الحلقة الثالثة
توقفنا في الحلقة السابقة عند مفهوم الحريم الاقتصادي في انتاجات فاطمة المرنيسي، وهو تحديد قدمته النسوية السورية رحاب منى شاكر. سنخصص هذا المقال لعرض تحديد جديد، هو الحريم العائلي.
تنطلق الكاتبة "منى رحاب شاكر" من التأكيد على أن تواتر ولع المرنيسي بالحريم نابع من أيام طفولتها، كونها ترعرعت وسط حريم محافظ بمدينة فاس في زمن كانت النساء يحاولن تجاوز الحدود ويخترقنها باستمرار.
وقد حكت المرنيسي قصة ذلك الحريم في سيرتها المتخيلة التي أطلقت عليها عنوان "نساء على أجنحة الحلم" والتي صدرت سنة 1998.
ورد في هذه السيرة بوضوح محاولات واضحة ومباشرة لتعريف مصطلح الحريم. فقد كانت فاطمة الطفلة وقريبها الصغير سمير منشغلين بمعاني تلك الكلمة الغامضة التي طالما طرقت سمعيهما، إلا أنهما كانا يتجنبان طرح تساؤلاتهما على نساء العائلة خوفا من نشوء شقاقات بين المسنات الممثلات وحاميات للأعراف، وبين الشابات التواقات إلى كسر أقفال وجدران الحريم للانطلاق نحو الفضاءات الرحبة. وبما أن الجدران عالية ومصمتة، لا يتسنى لحبيسات الحريم العائلي سوى أن يمتطين أجنحة الحلم التي تحملهن مع الحكايا الليلية والمسرحيات المنزلية إلى فضاءات أوسع أفقا.
من خلال كتابها هذا تقدم المرنيسي مقاربة أدبية ساحرة لأجواء الحريم المديني والقروي. ذلك أن بطلة الرواية الصغيرة تتنقل بين حريم المدينة، حيث تسكن مع عائلة أبيها الكبيرة، وحريم الضيعة، حيث تسكن جدتها لأمها. حريم المدينة له أسوار عالية وحارس يقف أمام الباب، أما حريم الجدة الياسمين فكان بلا أسوار، إلا أنه كان بطريقته مرادفا للشقاء، لأنه يضطر الجدة أن تتقاسم زوجها مع سبع نساء أخريات. وهنا توسع المرنيسي استخدامها لكلمة الحريم، ليشمل كذلك علاقة التملك المهينة التي تتسم بها مؤسسة تعدد الزوجات المقبولة قانونيا في معظم البلدان الإسلامية. والربط بين تعدد الزوجات والحريم في غاية البداهة، وفي ذات السياق تشير "رحاب منى شاكر" الى ملاحظة هامة هي غياب توظيف النسويات المعاصرات لمصطلح الحريم في جدالاتهن السياسية التي تهدف إلى نقد طبيعة مؤسسة الزواج بشكلها الحالي. بل لطالما تم إنكار الناس وجود الحريم في العصر الحالي، وترجع الكاتبة هذا الى كونهم يربطون الحريم ذهنيا ببلاطات ملوك وأمراء في عصور ازدهار الحكم الاسلامي.
ترى "رحاب منى شاكر" أن المفهوم لازال يبرز حرفيا في المعاملات والقوانين التي تؤطر حياتنا. بل الأكثر تحضر القدسية الدينية لمفهوم الحريم، وهي التي تحول دون تسمية الأمور بمسمياتها.
كما تتحدث المرنيسي على لسان جدتها الياسمين حول أكثر أنواع الحريم شمولية؛ إنه الحريم اللامرئي الموجود في رؤوسنا و "المسجل في الجبين والجلد". يجعلنا الحريم اللامرئي نذعن لقوانين وقواعد غير مرئية كيلا ينالنا سوء. والعلامة الفارقة الوحيدة التي تجعلنا نكتشف ذلك النوع من الحريم هو العنف الذي نواجهه حين نحاول هتك تلك القواعد والقوانين التي غالبا ما تكون ضد النساء حصريا. الحل العملي الذي تقدمه الجدة ياسمين لحفيدتها فاطمة هو ألا تبحث عن الأسوار لترتطم بها عنوة، أي المرونة والدهاء لتخفيف الألم.
