اضطر الإنسان في مواجهة جائحة كورونا، وتحمّل أيام الحظر الجزئي أو الشامل، وانثيال الأخبار المحزنة عن فقدانه أحبابه وأقاربه إلى البحث عن ما يواسيه، ويبثّ في نفسه القوة والعزيمة لتحمل كل هذه المآسي والكوارث.
لقد وجدت في تراثنا الشعري أنموذجًا في التعامل مع المرض عامة وكورونا خاصة، من خلال ما جرى لشاعرنا أبي الطيب المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس عندما أصابته الحمّى، وهو في مصر أرض الكنانة في عام 348 هـ. وكان في الخامسة والأربعين، أي قبل ست سنوات من مقتله على يد فاتك الأسدي.
لا شك في وجود تشابه بين الحمى التي أصابت المتنبي وهذه الكورونا التي ألمّت بالناس هذه الأيام؛ فكلتاهما مرض تشتد فيه الحرارة، ثم تنطلق لتخرّب في الجسد، وتضعف الجلد والقلب. فنرى شاعرنا في قصيدة من اثنين وأربعين بيتًا يتحدث في جزء منها،وهو مكون من سبعة عشر بيتًا، عن الحمى التي نالت منه، وفي تلك الأبيات يقدم لمرضه الذي هد جسمه، ومنعه من المسير، ويحكي عن استقباله له محددًا الزمن والمكان اللذين حلّ فيهما دون سابق إنذار، وكأنه أمام طبيب يستجوبه عن حاله. ولا ينسى الشاعر كعادته أن يتحدث عن نفسه وسموها، وكثرة حساده وأعدائه في مصر، وفي مقدمتهم كافور الإخشيدي.
أَقَمتُ بأرضِ مِصرَ فلا ورَائِي
تَخُبُّ بيَ الرِّكابُ ولا أمامي
ومَلَّنِيَ الفِراشُ وكَان جنبِي
يَمَلُّ لِــقاءَهُ في كلِّ عـــامِ
قَليلٌ عائدِي سَقِمٌ فُؤادِي
كَثِيرٌ حَاسِدِي صَعبٌ مَرامِي
عَليلُ الجِسمِ مُمتَنِعُ القِيامِ
شَديدُ السُكرِ من غَيرِ المُدامِ
ثم يبين لنا المتنبي في أبيات أخرى سر ما يعانيه، ويصف هذه المصيبة التي وقع فيها، إنها الحمى تلك الزائرة التي حلت عليه في الليل من فرط ما تتصف به من حياء. إنه يتخيلها عاشقة له، لهذا فهو يتقبلها ويستقبلها استقبالًا كريمًامع أنها رفضت الا أن تقيم في عظامه وليس في فراشه الذي أعده لها،ويبلغ الألم منتهاه،وتتقطع أنفاسه، ويضيق جلده بما يعاني.
وزائِرَتي كأنَّ بِها حَياء
فليسَ تَزورُ إلاّ في الظّلامِ
بَذَلتُ لهَا المطارِفَ والحَشَايا
فَعافَتها وباتَت في عِظامِي
يَضِيقُ الجِلدُ عَن نَفسِي
وعَنها فَتُــوسِعُهُ بأنواع السَّـــقامِ
ومن لطف المتنبي وكرمه يبدو ما يقوله، كأنه في الغزل وليس في المرض،ويبدو ما قام به من استقبال رائع للحمى سابقًا وصايا خبراء البرمجة العصبية واللغوية في هذا العصر حين يوصون المريض بأن يعشق مرضه ويتقبله، كما جاء في كتاب الطبيب الروسي فاليري سينيلنيكوف الذي ترجمه المير أحمد تحت عنوان «أسرار العقل الباطن: أحب مرضك».
لكنا نرى المتنبي، كما يحدث بين العاشقين في العادة،بعد موقف زائرته العدائييبادلها العداء، ويخاطبها كأنها نائبة من نوائب الدهر، ويتعجب كيف تسللت إليه من بين النائبات التي اعتاد عليها، فهي عنده رزية صغيرة، لا تقصم ظهره، الذي مثل سائر جسده لم يبق منه مكان دون جراح.
أَبِنـتَ الدَّهرِ عِندِي كلُّ بنتٍ
فَكَيفَ وصَلتِ أنتِ من الزِّحَامِ
جَرَحْتِ مُجَرَّحًا لَم يَبقَ فِيهِ
مَكانٌ للسُيوفِ ولَا السِّهامِ
ويقدم لنا طريقته النموذجية في التعامل مع المرض والانتصار عليه.
فَإن أمرِض فَمَا مَرِضَ اصْطِبَارِي
وإن أُحمَم فما حُمَّ اعْتِزَامِي
وإن أَسْلَم فَما أبقَى ولَكِنْ
سَلِمتُ من الحِمامِ إلى الحِمامِ
إن فلسفة الشاعر تقوم على الصراع والنضال في الحياة، وهو يعتقد بأن المرض مهما اشتد عليه لن يصيب اصطبارهُ وعزمه، وأنه لا يرضى بحاله في اليسر والعسر، إنه يريد أن يبلغ درجة الكمال والاكتمال «ما ليس يبلُغُه من نفسه الزمن».
