ليس الشاعر نحويا ولا ينبغي له أن يكون كذلك، وإلا فارقه إلهام الشعر الذي لا يرتضي (ضرة)، ولا يقبل منافسة مع سائر الفنون الأدبية. وإلا فإنه يستبدل بدفقاته الغزيرة الصافية الصادقة نتاج صانع محترف، كأنما ينحت كلماته بإزميل نحات ماهر، فتأتي بديعة الشكل والقوام، لكنها جسد خالٍ من الروح، ومن النفس المتوهجة الوثابة.
وقد اختلف الشعراء منذ القدم في طريقة معاودتهم النظر في قصائدهم بعد فراغهم منها، وذلك منذ البدايات الأولى للشعر، فقد وجدت فئة قليلة من شعراء العصر الجاهلي تعاود النظر مدققة فاحصة لقصائدها، مطيلة التأمل والمراجعة حتى سُمّوا (عبيد الشعر)، ومنهم من كان يمضي حولا كاملا في مراجعة قصيدته، حتى سميت قصائدهم بالحوليات، ومن أبرز هؤلاء زهير بن أبي سلمى.
ومن الشعراء من كان يعاود النظر بعد الفراغ من البيت الواحد أو من القصيدة كلها، مدققا في سلامة كلماتها، وفي مطابقتها للقواعد النحوية خاصة رويّها، ويكتفي بهذه المراجعة السريعة. ومنهم من لا يلقي بالا لذلك، ويترك الأمر على عواهنه، وعلى الصورة التي تفتقت عنها قريحته، وتدفقت على لسانه للوهلة الأولى.
وتبعا لذلك ولأن الغيث لا يخلو من العيث، فإن المتتبع المدقق لا بد وأنه ملتقط لدى كبار الشعراء قبل صغارهم هفوات نحوية ولغوية أحيانا، مَرَدُّ بعضها للغفلة والتسرع وعدم الانتباه، وذلك وارد حتى عند شعراء المعلقات في العصر الجاهلي. فقد روي في كتب تاريخ الأدب أن النابغة الذبياني لما أنشد قصيدته (المتجردة)، التي وصف فيها زوجة الملك النعمان بن المنذر، والتي مطلعها:
من آل ميةَ رائحٌ أو مغتدي عجلان ذا زادٍ وغير مُزوَّدِ
مضى فيها إلى قوله:
زعم البوارحُ أن موعدنا غدا وبذاك خبرنا الغرابُ الأسودُ
ولم ينتبه إلى ما في ذلك من إقواءٍ برفع الدال في كلمة الأسودُ على عكس سائر القصيدة، التي رويها دال مكسورة (مُزودِ)، ولاحظ سامعوه ذلك وتهيبوا أن يُخَطِئوه مباشرة، فأوعزوا إلى جارية أن تتغنى بالقصيدة على مسامعه، وتطيل المد في كلمة (الأسودُ) حتى انتبه لخطئه، واستدرك هفوته فقال:
زعم البوارح أن موعدنا غدا وبذاك تنعابُ الغرابِ الأسودِ
و مثله في ذلك مثل بشر بن أبي خازم الذي نبهه أخوه سوادة: إنك تقوي. قال: وما الإقواء؟ قال: قولك:
ألم ترَ أن طول الدهر يُسلي ويُنسي مثلما نسيت جذامُ
ثم قلت:
و كانوا قومنا فبغوا علينا فسقناهم إلى البلد الشـــآمِ
فلم يعد بعدها للإقواء.
وذكر أن بعض شعراء العصر الأموي كان يلحن، ومنهم الفرزدق الذي هجا عبد الله بن يزيد الحضرمي البصري، الذي كان ينتقده ويتعقب لحنه، فقال:
فلو كان عبد الله مولى هجوته ولكن عبد الله مولى مواليا
فقال له الحضرمي: لحنت أيضا. ينبغي أن تقول مولى موالٍ. (وذلك بحذف ياء الاسم المنقوص عند تنوينه رفعا أو جرا).
