عند تولي هوانات قحط الوزارات تم نشر سير ذاتية لهم، وكانت كلها اكاذيب مستقاة من حقائق، فمثلاً، يتم الحديث عن خبرات قانونية كالآتي: خبير قانوني، دراسات في القانون الجنائي والقانون الدولي وقانون العمل والقانون الإداري وقانون الاجراءات الجنائية والمدنية و...الخ. في حين ان هذه هي مقررات القانون في أي جامعة في العالم..
تضخيم السيرة الذاتية أصبح له خبراء، أي خبراء في الاكاذيب، ولم أعد أفهم قيمة السيرة الذاتية التي يجب أن يتم تنميقها، وهل تنطلي تلك الأكاذيب على متخصص في علم من العلوم؟..
أعتقد ان السيرة الذاتية عهد قد ولى زمانه، ويجب الآن أن يتم تغييرها لتنقسم إلى سيرة مقتضبة رسمية (بها الشهادات كلها) مع اختبار صغير ولكنه معقد، مثل قضية من القضايا، او سؤال أو طلب مقترح ما؟
لقد أصبح كل شيء قابلاً للتزوير حتى الكتب والأبحاث العلمية والشهادات والخبرات، وفي الغالب فإن التزوير يكون ضرورة لكل مبتدئ لأن الوظيفة تتطلب شهادة خبرة، والخبرة تتطلب وظيفة، وهكذا يسقط الخريج في دائرة مفرغة، يقوم بكسرها بتزييف بعض الوثائق، هذا إن لم يكن لديه واسطة قوية.
لذلك ففكرة السيرة الذاتية نفسها أصبحت عقيمة، دعنا نسأل عن بعض المتطلبات المعنوية، مثل مهارات التواصل والقدرة على تحمل الشدة،..الخ، والتي يتم تثبيتها داخل الطلب الذي يملؤه طالب الوظيفة..ما معنى هذا الهراء؟ يذكرني هذا بمفيد الوحش، وهو مسلس سوري لرجل قوي وله عضلات ولكنه لم ينجب، فذهبت زوجته إلى الطبيب الذي أخبرها بأن زوجها عقيم، فقالت بدهشة وباللهجة السورية اللطيفة: بس هوي بيضرب الحيط بيكسرو..
فاخبرها الطبيب بأنه لا علاقة بين الأمرين. فالمظهر لا يعني أي شيء وكذلك أن تقوم بوضع اسئلة حمقاء كهذه في طلب سيرة ذاتية. ما معنى التواصل وما حدود المهارات، ما مقدار الشدة وما مقدار التحمل وما أدوات القياس؟ وغالبا ما يجيب عنها طالب الوظيفة بكلمة نعم أو وضع علامة صح على المربع.
عالم بلا شهادات:
كنت اود الهجرة لاوروبا فقال لي احدهم: وثق شهاداتك، فأجبته: موثقة ولكنني لا احتاجها. ولم اكن امزح معه، فأنا أعرف انني قادر على الإنتاج العلمي الذي يثبت قدراتي بلا حاجة للأوراق. واعتقد اننا يجب أن نغير مفهومنا للتعليم بحيث يتحول للمنهج الأداتي، أي الذي يسعى لتحقيق نتيجة عملية ومادية على أرض الواقع. نحن لا نحتاج لدراسات اكاديمية تمتد لخمس او ست سنوات، نحن في حاجة لفنيين أكثر من أكاديميين، فالبلد ملأى بالاكاديميين العاطلين عن العمل. بل حتى الدراسات الاكاديمية يجب ان تقترن بالمؤسسات الاقتصادية اقترانا مباشراً، ولكن المشكلة أن الرأسماليين لدينا ليس لديهم تلك المؤسسات الضخمة التي يمكن ان تتبنى الكليات الجامعية المفيدة لهم كما في الولايات المتحدة مثلاً. العمال لدينا يتعلمون الحرفة او الصنعة بدون تنظيم يردم لهم فجوة التعلم الزمنية، ولا يوجد أساساً تنظيماً ممنهجا لتطوير