كتاب نساء على أجنحة الحلم هو عبارة عن مانيفستو يدعو جميع النساء إلى تعبئة طاقاتهن ليَفردن أجنحتهن، ويتمردن على حدود المكان عبر الخيال والحلم واللغة التي سوف تعبد السبيل إلى واقع يليق بإمكانياتهن ومواهبهن الكامنة، كما حصل مع المرنيسي الطفلة حين كبرت وأصبحت كاتبة.
استدعت النسوية "رحاب منى شاكر" مقتطفا من هذا الكتاب (ص 218 ) لايمانها بأنه يكشف فيه عن سر الحرية على لسان بطلتها الصغيرة :
"سمعت عمتي حبيبة وأمي يتحدثن عن حث النساء على أن يدعن الأجنحة تنبت لهن، وكانت عمتي تزعم بأن في مقدور الكل التوفر على أجنحة، والمسألة مسألة تركيز فقط. إن الأجنحة المعنية ليست ظاهرة كأجنحة الطيور، ولكنها تؤدي دورها على أحسن ما يرام، وكلما تعودنا على التركيز ونحن صغار، كان الأمر أفضل. وعندما ألححت عليها لكي تشرح أكثر، تضايقت وأخبرتني أن بعض الأشياء العجيبة لا تلقن : ما عليك إلا أن تكوني يقظة وتلتقطي الحفيف الحريري للحلم المجنح. ولكنها رغم ذلك أوضحت لي بأن هناك شرطين ضرورين للتوفر على أجنحة؛ أولهما أن تحسي بنفسك محاصرة في دائرة، وثانيهما أن تؤمني بأنك قادرة على فك حصارها".
https://www.facebook.com/MOSAWATE/posts/2076585439171523
توقفنا في الحلقة السابقة عند مفهوم الحريم الاقتصادي في انتاجات فاطمة المرنيسي، وهو تحديد قدمته النسوية السورية رحاب منى شاكر. سنخصص هذا المقال لعرض تحديد جديد، هو الحريم العائلي.
تنطلق الكاتبة "منى رحاب شاكر" من التأكيد على أن تواتر ولع المرنيسي بالحريم نابع من أيام طفولتها، كونها ترعرعت وسط حريم محافظ بمدينة فاس في زمن كانت النساء يحاولن تجاوز الحدود ويخترقنها باستمرار.
وقد حكت المرنيسي قصة ذلك الحريم في سيرتها المتخيلة التي أطلقت عليها عنوان "نساء على أجنحة الحلم" والتي صدرت سنة 1998.
ورد في هذه السيرة بوضوح محاولات واضحة ومباشرة لتعريف مصطلح الحريم. فقد كانت فاطمة الطفلة وقريبها الصغير سمير منشغلين بمعاني تلك الكلمة الغامضة التي طالما طرقت سمعيهما، إلا أنهما كانا يتجنبان طرح تساؤلاتهما على نساء العائلة خوفا من نشوء شقاقات بين المسنات الممثلات وحاميات للأعراف، وبين الشابات التواقات إلى كسر أقفال وجدران الحريم للانطلاق نحو الفضاءات الرحبة. وبما أن الجدران عالية ومصمتة، لا يتسنى لحبيسات الحريم العائلي سوى أن يمتطين أجنحة الحلم التي تحملهن مع الحكايا الليلية والمسرحيات المنزلية إلى فضاءات أوسع أفقا.
