تؤدّي اللغة وظائفها الدلاليّة والإبلاغيّة استناداً إلى التلازم الناشئ بين كلٍّ من الدّال والمدلول ( اللفظ والمعنى) ؛ إذ ليس ثمّة صلة طبيعية أو عقلانية معلَّلة بين ركنَي العلامة اللغويّة( الكلمة) المُشار إليهما. إنّ نوعاً من العقد اللغويّ الاصطلاحيّ، المبرَمُ عُرفاً بين أفراد المجتمع اللغويّ الواحد ، هو الذي يُكسِب الدّوال دلالاتها أثناء التداول اللغويّ.
على أنَّ اللغة بمكوّناتها جميعاً، من أصواتٍ وألفاظٍ وتراكيبَ، تشبه الكائن الحيّ في نشأتها وفيما يعرض لبعض عناصرها من نموٍّ وتطوّر وانتقال، أو فناء في بعض الحالات ، وهذا كلّه له أسبابه وقوانينه المعروفة في علم الدّلالة(Semantique) ، وهو أمر تشترك فيه اللغات الإنسانيّة جميعها، وِفق نسبٍ وأشكال متفاوتة.
بيد أنّ ما نودّ تسليط الضوء عليه هنا ، إنّما هو هذا العبث المقصود المُجتَرَح بحقّ دلالات اللغة من خلال التلاعب بدوالها ومدلولاتها، بما يعكس في رأينا، واقعاً عربيّاً متردّياً، يجد معادله الدلاليّ في سلوك لغويّ مكافئ.
إنّنا نرى أنّ أزمة الواقع العربيّ المعاصر ، بكلّ تجلّياتها السياسية والاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة، تكاد تُفصِح عن نفسها من خلال المفاهيم والمصطلحات المتداولة للتعبير عنها ، ومايرافق ذلك من تطويع أو تهجين للعلامات اللغويّة، بما يُخرجها عن دلالاتها العرفيّة المصطلح عليها، بل بما يجعلها - في أحيان ليست بالقليلة- مطيّة لدلالات مضادة ؛ أي الحكم بإعدام الدلالات الأصليّة في نهاية الأمر.
-تزييف الدلالات في الواقع العربيّ الراهن :
قُلنا إنّ ثمّة عبثاً مقصوداً يُمارَس بحقّ دلالات اللغة ، ولبيان ذلك لا بدّ من بيان الآليّة الدلاليّة التي يتولّد المعنى من خلالها ، أي- وهذا هو صُلبُ موضوع علم الدلالة- كيف يمكن للألفاظ أنْ تؤدّي معناها.
الجواب على ذلك باختصار وتبسيط بالغَين، هو التالي: تتولّد الدّلالة ضمن آليّة العلاقة بين الدّال والمدلول الذي يُحيل بدوره على ما يُسمَّى( المرجع الخارجيّ) ؛ أي الواقع الخارجيّ ، محسوساً كان أو مُتَخيَّلاً. إنّ الدّال( قَلَم) مثلاً ، أي (الأصوات: ق ل م) تُحيل السامع على المُتَصوَّر الذهني له( المدلول)، ثمّ يقوم هذا المدلول بالإحالة على القلم المحسوس ذاته، أي( المرجع الخارجيّ)، وكذلك هو الشأن مع الأمور المعنويّة، إلاّ أنّ الإحالة في هذه الحالة تكون على مرجع متَخيَّل لا محسوس. ولا شكّ في أنّ الدلالات المعنويّة هي الأكثر عُرضةً للتزييف والتلاعب من الماديّات.
لذا سنتناول بالتحليل عدداً منها، لنستجلي ماتتعرّض له من اعتداء دلاليّ.