القوى البشرية. إن دول الخليج اليوم تستفيد من الفلبينيين لأن الفلبين تقوم بتدريب المواطن وتنظم له اغترابه في الخليج بل وتحميه. فحتى خدم المنازل يتم تدريبهم تدريباً شاقاً ليس على العمل ذاته بل حتى على كيفية التعامل مع الثقافات الأخرى. فكل شيء منظم لأن المغترب هو الذي يوفر العملة الصعبة للدولة. هناك اتفاقات ثنائية بين الدول على تبادل العمالة، مثل المغرب واسبانيا، حيث توفر المغرب عمالا لحصاد الثمار في كل موسم، ويتم إعادتهم مرة اخرى إلى المغرب، ورغم المشاكل السياسية بين البلدين فإن هذه الاتفاقية لا تتأثر لأنها تدر فوائد للطرفين. وتنشيء الدول المنظمة دبلومات تدريبية قصيرة او متوسطة المدى للتدريب على العمل الفني كالسباكة والخراطة والنقاشة والكهرباء والميكانيكا ثم إرسال المتدربين للعمل بالدول الأخرى وذلك بحسب خطة مدروسة واتفاقيات ثنائية ثابتة.
فالمسألة لا تتعلق بورقة موثقة بل بنظام تدريبي وتأهيلي عالي المستوى، بحسب حاجة سوق العمل المحلي والدولي.
هناك العديد من العباقرة الذين لم يكملوا تعليمهم ومع ذلك تم الاعتراف بقدراتهم عبر انتاجهم مثل شومسكي، الذي قال في أحد اللقاءات بأنه ترك الجامعة لأنه كره المنهج الدراسي، ووضع لنفسه منهجا خاصا به التزم به. ففي بعض الأحيان يكون المنهج الدراسي أقل من شغف الطالب، بل ومعرقلاً له. والمؤسسات التعليمية تساوي هؤلاء بالأقل منهم، لأنها تعمل فقط على طباعة شهادة مختومة بعد نهاية السنوات الدراسية. واليوم اصبحت الدراسة تجارة رابحة، وأصبحت هناك دول تعتمد التعليم كمصدر للدخل القومي. واصبح من السهل الحصول على شهادة معتمدة وموثقة لمن يدفع.
في الواقع لا يعني ذلك اي شيء سوى التخلص من عقدة (نفس-اجتماعية) اسمها الخريج الجامعي. لكنني متأكد ان النظام الجامعي سيشهد تحولات كبيرة في المستقبل، بل وقد تختفي الجامعات تماماً لتحل محلها مؤسسات أخرى تعتمد الفعالية. وبالتالي أتوقع ان ينتهي بالتالي عصر السيرة الذاتية، لأن التعليم الموجه سيربط الطالب في تلك المؤسسات بالعمل مباشرة، ومع وجود قواعد البيانات في تلك المؤسسات، ستكون السيرة الذاتية مجرد روابط إحالية.
مثال عملي:
نقلت البي بي سي عن هيذر ريتشيوتو؛ الأكاديمية ومسؤولة التوعية عن المواهب في شركة IBM Security قولها:
(إن شركتنا أدركت قبل عدة سنوات، أنها لم تعد قادرة على مواصلة البحث عن موظفين من نفس المصادر التقليدية القديمة.
"لم نعد قادرين على الاستمرار في محاولة توظيف أشخاص يحملون درجات البكالوريوس والماجستير من جامعات رفيعة المستوى. فقد أدركنا أنه علينا البدء في البحث عن المواهب في مجموعات غير تقليدية".
"لقد قمنا بتوظيف أشخاص يحملون شهادات ثانوية أو جامعية وخريجي المعسكرات التمهيدية، والحاصلين على تدريبات مجانية عبر الانترنت والذين تعلموا بشكل ذاتي دون أي شهادة، والأشخاص الذين تلقوا برامج تدريب مهنية".