هكذا نخلص إلى القول إن الشاعر أبا الطيب المتنبي يقدم لنا من خلال أبياته في وصف الحمى درسًا ناجحًا في مواجهة المرض ينفعنا في مواجهة جائحة كورونا 19 وتحولاتها المستجدة، وذلك بتقبلها وتحمّل آلامها بروح قوية متفائلة. وهو بهذا الدرس يكون قد سبق علماء النفس وعلماء الأعصاب وعلماء الأوبئة في طريقة التعامل مع المرض، والتعايش معه، ومحاورته، والاتصاف بالصبر وقوة النفس.
www.facebook.com
لقد وجدت في تراثنا الشعري أنموذجًا في التعامل مع المرض عامة وكورونا خاصة، من خلال ما جرى لشاعرنا أبي الطيب المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس عندما أصابته الحمّى، وهو في مصر أرض الكنانة في عام 348 هـ. وكان في الخامسة والأربعين، أي قبل ست سنوات من مقتله على يد فاتك الأسدي.
لا شك في وجود تشابه بين الحمى التي أصابت المتنبي وهذه الكورونا التي ألمّت بالناس هذه الأيام؛ فكلتاهما مرض تشتد فيه الحرارة، ثم تنطلق لتخرّب في الجسد، وتضعف الجلد والقلب. فنرى شاعرنا في قصيدة من اثنين وأربعين بيتًا يتحدث في جزء منها،وهو مكون من سبعة عشر بيتًا، عن الحمى التي نالت منه، وفي تلك الأبيات يقدم لمرضه الذي هد جسمه، ومنعه من المسير، ويحكي عن استقباله له محددًا الزمن والمكان اللذين حلّ فيهما دون سابق إنذار، وكأنه أمام طبيب يستجوبه عن حاله. ولا ينسى الشاعر كعادته أن يتحدث عن نفسه وسموها، وكثرة حساده وأعدائه في مصر، وفي مقدمتهم كافور الإخشيدي.
أَقَمتُ بأرضِ مِصرَ فلا ورَائِي
تَخُبُّ بيَ الرِّكابُ ولا أمامي
ومَلَّنِيَ الفِراشُ وكَان جنبِي
يَمَلُّ لِــقاءَهُ في كلِّ عـــامِ
قَليلٌ عائدِي سَقِمٌ فُؤادِي
كَثِيرٌ حَاسِدِي صَعبٌ مَرامِي
عَليلُ الجِسمِ مُمتَنِعُ القِيامِ
شَديدُ السُكرِ من غَيرِ المُدامِ
ثم يبين لنا المتنبي في أبيات أخرى سر ما يعانيه، ويصف هذه المصيبة التي وقع فيها، إنها الحمى تلك الزائرة التي حلت عليه في الليل من فرط ما تتصف به من حياء. إنه يتخيلها عاشقة له، لهذا فهو يتقبلها ويستقبلها استقبالًا كريمًامع أنها رفضت الا أن تقيم في عظامه وليس في فراشه الذي أعده لها،ويبلغ الألم منتهاه،وتتقطع أنفاسه، ويضيق جلده بما يعاني.
وزائِرَتي كأنَّ بِها حَياء
فليسَ تَزورُ إلاّ في الظّلامِ
بَذَلتُ لهَا المطارِفَ والحَشَايا
فَعافَتها وباتَت في عِظامِي
يَضِيقُ الجِلدُ عَن نَفسِي
وعَنها فَتُــوسِعُهُ بأنواع السَّـــقامِ
ومن لطف المتنبي وكرمه يبدو ما يقوله، كأنه في الغزل وليس في المرض،ويبدو ما قام به من استقبال رائع للحمى سابقًا وصايا خبراء البرمجة العصبية واللغوية في هذا العصر حين يوصون المريض بأن يعشق مرضه ويتقبله، كما جاء في كتاب الطبيب الروسي فاليري سينيلنيكوف الذي ترجمه المير أحمد تحت عنوان «أسرار العقل الباطن: أحب مرضك».
لكنا نرى المتنبي، كما يحدث بين العاشقين في العادة،بعد موقف زائرته العدائييبادلها العداء، ويخاطبها كأنها نائبة من نوائب الدهر، ويتعجب كيف تسللت إليه من بين النائبات التي اعتاد عليها، فهي عنده رزية صغيرة، لا تقصم ظهره، الذي مثل سائر جسده لم يبق منه مكان دون جراح.
أَبِنـتَ الدَّهرِ عِندِي كلُّ بنتٍ
فَكَيفَ وصَلتِ أنتِ من الزِّحَامِ
جَرَحْتِ مُجَرَّحًا لَم يَبقَ فِيهِ
مَكانٌ للسُيوفِ ولَا السِّهامِ
ويقدم لنا طريقته النموذجية في التعامل مع المرض والانتصار عليه.
فَإن أمرِض فَمَا مَرِضَ اصْطِبَارِي
وإن أُحمَم فما حُمَّ اعْتِزَامِي
وإن أَسْلَم فَما أبقَى ولَكِنْ
سَلِمتُ من الحِمامِ إلى الحِمامِ
إن فلسفة الشاعر تقوم على الصراع والنضال في الحياة، وهو يعتقد بأن المرض مهما اشتد عليه لن يصيب اصطبارهُ وعزمه، وأنه لا يرضى بحاله في اليسر والعسر، إنه يريد أن يبلغ درجة الكمال والاكتمال «ما ليس يبلُغُه من نفسه الزمن».
هكذا نخلص إلى القول إن الشاعر أبا الطيب المتنبي يقدم لنا من خلال أبياته في وصف الحمى درسًا ناجحًا في مواجهة المرض ينفعنا في مواجهة جائحة كورونا 19 وتحولاتها المستجدة، وذلك بتقبلها وتحمّل آلامها بروح قوية متفائلة. وهو بهذا الدرس يكون قد سبق علماء النفس وعلماء الأعصاب وعلماء الأوبئة في طريقة التعامل مع المرض، والتعايش معه، ومحاورته، والاتصاف بالصبر وقوة النفس.
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.