كالهيجليه…، والمعاصره كالبرجسونيه…" . كما حاول بعض المفكرين المسلمين –وخاصه المنتسبين لما يمكن ان نطلق عليه اسم " التصوف البدعى"، المنطلق من مفاهيم اجنبية " كالحلول والاتحاد والوحدة " - وعبر التاريخ الاسلامى بمراحله المتعددة القديمة والمعاصره ، التوفيق بينه وبين الاسلام ، متجاهلين حقيقة تعارضه الموضوعى –فى ذاته وفيما يلزم منه من مفاهيم - مع العقيدة الإسلامية ومفاهيمها القطعية "كاتصاف الوجود الإلهى بالتنزيه والتعالي ومخالفة الحوادث...".

نقد: هذا المذهب يلزم منه العديد من المفاهيم والقواعد، التى يلزم منها تبرير الإباحة الخلقية (كسقوط التكاليف ،وانكار وجود الشر، وانكار العقوبة الأخروية على الأفعال الشريرة...).

زواج المتعه عند الشيعه الاماميه وهدم ركن الدوام فى الزواج: زواج المتعة أو الزواج المؤقت أو الزواج المنقطع هو صيغة للزواج كانت سائدة فى الجاهلية ، وهي صيغة غير ملزمة – خاصة للرجل" الزوج" - ففيها لا ترث الزوجه زوجها ، ولا تجب لها النفقة على زوجها، فضلا عن افتقارها الى اهم اركان الزواج "الدوام والاستمرارية". وقد تم تحريم هذه الصيغه للزواج فى حجه الوداع (... وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهُ، وَلا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)( رواه مسلم). وقد اتفقت كل الفرق الإسلامية على تحريمه ، ما عدا فرقة الشيعة الإمامية فى ايران.

نقد: كما اشرنا اعلاه فان هذه الصيغة للزواج تهدم اهم ركن فى الزواج ( الدوام والاستمرارية " نية التأبيد" )، وهى شكل من أشكال استغلال المرأة ، لانها تقوم على حقوق الزوجة ، لأنها غير ملزمه للزوج من جهة النفقة والميراث، وهى - فى التحليل النهائى - تبرير ديني زائف للزنا ، الذى حرمه الاسلام بنصوص قطعية ،واجمعت الفرق الإسلامية على تحريمه بما فيها فرق الشيعه الاماميه ذاتها، لذا رفضها العديد من اعلام المذهب الشيعى الامامى ذاته. ووجه التناقض فى موقف المذهب الشيعى الامامى ان الامام على بن ابى طالب (رضى الله عنه) يقول بتحريم زواج المتعه – مثله مثل سائر الصحابة ( رضي الله عنهم)- فقد روى البخاري ومسلم عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه نهى عن متعة النساء . ويرجح العديد من الباحثين – كما اشرنا سابقا- ان جذور زواج المتعه فى هذا الذهب، ترجع الى المذهب المزدكى القائل بشيوعيه النساء.

مذهب الغلو في التكفير واستحلال الدماء المحرمة والتبرير الدينى الزائف للاباحه الخلقيه: هو مذهب يقوم على بدعيتين - بينهما علاقة تلازم- بدعة الغلو في التكفير ، ويلزم منها بدعة استحلال الدماء المحرمة " كدماء المسلمين وأهل الذمة والمعاهدين وغير المقاتلين من الكفار.."، فهو مذهب يقوم على الإطلاق البدعى لمفهومي التكفير والقتال ، من خلال عدم الالتزام بضوابطهما الشرعية ، وهو مذهب يفارق مذهب أهل السنة ، وترجع جذوره الى مذهب الخوارج البدعي . والبدعة الاولى - الغلو فى التكفير - يلزم منها إنكار شرعية الالتزامات القانونية فى المجتمعات المسلمه، ومنها عقود الزواج التى تمثل التنظيم القانوني للاسره، وهو الأمر الذى حدى بكبار علماء الامة الى اقرار اماره الغلبة- أخذا بقاعدة الضرورة - خوفا من حدوثه ، كما فى قول الإمام الغزالي ( .... فأي أفضل القول أن القضاة معزولون وان الولايات باطلة و الانكحة غير منعقدة ...... أم القول بالإمامة منعقدة والتصرفات والولايات نافذة بحكم الحال والاضطرار ومعلوم أن البعيد مع الأبعد قريب وان الشرين خير بالإضافة ويجب علي العقل اختيارة )( الاقتصاد فى الاعتقاد ،ص41 ) بدعه استحلال الدماء المعصومة : أما البدعة الثانية - استحلال الدماء المعصومة - فهي مدخل لكثير من الفتن ومنها انتهاك الأعراض كما أشار الحديث (تَكُونُ أَرْبَعُ فِتَنٍ : الأُولَى : اسْتِحْلالُ الدِّمَاءِ ، وَالثَّانِيَةُ : اسْتِحْلالِ الدَّمِ وَالأَمْوَالِ ، وَالثَّالِثَةُ : اسْتِحْلالُ الدَّمِ وَالأَمْوَالِ وَالْفُرُوجِ ، وَالرَّابِعَةُ : لَوْ كُنْتَ فِي جُحْرِ ثَعْلَبٍ لَدَخَلَتْ عَلَيْكَ الْفِتْنَةُ ) . وبهذا فان هذا المذهب يقدم ببدعيته مبرر دينى زائف للاباحه الخلقيه،التى يرفضها الاسلام كدين- وغيره من اديان - رفضا قاطعا.

خاتمه: نقد عام لمذهب الاباحه الخلقيه:

1-التطرف فى إثبات البعد المادى للوجود الانسانى، الى درجة إلغاء ابعاده غير المادية (الوجدانية ،العقليه ،الروحيه... ). 2- الفشل فى تحديد الفارق بين الانسان والحيوان، فكلاهما يشترك فى الغزائز، لكن هناك فارق بينهما ،هو ان إشباع الإنسان للغرائز خاضع لضوابط وآداب خلافا للحيوان. و للإنسان القدرة على الكف الذاتى اى الاراده بما هي القدرة على وقف الامتداد التلقائى للواقع والتحكم فى الغرائز خلاف للحيوان. 3-اطلاق الغرائز يهدد وجود المجتمع الإنساني ذاته ، لان وجوده مرتبط بوجود تنظيم اخلاقى او ديني او قانوني له .4- خطأ الربط بين السعاده واشباع الغرائز، لأن للسعادة أنماط متعددة ، بتعدد أبعاد الوجود الانسانى،تتصف بقدر من الاستقلال النسبي. فالسعادة الحسية هى نمط واحد من أنماط السعاده المتعددة (سعاده وجدانيه ،عقليه ، روحية...).فضلا عن ان السعادة الحسية لحظيه وتفتقد صفة الاستمرارية. 5- الإفراط فى إشباع اى حاجه يؤدى الى تقليل قيمتها (قانون الغلة الحديه). 6- لا وجود للذه بدون الم ولا الم بدون لذة ، فكلاهما إشارات من ذات الجهاز (المخ). 7- الالم لا يمثل الشر المطلق ، كما ان اللذة لا تمثل الخير المطلق، لان هناك حالات يكون الالم فيها خير، كما فى حالة الألم كتنبيه لوجود خلل ما فى الجسم ، كما ان هناك حالات تكون اللذة شر، كما فى حالة اللذة الصادره من تناول مواد ضارة بالجسم كالمخدرات.

د. صبرى محمد خليل/ أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه فى جامعه الخرطوم

Sabri.m.khalil@gmail.com



الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...