فلو بدأْنا بمفهوم( المواطَنَة) لوجدنا أنّ هذا الدّال يُحيل ،في النهاية ،إلى الدّلالة التي تشير إلى طبيعة الصّلة الجامعة بين سكان الوطن الواحد ، بما تحمله من سِمات دلاليّة تتمثّل في المساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات، مع كلّ التّبِعات المترتِّبة على ذلك . لكّن المُلاحظ في واقعنا العربيّ أنّ لفظ( المواطِن) كثيراً ما يُستخدَم في سياقات محدّدة للدّلالة على نقيض لفظ آخر، ألا وهو( المسؤول)، وهذا يعني دلاليّاً، ومِن ثَمّ واقعيّاً، حرمان( المواطِن) من حقّ المساواة الذي يدخل في صُلب مدلول ( المواطَنَة). أمّا لفظ( المسؤول) الذي يدلّ أصلاً على تحمّل أعباء المسؤوليّة الملقاة على عاتق هذا المسؤول في مجال ما، وبما يجعله مسؤولاً أمام المواطِن عن تَبِعات هذه المسؤوليّة، فإنّه بحكم استخدامه المُتَجاوِر مع لفظ( المواطِن) يكاد يُفرَغ من دلالته الأصليّة ويكتسِب دلالة واقعيّة جديدة تجعل من( المسؤوليّة) شرفاً لا يناله إلاّ الخاصّة. ولا يغُرّنّكَ، في هذا المقام، ذلك الشعار المتداوَل القائل:" المسؤوليّة تكليف لا تشريف" إذ هو يؤكّد عكس مدلوله، وِفق مبدَأ الإحالة إلى( المرجع الخارجيّ) أي ، إلى الواقع الملموس.
وبالانتقال إلى مفهوم آخر ، كثير التداول في مجتمعاتنا- ربّما من باب التعويض- وهو( الديموقراطيّة) فإنّنا نرى أنّ دلالته الأصليّة تشير إلى حكم الشعب لنفسه وبنفسه. إنّ التزييف الدلاليّ الذي يتعرّض له هذا الدّال، في أكثر من مكان في عالمنا العربيّ ، يتأتّى من التأكيد المستمرّ على ما يُسَمَّى بالخصوصيّة الثقافيّة والحضاريّة للشعوب، وهو بمثابة رفض مقنَّع للمفهوم؛ عملاً بمبدأ" لكم ما لكم ولنا ما لنا". غير أنّ هذا الرفض المقنّع سرعان ما يتحوّل إلى رفض فجّ عندما نُلحِق بمفهوم ( الديموقراطيّة) مفهوماً آخر يضبط معناه- أي يلغيه -وِفق الإحالة إلى الواقع الخارجيّ، كأنّ نلوِّح مثلاً بمفهوم( الديموقراطيّة الشعبيّة) بدلاً عنه.
وبما أنّنا في عصر المعلوماتيّة- كما يتردّد كثيراً في هذه الأيام- فلا بأس من البحث في دلالة( الإعلام) فذلك كلّه من الجذر اللغويّ( ع ل م)
إنّ الدلالة الأصلية للمصطلَح تدلّ على تقديم المعلومات الكافية والضروريّة للمواطن بما يجعله على علم بما يجري من وقائع وأحداث.
إنّ التزييف الدلاليّ هنا يتناول أمرين اثنين: الأوّل يتعلّق بانتقاء المعلومات المقدَّمَة، في حين يتعلّق الثاني بصياغة هذه المعلومات بما يتناسب والغرض المرجوَّ من تقديمها.
لا ريب في أنّ قائمة الدلالات المعرَّضة للتزييف تطول وتطول، إلا أنّ هدفنا هنا يقتصر على الاستدلال دون الاستقصاء.
إنّ عمليّة التلاعب بالدلالات عن طريق الاكتفاء بالدال دون المدلول( الاسم دون المسمّى) وكأنّ ذكر اسم الشيء يُغني عن الشيء ذاته( الحريّة- العدالة- المساواة) أو تغيير الدلالات بمجاورتها لدلالات أخرى( المواطن- المسؤول)، أو إفراغ الدّال من مدلوله( الديموقراطيّة)، أو اجتزاء الدلالات( الإعلام)، نقول: إنّ تنوّع أساليب الالتفاف على دلالات الألفاظ، إنّما هو - فيما نرى- ضرْبٌ من ضروب السلوك اللغويّ المكافئ لواقع عليل يُفصِح عن أعراضه من خلال دلالات مشوّهة.
إنّنا بانتظار اليوم الذي تُصان فيه اللغة، دوالاً ودلالات، وهذا لن يكون إلاّ بصيانة ( المرجِع الخارجيّ) أي ، الواقع الخارجي الذي تتنفّس فيه.