"هناك الكثير من الوظائف الشاغرة في مجال الأمن السيبراني في جميع أنحاء العالم، ولا يمكننا أن نملأها جميعها بخريجي الجامعات. لا يوجد عدد كافٍ من الأشخاص الذين يتخرجون بمهارات مناسبة لشغل جميع الوظائف الشاغرة".).
تضخيم السيرة الذاتية أصبح له خبراء، أي خبراء في الاكاذيب، ولم أعد أفهم قيمة السيرة الذاتية التي يجب أن يتم تنميقها، وهل تنطلي تلك الأكاذيب على متخصص في علم من العلوم؟..
أعتقد ان السيرة الذاتية عهد قد ولى زمانه، ويجب الآن أن يتم تغييرها لتنقسم إلى سيرة مقتضبة رسمية (بها الشهادات كلها) مع اختبار صغير ولكنه معقد، مثل قضية من القضايا، او سؤال أو طلب مقترح ما؟
لقد أصبح كل شيء قابلاً للتزوير حتى الكتب والأبحاث العلمية والشهادات والخبرات، وفي الغالب فإن التزوير يكون ضرورة لكل مبتدئ لأن الوظيفة تتطلب شهادة خبرة، والخبرة تتطلب وظيفة، وهكذا يسقط الخريج في دائرة مفرغة، يقوم بكسرها بتزييف بعض الوثائق، هذا إن لم يكن لديه واسطة قوية.
لذلك ففكرة السيرة الذاتية نفسها أصبحت عقيمة، دعنا نسأل عن بعض المتطلبات المعنوية، مثل مهارات التواصل والقدرة على تحمل الشدة،..الخ، والتي يتم تثبيتها داخل الطلب الذي يملؤه طالب الوظيفة..ما معنى هذا الهراء؟ يذكرني هذا بمفيد الوحش، وهو مسلس سوري لرجل قوي وله عضلات ولكنه لم ينجب، فذهبت زوجته إلى الطبيب الذي أخبرها بأن زوجها عقيم، فقالت بدهشة وباللهجة السورية اللطيفة: بس هوي بيضرب الحيط بيكسرو..
فاخبرها الطبيب بأنه لا علاقة بين الأمرين. فالمظهر لا يعني أي شيء وكذلك أن تقوم بوضع اسئلة حمقاء كهذه في طلب سيرة ذاتية. ما معنى التواصل وما حدود المهارات، ما مقدار الشدة وما مقدار التحمل وما أدوات القياس؟ وغالبا ما يجيب عنها طالب الوظيفة بكلمة نعم أو وضع علامة صح على المربع.
كنت اود الهجرة لاوروبا فقال لي احدهم: وثق شهاداتك، فأجبته: موثقة ولكنني لا احتاجها. ولم اكن امزح معه، فأنا أعرف انني قادر على الإنتاج العلمي الذي يثبت قدراتي بلا حاجة للأوراق. واعتقد اننا يجب أن نغير مفهومنا للتعليم بحيث يتحول للمنهج الأداتي، أي الذي يسعى لتحقيق نتيجة عملية ومادية على أرض الواقع. نحن لا نحتاج لدراسات اكاديمية تمتد لخمس او ست سنوات، نحن في حاجة لفنيين أكثر من أكاديميين، فالبلد ملأى بالاكاديميين العاطلين عن العمل. بل حتى الدراسات الاكاديمية يجب ان تقترن بالمؤسسات الاقتصادية اقترانا مباشراً، ولكن المشكلة أن الرأسماليين لدينا ليس لديهم تلك المؤسسات الضخمة التي يمكن ان تتبنى الكليات الجامعية المفيدة لهم كما في الولايات المتحدة مثلاً. العمال لدينا يتعلمون الحرفة او الصنعة بدون تنظيم يردم لهم فجوة التعلم الزمنية، ولا يوجد أساساً تنظيماً ممنهجا لتطوير القوى البشرية. إن دول الخليج اليوم تستفيد من الفلبينيين لأن الفلبين تقوم بتدريب المواطن وتنظم له اغترابه في الخليج بل وتحميه. فحتى خدم المنازل يتم تدريبهم تدريباً شاقاً ليس على العمل ذاته بل حتى على كيفية التعامل مع الثقافات الأخرى. فكل شيء منظم لأن المغترب هو الذي يوفر العملة الصعبة للدولة. هناك اتفاقات ثنائية بين الدول على تبادل العمالة، مثل المغرب واسبانيا، حيث توفر المغرب عمالا لحصاد الثمار في كل موسم، ويتم إعادتهم مرة اخرى إلى المغرب، ورغم المشاكل السياسية بين البلدين فإن هذه الاتفاقية لا تتأثر لأنها تدر فوائد للطرفين. وتنشيء الدول المنظمة دبلومات تدريبية قصيرة او متوسطة المدى للتدريب على العمل الفني كالسباكة والخراطة والنقاشة والكهرباء والميكانيكا ثم إرسال المتدربين للعمل بالدول الأخرى وذلك بحسب خطة مدروسة واتفاقيات ثنائية ثابتة.
