يمكننا أن نختلق أسطورة دائماً، لأن الحياة محتشدة بالحركة الدؤوبة، وهكذا فنحن نستطيع أن نتخذ أحد تفسيرين لها؛ إما تفسيراً أسطورياً، أو تفسيراً علمياً.
التفسير الأسطوري من بقايا دهشة الإنسان الأولى، والتفسير العلمي من بقايا موت تلك الدهشة.
وأيا ما كان تعريف الأسطور، عند فريزر او فراس السواح أو غيرهما، فإن بناء الاسطورة رغم سهولته لكنه دائماً محمل بالغرائبيات. فقصص الجدات، والأديان وتفسيرات غرائب الطبيعة، تصلح لجذب الأطفال وربطهم بالوجود على نحو وثيق وهم في بداية عهدهم بالتساؤلات الكبرى، وتصلح للكبار لكي يتركوا تلك التساؤلات ويتركوا الطبيعة وشأنها.
أقول ذلك بعد أن شاهدت الشفنين الطائر، أو أسماك الراي او شيطان البحر، وهي تغوص في المحيطات ثم تقفز من سطحها إلى السماء فاردة أجنحتها لتحبس الهواء داخلها، محاولة الطيران، لكنها تفشل وتعود ساقطة إلى البحر، فتغوص فيه، ثم تعيد الكرة مراراً دون يأس ولكن بلا أمل تقريباً في الخروج من عالمها المائي المخيف؛ فهي تشبه كثيراً أولئك المهاجرين غير الشرعيين، الذين يحاولون الإفلات من واقعهم المرير في افريقيا، فيستقلوا مراكب الموت إلى أوروبا، وربما بعد ألف سنة، سيفعل الأوروبيون العكس، فيهاجروا هجرات غير شرعية إلى افريقيا، ذلك أن الأيام تُتداول بين الناس.
شاهدت تلك الأسماك، وعنَّ لي أن أؤلف عنها أسطورة صغيرة بسيطة، كأسطورة "أبي الدردوق" أو (خنفس الروث) والتي حكتها لي والدتي في طفولتي، وأبو الدردوق هذا حشرة تجمع مخلفات الأرض وتكورها وتدفع بكرة المخلفات أمامها فتكبر وتكبر حتى يعجز أبو الدردوق عن دفعها فيتركها ثم يقوم بتكرار ذلك مرات ومرات، والأسطورة أن أبا الدروق هذا شاهد القمر يوماً ما بدراً مستديراً ومشعاً في سماء أحد الأيام، فهاله جماله وعشقه فطلب الزواج من القمر، ونحن نؤنث القمر فنقول "قَمَرة" فجازت القصة هنا، المهم أن القمرة نظرت إلى خنفس الروث الصغير القبيح فاحتقرته، ولكي لا ترفضه بأسلوب غير مهذب، قالت له: أنا كما تراني، بيضاء ونظيفة والأرض متسخة، فإن أردت الزواج بي فنظف لي الأرض من الاوساخ كي أنزل إليك. ومنذ ذلك اليوم وأبو الدردوق يحاول تنظيف الأرض، وأحمد الله أنه فشل في مهمته حتى لا ينزل إلينا القمر فينهار استقرار كوكبنا.
كان ذلك تفسير الأسطورة لسلوك تلك الحشرة الغريب، وعندما رأيت الشفنين، فكرت في اختلاق أسطورة مماثلة، لكن ما هي؟ دعونا نحاول اختلاق القصة كما كان أجدادنا البدائيين يفعلون وهم يحاولون تفسير سلوك الطبيعة الجامدة والحية، ولنتخيل أن سمكة الراي هذه تحاول الإفلات من بيئتها البحرية والتحليق في السماء، فلماذا تحاول ذلك؟ لن نقول بأن هذه السمكة قد عشقت القمر وتحاول الطيران إليه، لأن هذه القصة احتكرها أبو الدردوق، ولنبحث -من ثمَّ- عن قصة أخرى مختلفة. لكن دعنا نقترب من أسطورة سيزيف الإغريقية، مع تبسيطها.
ففي سالف العصر والأوان، هبط نسر من أعالي السماء، ليصطاد سمكة قرش كانت تعوم في البحر، غير أن سمكة القرش كانت أقوى من النسر، فغاصت به إلى الماء وتم القبض على النسر وتحويله إلى المحاكمة. فاجتمعت كائنات البحر أجمعين حول صخرة والنسر مكبل وملقى فوقها، وكان القاضي سلحفاة عجوز عاشت منذ عصر الطوفان العظيم، سردت وقائع جريمة النسر الجائع، وسألته:
- هل أنت مذنب؟
فأجاب:
- لست مذنباً..