وبعض قمم الشعراء يخطئون في استخدام بعض المفردات، لا تدري أكان الباعث على ذلك سهوا وزلة، أم أن قيد القافية يرغمهم على اختيار الكلمة ولو كانت غير مناسبة، فتأمل قول المتنبي في مطلع إحدى مدائحه لسيف الدولة وهو مطلع ذائع الصيت، حيث يقول:
لكل امرئٍ من دهره ما تعودا
و في ذلك حكمة جرت مجرى الأمثال، لأنها مطابقة لطبائع البشر، حيث أن كل إنسان يسير على ما اعتاد عليه، ومن الصعب تغيير عادات المرء التي ألفها وتعايش معها، لكنه في شطره الثاني الذي أراد فيه أن يخص سيف الدولة بعادة مُشرِّفة، تتسم بدوام الشجاعة والبطولة، ومواصلة مقارعة الأعداء، اختار أن يكمل قائلا:
وعادة سيف الدولة الطعن في العدا
فإذا عدنا إلى معنى طعن في (معجم المعاني الجامع) فإننا نجد:
طعن بالرمح ونحوه: وخز به بغرض القتل
طعنه بلسانه: عابه، شتمه، أساء إليه بالكلام
و في التنزيل الحكيم (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر) - الآية 12 من سورة التوبة -. وطعنوا في دينكم: أي عابوه وانتقصوه.
طعن فيه أو في حكمه أو نسبه: عابه وذمه، ويقال : طعن في الانتخابات بالتزوير. طعن في الشاهد: اعترض على شهادته
طعن في الأمر: اعترض عليه، وأثار حوله الشبهات. طعن في السن: هرم وشاخ.
فهل كان سيف الدولة يطعن في الروم بمثل هذه المعاني التي تقدمت لكلمة طعن في؟
الصواب أن يقال طعن سيف الدولة العدا دون حرف الجر في، أما قولنا طعن في، فلا تستخدم إلا للسان، بمعنى ذمه وذكره بسوء، ونحو ذلك طعن في عرضه، وطعن في شرفه، وطعن في صدق حديثه.
فهل هذا ما أراده المتنبي؟ وهل كان سيف الدولة يطعن في أعراض الروم وأحاديثهم بلسانه، أم كان يطعنهم برمحه وسيفه؟
كيف كان صدر البيت يمثل افتتاحية مدوية، وكيف انتهى عجزه ركيكا هزيلا حتى عند شاعر كل العصور، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس؟ إنها الزلات التي لا يفلت منها حتى الكبار.
فإذا انتقلنا إلى أمير شعراء العصر الحديث، وهو المبدع الفرد في تدفق قوافيه، وجمال صوره وسلاسة أسلوبه، وكلماته المنتقاة جزالة أو رقة تبعا للمقام، وانسياب موسيقاه, مع كل ذلك لا نستبعد أن نجد هفوة، كالتي وردت في بيته الذي يحث فيه الشباب على صحبة الكتاب، وتفضيله على غيره من الصحاب في قوله:
أنا من بدَّل بالكتب الصحابا لم أجد لي وافيًا إلا الكتابا
و قد أراد أن يقول: إنني اخترت الكتب أصدقاء، وتخليت عن صحابي وأنني لم أجد صاحبا وفيا إلا الكتاب.
لكن المعروف أن حرف الجر الباء يدخل على الشيء المتروك، وليس على المأخوذ، وإن أجاز بعض أهل اللغة دخول الباء على المأخوذ، لكن الأبلغ دخول الباء على المتروك لأنه أسلوب القرآن الكريم. ومثال ذلك قوله تعالى: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) - الآية 61 سورة البقرة- وقوله تعالى (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار) - الآية 175 سورة البقرة -. فهو يوبخهم في الأية الأولى لتركهم الذي هو خير، واستبداله بما هو أدنى منه، وفي الآية الثانية يتوعد الذين تركوا الهدى وأخذوا الضلالة، وتركوا المغفرة وأخذوا العذاب، يتوعدهم بالنار.