من خلال كتابها هذا تقدم المرنيسي مقاربة أدبية ساحرة لأجواء الحريم المديني والقروي. ذلك أن بطلة الرواية الصغيرة تتنقل بين حريم المدينة، حيث تسكن مع عائلة أبيها الكبيرة، وحريم الضيعة، حيث تسكن جدتها لأمها. حريم المدينة له أسوار عالية وحارس يقف أمام الباب، أما حريم الجدة الياسمين فكان بلا أسوار، إلا أنه كان بطريقته مرادفا للشقاء، لأنه يضطر الجدة أن تتقاسم زوجها مع سبع نساء أخريات. وهنا توسع المرنيسي استخدامها لكلمة الحريم، ليشمل كذلك علاقة التملك المهينة التي تتسم بها مؤسسة تعدد الزوجات المقبولة قانونيا في معظم البلدان الإسلامية. والربط بين تعدد الزوجات والحريم في غاية البداهة، وفي ذات السياق تشير "رحاب منى شاكر" الى ملاحظة هامة هي غياب توظيف النسويات المعاصرات لمصطلح الحريم في جدالاتهن السياسية التي تهدف إلى نقد طبيعة مؤسسة الزواج بشكلها الحالي. بل لطالما تم إنكار الناس وجود الحريم في العصر الحالي، وترجع الكاتبة هذا الى كونهم يربطون الحريم ذهنيا ببلاطات ملوك وأمراء في عصور ازدهار الحكم الاسلامي.
ترى "رحاب منى شاكر" أن المفهوم لازال يبرز حرفيا في المعاملات والقوانين التي تؤطر حياتنا. بل الأكثر تحضر القدسية الدينية لمفهوم الحريم، وهي التي تحول دون تسمية الأمور بمسمياتها.
كما تتحدث المرنيسي على لسان جدتها الياسمين حول أكثر أنواع الحريم شمولية؛ إنه الحريم اللامرئي الموجود في رؤوسنا و "المسجل في الجبين والجلد". يجعلنا الحريم اللامرئي نذعن لقوانين وقواعد غير مرئية كيلا ينالنا سوء. والعلامة الفارقة الوحيدة التي تجعلنا نكتشف ذلك النوع من الحريم هو العنف الذي نواجهه حين نحاول هتك تلك القواعد والقوانين التي غالبا ما تكون ضد النساء حصريا. الحل العملي الذي تقدمه الجدة ياسمين لحفيدتها فاطمة هو ألا تبحث عن الأسوار لترتطم بها عنوة، أي المرونة والدهاء لتخفيف الألم.
كتاب نساء على أجنحة الحلم هو عبارة عن مانيفستو يدعو جميع النساء إلى تعبئة طاقاتهن ليَفردن أجنحتهن، ويتمردن على حدود المكان عبر الخيال والحلم واللغة التي سوف تعبد السبيل إلى واقع يليق بإمكانياتهن ومواهبهن الكامنة، كما حصل مع المرنيسي الطفلة حين كبرت وأصبحت كاتبة.
استدعت النسوية "رحاب منى شاكر" مقتطفا من هذا الكتاب (ص 218 ) لايمانها بأنه يكشف فيه عن سر الحرية على لسان بطلتها الصغيرة :
"سمعت عمتي حبيبة وأمي يتحدثن عن حث النساء على أن يدعن الأجنحة تنبت لهن، وكانت عمتي تزعم بأن في مقدور الكل التوفر على أجنحة، والمسألة مسألة تركيز فقط. إن الأجنحة المعنية ليست ظاهرة كأجنحة الطيور، ولكنها تؤدي دورها على أحسن ما يرام، وكلما تعودنا على التركيز ونحن صغار، كان الأمر أفضل. وعندما ألححت عليها لكي تشرح أكثر، تضايقت وأخبرتني أن بعض الأشياء العجيبة لا تلقن : ما عليك إلا أن تكوني يقظة وتلتقطي الحفيف الحريري للحلم المجنح. ولكنها رغم ذلك أوضحت لي بأن هناك شرطين ضرورين للتوفر على أجنحة؛ أولهما أن تحسي بنفسك محاصرة في دائرة، وثانيهما أن تؤمني بأنك قادرة على فك حصارها".
https://www.facebook.com/MOSAWATE/posts/2076585439171523