فالمسألة لا تتعلق بورقة موثقة بل بنظام تدريبي وتأهيلي عالي المستوى، بحسب حاجة سوق العمل المحلي والدولي.
هناك العديد من العباقرة الذين لم يكملوا تعليمهم ومع ذلك تم الاعتراف بقدراتهم عبر انتاجهم مثل شومسكي، الذي قال في أحد اللقاءات بأنه ترك الجامعة لأنه كره المنهج الدراسي، ووضع لنفسه منهجا خاصا به التزم به. ففي بعض الأحيان يكون المنهج الدراسي أقل من شغف الطالب، بل ومعرقلاً له. والمؤسسات التعليمية تساوي هؤلاء بالأقل منهم، لأنها تعمل فقط على طباعة شهادة مختومة بعد نهاية السنوات الدراسية. واليوم اصبحت الدراسة تجارة رابحة، وأصبحت هناك دول تعتمد التعليم كمصدر للدخل القومي. واصبح من السهل الحصول على شهادة معتمدة وموثقة لمن يدفع.
في الواقع لا يعني ذلك اي شيء سوى التخلص من عقدة (نفس-اجتماعية) اسمها الخريج الجامعي. لكنني متأكد ان النظام الجامعي سيشهد تحولات كبيرة في المستقبل، بل وقد تختفي الجامعات تماماً لتحل محلها مؤسسات أخرى تعتمد الفعالية. وبالتالي أتوقع ان ينتهي بالتالي عصر السيرة الذاتية، لأن التعليم الموجه سيربط الطالب في تلك المؤسسات بالعمل مباشرة، ومع وجود قواعد البيانات في تلك المؤسسات، ستكون السيرة الذاتية مجرد روابط إحالية.
نقلت البي بي سي عن هيذر ريتشيوتو؛ الأكاديمية ومسؤولة التوعية عن المواهب في شركة IBM Security قولها:
(إن شركتنا أدركت قبل عدة سنوات، أنها لم تعد قادرة على مواصلة البحث عن موظفين من نفس المصادر التقليدية القديمة.
"لم نعد قادرين على الاستمرار في محاولة توظيف أشخاص يحملون درجات البكالوريوس والماجستير من جامعات رفيعة المستوى. فقد أدركنا أنه علينا البدء في البحث عن المواهب في مجموعات غير تقليدية".
"لقد قمنا بتوظيف أشخاص يحملون شهادات ثانوية أو جامعية وخريجي المعسكرات التمهيدية، والحاصلين على تدريبات مجانية عبر الانترنت والذين تعلموا بشكل ذاتي دون أي شهادة، والأشخاص الذين تلقوا برامج تدريب مهنية".
"هناك الكثير من الوظائف الشاغرة في مجال الأمن السيبراني في جميع أنحاء العالم، ولا يمكننا أن نملأها جميعها بخريجي الجامعات. لا يوجد عدد كافٍ من الأشخاص الذين يتخرجون بمهارات مناسبة لشغل جميع الوظائف الشاغرة".).