فهل سيأتي هذا اليوم، أم أن الأمر لا يزال في عِداد الأمنيات؟
دكتور زياد العوف
www.facebook.com
على أنَّ اللغة بمكوّناتها جميعاً، من أصواتٍ وألفاظٍ وتراكيبَ، تشبه الكائن الحيّ في نشأتها وفيما يعرض لبعض عناصرها من نموٍّ وتطوّر وانتقال، أو فناء في بعض الحالات ، وهذا كلّه له أسبابه وقوانينه المعروفة في علم الدّلالة(Semantique) ، وهو أمر تشترك فيه اللغات الإنسانيّة جميعها، وِفق نسبٍ وأشكال متفاوتة.
بيد أنّ ما نودّ تسليط الضوء عليه هنا ، إنّما هو هذا العبث المقصود المُجتَرَح بحقّ دلالات اللغة من خلال التلاعب بدوالها ومدلولاتها، بما يعكس في رأينا، واقعاً عربيّاً متردّياً، يجد معادله الدلاليّ في سلوك لغويّ مكافئ.
إنّنا نرى أنّ أزمة الواقع العربيّ المعاصر ، بكلّ تجلّياتها السياسية والاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة، تكاد تُفصِح عن نفسها من خلال المفاهيم والمصطلحات المتداولة للتعبير عنها ، ومايرافق ذلك من تطويع أو تهجين للعلامات اللغويّة، بما يُخرجها عن دلالاتها العرفيّة المصطلح عليها، بل بما يجعلها - في أحيان ليست بالقليلة- مطيّة لدلالات مضادة ؛ أي الحكم بإعدام الدلالات الأصليّة في نهاية الأمر.
-تزييف الدلالات في الواقع العربيّ الراهن :
قُلنا إنّ ثمّة عبثاً مقصوداً يُمارَس بحقّ دلالات اللغة ، ولبيان ذلك لا بدّ من بيان الآليّة الدلاليّة التي يتولّد المعنى من خلالها ، أي- وهذا هو صُلبُ موضوع علم الدلالة- كيف يمكن للألفاظ أنْ تؤدّي معناها.
الجواب على ذلك باختصار وتبسيط بالغَين، هو التالي: تتولّد الدّلالة ضمن آليّة العلاقة بين الدّال والمدلول الذي يُحيل بدوره على ما يُسمَّى( المرجع الخارجيّ) ؛ أي الواقع الخارجيّ ، محسوساً كان أو مُتَخيَّلاً. إنّ الدّال( قَلَم) مثلاً ، أي (الأصوات: ق ل م) تُحيل السامع على المُتَصوَّر الذهني له( المدلول)، ثمّ يقوم هذا المدلول بالإحالة على القلم المحسوس ذاته، أي( المرجع الخارجيّ)، وكذلك هو الشأن مع الأمور المعنويّة، إلاّ أنّ الإحالة في هذه الحالة تكون على مرجع متَخيَّل لا محسوس. ولا شكّ في أنّ الدلالات المعنويّة هي الأكثر عُرضةً للتزييف والتلاعب من الماديّات.
لذا سنتناول بالتحليل عدداً منها، لنستجلي ماتتعرّض له من اعتداء دلاليّ.
فلو بدأْنا بمفهوم( المواطَنَة) لوجدنا أنّ هذا الدّال يُحيل ،في النهاية ،إلى الدّلالة التي تشير إلى طبيعة الصّلة الجامعة بين سكان الوطن الواحد ، بما تحمله من سِمات دلاليّة تتمثّل في المساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات، مع كلّ التّبِعات المترتِّبة على ذلك . لكّن المُلاحظ في واقعنا العربيّ أنّ لفظ( المواطِن) كثيراً ما يُستخدَم في سياقات محدّدة للدّلالة على نقيض لفظ آخر، ألا وهو( المسؤول)، وهذا يعني دلاليّاً، ومِن ثَمّ واقعيّاً، حرمان( المواطِن) من حقّ المساواة الذي يدخل في صُلب مدلول ( المواطَنَة). أمّا لفظ( المسؤول) الذي يدلّ أصلاً على تحمّل أعباء المسؤوليّة الملقاة على عاتق هذا المسؤول في مجال ما، وبما يجعله مسؤولاً أمام المواطِن عن تَبِعات هذه المسؤوليّة، فإنّه بحكم استخدامه المُتَجاوِر مع لفظ( المواطِن) يكاد يُفرَغ من دلالته الأصليّة ويكتسِب دلالة واقعيّة جديدة تجعل من( المسؤوليّة) شرفاً لا يناله إلاّ الخاصّة. ولا يغُرّنّكَ، في هذا المقام، ذلك الشعار المتداوَل القائل:" المسؤوليّة تكليف لا تشريف" إذ هو يؤكّد عكس مدلوله، وِفق مبدَأ الإحالة إلى( المرجع الخارجيّ) أي ، إلى الواقع الملموس.