وبالعودة إلى صدر بيت شوقي فإن معناه يصبح تبعا لذلك،(أنا من تخلى عن الكتب، واتخذ الصحاب بدلا عنها) وهو عكس المراد. وكان الأنسب أن يقول لو أنه تروى وأعاد النظر في قصيدته:
أنا من بدَّل بالصَحب الكتابا لم أجد لي وافيا إلا الكتابا
ما سقناه من أمثلة ليس سوى غيض من فيض، وإذا كانت هذه الهنات قد صدرت عن عمالقة الشعراء في مختلف العصور، فما بالك بغيرهم من سائر الشعراء؟
ومن يتتبع شعراء المهجر مثلا، يجد عندهم ما لا يحصى عده من الأخطاء النحوية والعروضية. وشفيعهم أنهم شعراء فقط وليسوا نحويين، وأنهم قدموا لنا شعرا يتدفق عاطفة بفعل التشوق والحنين إلى الوطن، الذي أكسبتهم إياه غربتهم الطويلة في الأمريكتين، وتلك الروح الإنسانية والنظرات المتفائلة التي تحملها قصائدهم، بفضل اطلاعهم على الآداب الأجنبية وتأثرهم بها، وشفيعهم أنهم لم يحرزوا قسطا وافرا من الدرس والتحصيل، بل اغتربوا مكافحين وراء لقمة العيش، فرققت الغربة والمهاجر أحاسيسهم، فأنطقتهم بالشعر العذب، وقد عبر عن ذلك أحدهم، وهو الشاعر إلياس فرحات، في قصيدته التي سنثبت معظم أبياتها لجمالها وصدقها :
يقولون عمن أخذت القريضَ وممن تعلمت نظـــم الدُررْ
وأين درست العروض وكيـــــــــــف تلقفت هذا البيان الأغرْ
وما كنت يـومًـا بطالب علمٍ فإنا عــرفناك منذ الصغـــر
فقلت أخذت القريض صبيا عن الطير وهي تغني السحر
وعن خطرات عليل النسيم يَمُرُّ فيشفي عليل البشـــــــــر
وعـــــــــن ضحكات مياه الجداولِ فوق الجلامد تحت الشجر
وعن زفرات المحب الأديب يزاحمه الموســـــــــر المقتدر
وعن نظرات الحسان التي يكدن يغلغلنها فـــــــي الحجر
وعن عبرات الحزانـى الضعافِ ففي عبرات الحزانى عِبَـــر
كذاك تعلمت نظم اللآلي لفرط الغرام وطول الســــــهر
لئن كنت لـــــم أدخل المدرساتِ صغيرا ولا بعدها في الكبر
فذا الكون جامعة الجامعات وذا الدهــــــر أستاذها المعتبر
فمن يحيَ يوما ولا يسـتفيدُ فأعمى البصيرة أعمى البصـر
فما انتقص شيئا من جمال قصيدته أنه لم يتقن النحو، فلم يجزم الفعل المعطوف على فعل الشرط في صدر البيت الأخير (ولا يستفيدُ) فيجعله (ولا يستفدْ) مع أن الوزن يبقى سليما على البحر المتقارب (فعولن فعولن فعولن فعو) بدلا من (فعولُ) في التفعيلة الأخيرة.
لكننا نختم حديثنا بمثل ما ابتدأنا به، فليس من لوازم الشاعر أن يكون نحويا، وإلا قدم لنا تماثيل صماء بكماء باردة لا حياة فيها، وإن كانت بديعة الصنعة.
فيصل سليم التلاوي
وقد اختلف الشعراء منذ القدم في طريقة معاودتهم النظر في قصائدهم بعد فراغهم منها، وذلك منذ البدايات الأولى للشعر، فقد وجدت فئة قليلة من شعراء العصر الجاهلي تعاود النظر مدققة فاحصة لقصائدها، مطيلة التأمل والمراجعة حتى سُمّوا (عبيد الشعر)، ومنهم من كان يمضي حولا كاملا في مراجعة قصيدته، حتى سميت قصائدهم بالحوليات، ومن أبرز هؤلاء زهير بن أبي سلمى.