فقالت:
- كيف لا تكون مذنباً وقد حاولت تهديد امن الكائنات البحرية؟
فاجاب:
- سيدتي القاضية، إنني لم أحاول تهديد أمنكم، بل على الهكس، فلقد رأيت ما تعيشون فيه من بؤس وشقاء، ذلك أنكم لم تروا أبداً ضوء الشمس كما يجب، ولم تستنشقوا رائحة الزهور، ولم تتمرغوا في وديان الخضرة، ولم تروا الأرض من أعلى، فتشاهدوا قمم الجبال والأشجار، أنتم كائنات محرومة من نعمة الحياة فوق اليابسة، والتشمس بخيوط الشمس الذهبية الدافئة، وسماع زقزقة العصافير، وحفيف الريح، وصوت الرعد والمطر. انتم سجناء في هذا البحر المحدود. ولما رأيت ذلك من علٍ قررت نقلكم إلى عالم الفردوس الحقيقي، عالم اليابسة، فبدأت -ولسوء حظي- بالقرش، ففشلت وسقطت معه حيث تحاكمونني الآن على ما كنت أود ان افعله لكم من خير.
فقالت السلحفاة العجوز:
- إنني أيها المتهم، أعيش في البر والبحر، وقد رأيت كليهما، وأدرك أن ما تقوله حق، لكن الكائنات البحرية لا يمكنها أن تعيش إلا في البحر، ولو خرجت هذه الأسماك من هنا ماتت. لذلك فإنني أحكم عليك بالبراءة بشرط أن لا تحاول فعل ذلك مرة أخرى.
وكانت سمكة الراي تسمع ما قاله النسر، وما قالته القاضية العجوز، فتاقت نفسها لعالم اليابسة، حيث الحرية، والأضواء، والخضرة الرائقة، فقالت للنسر:
- خذني أنا أيها النسر.
فقال النسر:
- لقد تعهدت بألا أكرر ما فعلت ولا أخلف العهد الذي قطعته.
ثم أزيلت القيود عن قدم النسر، فرفرف بجناحيه العظيمين وطار محلقاً في السماء.
رأت سمكة الراي ذلك وحزنت على نفسها، ثم قررت أن تطير مقلدة النسر، حتى تتحرر من بيئتها التي لا تحبها، ومنذ ذلك الوقت وهي تحاول الطيران، فتدفع بجسدها إلى خارج البحر، ثم ترفرف بزعانفها، التي ازداد حجمها من كثرة المحاولات حتى تحولت لاجنحة، ولكنها أجنحة عاطلة عن تحقيق أحلام الحرية، وقالت السلحفاة العجوز:
- يا سمكة الشفنين المسكينة..إن الحرية ليست في جسدك، وإنما في عقلك. حرري عقلك وعيشي أينما شئت..
إلا أن سمكة الراي رفضت تلك الحكمة..ولا زالت حتى يومنا هذا تحاول الهروب..
التفسير الأسطوري من بقايا دهشة الإنسان الأولى، والتفسير العلمي من بقايا موت تلك الدهشة.
وأيا ما كان تعريف الأسطور، عند فريزر او فراس السواح أو غيرهما، فإن بناء الاسطورة رغم سهولته لكنه دائماً محمل بالغرائبيات. فقصص الجدات، والأديان وتفسيرات غرائب الطبيعة، تصلح لجذب الأطفال وربطهم بالوجود على نحو وثيق وهم في بداية عهدهم بالتساؤلات الكبرى، وتصلح للكبار لكي يتركوا تلك التساؤلات ويتركوا الطبيعة وشأنها.
أقول ذلك بعد أن شاهدت الشفنين الطائر، أو أسماك الراي او شيطان البحر، وهي تغوص في المحيطات ثم تقفز من سطحها إلى السماء فاردة أجنحتها لتحبس الهواء داخلها، محاولة الطيران، لكنها تفشل وتعود ساقطة إلى البحر، فتغوص فيه، ثم تعيد الكرة مراراً دون يأس ولكن بلا أمل تقريباً في الخروج من عالمها المائي المخيف؛ فهي تشبه كثيراً أولئك المهاجرين غير الشرعيين، الذين يحاولون الإفلات من واقعهم المرير في افريقيا، فيستقلوا مراكب الموت إلى أوروبا، وربما بعد ألف سنة، سيفعل الأوروبيون العكس، فيهاجروا هجرات غير شرعية إلى افريقيا، ذلك أن الأيام تُتداول بين الناس.
شاهدت تلك الأسماك، وعنَّ لي أن أؤلف عنها أسطورة صغيرة بسيطة، كأسطورة "أبي الدردوق" أو (خنفس الروث) والتي حكتها لي والدتي في طفولتي، وأبو الدردوق هذا حشرة تجمع مخلفات الأرض وتكورها وتدفع بكرة المخلفات أمامها فتكبر وتكبر حتى يعجز أبو الدردوق عن دفعها فيتركها ثم يقوم بتكرار ذلك مرات ومرات، والأسطورة أن أبا الدروق هذا شاهد القمر يوماً ما بدراً مستديراً ومشعاً في سماء أحد الأيام، فهاله جماله وعشقه فطلب الزواج من القمر، ونحن نؤنث القمر فنقول "قَمَرة" فجازت القصة هنا، المهم أن القمرة نظرت إلى خنفس الروث الصغير القبيح فاحتقرته، ولكي لا ترفضه بأسلوب غير مهذب، قالت له: أنا كما تراني، بيضاء ونظيفة والأرض متسخة، فإن أردت الزواج بي فنظف لي الأرض من الاوساخ كي أنزل إليك. ومنذ ذلك اليوم وأبو الدردوق يحاول تنظيف الأرض، وأحمد الله أنه فشل في مهمته حتى لا ينزل إلينا القمر فينهار استقرار كوكبنا.