وبالانتقال إلى مفهوم آخر ، كثير التداول في مجتمعاتنا- ربّما من باب التعويض- وهو( الديموقراطيّة) فإنّنا نرى أنّ دلالته الأصليّة تشير إلى حكم الشعب لنفسه وبنفسه. إنّ التزييف الدلاليّ الذي يتعرّض له هذا الدّال، في أكثر من مكان في عالمنا العربيّ ، يتأتّى من التأكيد المستمرّ على ما يُسَمَّى بالخصوصيّة الثقافيّة والحضاريّة للشعوب، وهو بمثابة رفض مقنَّع للمفهوم؛ عملاً بمبدأ" لكم ما لكم ولنا ما لنا". غير أنّ هذا الرفض المقنّع سرعان ما يتحوّل إلى رفض فجّ عندما نُلحِق بمفهوم ( الديموقراطيّة) مفهوماً آخر يضبط معناه- أي يلغيه -وِفق الإحالة إلى الواقع الخارجيّ، كأنّ نلوِّح مثلاً بمفهوم( الديموقراطيّة الشعبيّة) بدلاً عنه.
وبما أنّنا في عصر المعلوماتيّة- كما يتردّد كثيراً في هذه الأيام- فلا بأس من البحث في دلالة( الإعلام) فذلك كلّه من الجذر اللغويّ( ع ل م)
إنّ الدلالة الأصلية للمصطلَح تدلّ على تقديم المعلومات الكافية والضروريّة للمواطن بما يجعله على علم بما يجري من وقائع وأحداث.
إنّ التزييف الدلاليّ هنا يتناول أمرين اثنين: الأوّل يتعلّق بانتقاء المعلومات المقدَّمَة، في حين يتعلّق الثاني بصياغة هذه المعلومات بما يتناسب والغرض المرجوَّ من تقديمها.
لا ريب في أنّ قائمة الدلالات المعرَّضة للتزييف تطول وتطول، إلا أنّ هدفنا هنا يقتصر على الاستدلال دون الاستقصاء.
إنّ عمليّة التلاعب بالدلالات عن طريق الاكتفاء بالدال دون المدلول( الاسم دون المسمّى) وكأنّ ذكر اسم الشيء يُغني عن الشيء ذاته( الحريّة- العدالة- المساواة) أو تغيير الدلالات بمجاورتها لدلالات أخرى( المواطن- المسؤول)، أو إفراغ الدّال من مدلوله( الديموقراطيّة)، أو اجتزاء الدلالات( الإعلام)، نقول: إنّ تنوّع أساليب الالتفاف على دلالات الألفاظ، إنّما هو - فيما نرى- ضرْبٌ من ضروب السلوك اللغويّ المكافئ لواقع عليل يُفصِح عن أعراضه من خلال دلالات مشوّهة.
إنّنا بانتظار اليوم الذي تُصان فيه اللغة، دوالاً ودلالات، وهذا لن يكون إلاّ بصيانة ( المرجِع الخارجيّ) أي ، الواقع الخارجي الذي تتنفّس فيه.
فهل سيأتي هذا اليوم، أم أن الأمر لا يزال في عِداد الأمنيات؟
دكتور زياد العوف
Zum Anzeigen anmelden oder registrieren
Sieh dir auf Facebook Beiträge, Fotos und vieles mehr an.