ومن الشعراء من كان يعاود النظر بعد الفراغ من البيت الواحد أو من القصيدة كلها، مدققا في سلامة كلماتها، وفي مطابقتها للقواعد النحوية خاصة رويّها، ويكتفي بهذه المراجعة السريعة. ومنهم من لا يلقي بالا لذلك، ويترك الأمر على عواهنه، وعلى الصورة التي تفتقت عنها قريحته، وتدفقت على لسانه للوهلة الأولى.
وتبعا لذلك ولأن الغيث لا يخلو من العيث، فإن المتتبع المدقق لا بد وأنه ملتقط لدى كبار الشعراء قبل صغارهم هفوات نحوية ولغوية أحيانا، مَرَدُّ بعضها للغفلة والتسرع وعدم الانتباه، وذلك وارد حتى عند شعراء المعلقات في العصر الجاهلي. فقد روي في كتب تاريخ الأدب أن النابغة الذبياني لما أنشد قصيدته (المتجردة)، التي وصف فيها زوجة الملك النعمان بن المنذر، والتي مطلعها:
من آل ميةَ رائحٌ أو مغتدي عجلان ذا زادٍ وغير مُزوَّدِ
مضى فيها إلى قوله:
زعم البوارحُ أن موعدنا غدا وبذاك خبرنا الغرابُ الأسودُ
ولم ينتبه إلى ما في ذلك من إقواءٍ برفع الدال في كلمة الأسودُ على عكس سائر القصيدة، التي رويها دال مكسورة (مُزودِ)، ولاحظ سامعوه ذلك وتهيبوا أن يُخَطِئوه مباشرة، فأوعزوا إلى جارية أن تتغنى بالقصيدة على مسامعه، وتطيل المد في كلمة (الأسودُ) حتى انتبه لخطئه، واستدرك هفوته فقال:
زعم البوارح أن موعدنا غدا وبذاك تنعابُ الغرابِ الأسودِ
و مثله في ذلك مثل بشر بن أبي خازم الذي نبهه أخوه سوادة: إنك تقوي. قال: وما الإقواء؟ قال: قولك:
ألم ترَ أن طول الدهر يُسلي ويُنسي مثلما نسيت جذامُ
ثم قلت:
و كانوا قومنا فبغوا علينا فسقناهم إلى البلد الشـــآمِ
فلم يعد بعدها للإقواء.
وذكر أن بعض شعراء العصر الأموي كان يلحن، ومنهم الفرزدق الذي هجا عبد الله بن يزيد الحضرمي البصري، الذي كان ينتقده ويتعقب لحنه، فقال:
فلو كان عبد الله مولى هجوته ولكن عبد الله مولى مواليا
فقال له الحضرمي: لحنت أيضا. ينبغي أن تقول مولى موالٍ. (وذلك بحذف ياء الاسم المنقوص عند تنوينه رفعا أو جرا).
وبعض قمم الشعراء يخطئون في استخدام بعض المفردات، لا تدري أكان الباعث على ذلك سهوا وزلة، أم أن قيد القافية يرغمهم على اختيار الكلمة ولو كانت غير مناسبة، فتأمل قول المتنبي في مطلع إحدى مدائحه لسيف الدولة وهو مطلع ذائع الصيت، حيث يقول:
لكل امرئٍ من دهره ما تعودا
و في ذلك حكمة جرت مجرى الأمثال، لأنها مطابقة لطبائع البشر، حيث أن كل إنسان يسير على ما اعتاد عليه، ومن الصعب تغيير عادات المرء التي ألفها وتعايش معها، لكنه في شطره الثاني الذي أراد فيه أن يخص سيف الدولة بعادة مُشرِّفة، تتسم بدوام الشجاعة والبطولة، ومواصلة مقارعة الأعداء، اختار أن يكمل قائلا:
وعادة سيف الدولة الطعن في العدا
فإذا عدنا إلى معنى طعن في (معجم المعاني الجامع) فإننا نجد:
طعن بالرمح ونحوه: وخز به بغرض القتل
طعنه بلسانه: عابه، شتمه، أساء إليه بالكلام
و في التنزيل الحكيم (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر) - الآية 12 من سورة التوبة -. وطعنوا في دينكم: أي عابوه وانتقصوه.