كان ذلك تفسير الأسطورة لسلوك تلك الحشرة الغريب، وعندما رأيت الشفنين، فكرت في اختلاق أسطورة مماثلة، لكن ما هي؟ دعونا نحاول اختلاق القصة كما كان أجدادنا البدائيين يفعلون وهم يحاولون تفسير سلوك الطبيعة الجامدة والحية، ولنتخيل أن سمكة الراي هذه تحاول الإفلات من بيئتها البحرية والتحليق في السماء، فلماذا تحاول ذلك؟ لن نقول بأن هذه السمكة قد عشقت القمر وتحاول الطيران إليه، لأن هذه القصة احتكرها أبو الدردوق، ولنبحث -من ثمَّ- عن قصة أخرى مختلفة. لكن دعنا نقترب من أسطورة سيزيف الإغريقية، مع تبسيطها.
ففي سالف العصر والأوان، هبط نسر من أعالي السماء، ليصطاد سمكة قرش كانت تعوم في البحر، غير أن سمكة القرش كانت أقوى من النسر، فغاصت به إلى الماء وتم القبض على النسر وتحويله إلى المحاكمة. فاجتمعت كائنات البحر أجمعين حول صخرة والنسر مكبل وملقى فوقها، وكان القاضي سلحفاة عجوز عاشت منذ عصر الطوفان العظيم، سردت وقائع جريمة النسر الجائع، وسألته:
- هل أنت مذنب؟
فأجاب:
- لست مذنباً..
فقالت:
- كيف لا تكون مذنباً وقد حاولت تهديد امن الكائنات البحرية؟
فاجاب:
- سيدتي القاضية، إنني لم أحاول تهديد أمنكم، بل على الهكس، فلقد رأيت ما تعيشون فيه من بؤس وشقاء، ذلك أنكم لم تروا أبداً ضوء الشمس كما يجب، ولم تستنشقوا رائحة الزهور، ولم تتمرغوا في وديان الخضرة، ولم تروا الأرض من أعلى، فتشاهدوا قمم الجبال والأشجار، أنتم كائنات محرومة من نعمة الحياة فوق اليابسة، والتشمس بخيوط الشمس الذهبية الدافئة، وسماع زقزقة العصافير، وحفيف الريح، وصوت الرعد والمطر. انتم سجناء في هذا البحر المحدود. ولما رأيت ذلك من علٍ قررت نقلكم إلى عالم الفردوس الحقيقي، عالم اليابسة، فبدأت -ولسوء حظي- بالقرش، ففشلت وسقطت معه حيث تحاكمونني الآن على ما كنت أود ان افعله لكم من خير.
فقالت السلحفاة العجوز:
- إنني أيها المتهم، أعيش في البر والبحر، وقد رأيت كليهما، وأدرك أن ما تقوله حق، لكن الكائنات البحرية لا يمكنها أن تعيش إلا في البحر، ولو خرجت هذه الأسماك من هنا ماتت. لذلك فإنني أحكم عليك بالبراءة بشرط أن لا تحاول فعل ذلك مرة أخرى.
وكانت سمكة الراي تسمع ما قاله النسر، وما قالته القاضية العجوز، فتاقت نفسها لعالم اليابسة، حيث الحرية، والأضواء، والخضرة الرائقة، فقالت للنسر:
- خذني أنا أيها النسر.
فقال النسر:
- لقد تعهدت بألا أكرر ما فعلت ولا أخلف العهد الذي قطعته.
ثم أزيلت القيود عن قدم النسر، فرفرف بجناحيه العظيمين وطار محلقاً في السماء.
رأت سمكة الراي ذلك وحزنت على نفسها، ثم قررت أن تطير مقلدة النسر، حتى تتحرر من بيئتها التي لا تحبها، ومنذ ذلك الوقت وهي تحاول الطيران، فتدفع بجسدها إلى خارج البحر، ثم ترفرف بزعانفها، التي ازداد حجمها من كثرة المحاولات حتى تحولت لاجنحة، ولكنها أجنحة عاطلة عن تحقيق أحلام الحرية، وقالت السلحفاة العجوز:
- يا سمكة الشفنين المسكينة..إن الحرية ليست في جسدك، وإنما في عقلك. حرري عقلك وعيشي أينما شئت..
إلا أن سمكة الراي رفضت تلك الحكمة..ولا زالت حتى يومنا هذا تحاول الهروب..