طعن فيه أو في حكمه أو نسبه: عابه وذمه، ويقال : طعن في الانتخابات بالتزوير. طعن في الشاهد: اعترض على شهادته
طعن في الأمر: اعترض عليه، وأثار حوله الشبهات. طعن في السن: هرم وشاخ.
فهل كان سيف الدولة يطعن في الروم بمثل هذه المعاني التي تقدمت لكلمة طعن في؟
الصواب أن يقال طعن سيف الدولة العدا دون حرف الجر في، أما قولنا طعن في، فلا تستخدم إلا للسان، بمعنى ذمه وذكره بسوء، ونحو ذلك طعن في عرضه، وطعن في شرفه، وطعن في صدق حديثه.
فهل هذا ما أراده المتنبي؟ وهل كان سيف الدولة يطعن في أعراض الروم وأحاديثهم بلسانه، أم كان يطعنهم برمحه وسيفه؟
كيف كان صدر البيت يمثل افتتاحية مدوية، وكيف انتهى عجزه ركيكا هزيلا حتى عند شاعر كل العصور، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس؟ إنها الزلات التي لا يفلت منها حتى الكبار.
فإذا انتقلنا إلى أمير شعراء العصر الحديث، وهو المبدع الفرد في تدفق قوافيه، وجمال صوره وسلاسة أسلوبه، وكلماته المنتقاة جزالة أو رقة تبعا للمقام، وانسياب موسيقاه, مع كل ذلك لا نستبعد أن نجد هفوة، كالتي وردت في بيته الذي يحث فيه الشباب على صحبة الكتاب، وتفضيله على غيره من الصحاب في قوله:
أنا من بدَّل بالكتب الصحابا لم أجد لي وافيًا إلا الكتابا
و قد أراد أن يقول: إنني اخترت الكتب أصدقاء، وتخليت عن صحابي وأنني لم أجد صاحبا وفيا إلا الكتاب.
لكن المعروف أن حرف الجر الباء يدخل على الشيء المتروك، وليس على المأخوذ، وإن أجاز بعض أهل اللغة دخول الباء على المأخوذ، لكن الأبلغ دخول الباء على المتروك لأنه أسلوب القرآن الكريم. ومثال ذلك قوله تعالى: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) - الآية 61 سورة البقرة- وقوله تعالى (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار) - الآية 175 سورة البقرة -. فهو يوبخهم في الأية الأولى لتركهم الذي هو خير، واستبداله بما هو أدنى منه، وفي الآية الثانية يتوعد الذين تركوا الهدى وأخذوا الضلالة، وتركوا المغفرة وأخذوا العذاب، يتوعدهم بالنار.
وبالعودة إلى صدر بيت شوقي فإن معناه يصبح تبعا لذلك،(أنا من تخلى عن الكتب، واتخذ الصحاب بدلا عنها) وهو عكس المراد. وكان الأنسب أن يقول لو أنه تروى وأعاد النظر في قصيدته:
أنا من بدَّل بالصَحب الكتابا لم أجد لي وافيا إلا الكتابا
ما سقناه من أمثلة ليس سوى غيض من فيض، وإذا كانت هذه الهنات قد صدرت عن عمالقة الشعراء في مختلف العصور، فما بالك بغيرهم من سائر الشعراء؟
ومن يتتبع شعراء المهجر مثلا، يجد عندهم ما لا يحصى عده من الأخطاء النحوية والعروضية. وشفيعهم أنهم شعراء فقط وليسوا نحويين، وأنهم قدموا لنا شعرا يتدفق عاطفة بفعل التشوق والحنين إلى الوطن، الذي أكسبتهم إياه غربتهم الطويلة في الأمريكتين، وتلك الروح الإنسانية والنظرات المتفائلة التي تحملها قصائدهم، بفضل اطلاعهم على الآداب الأجنبية وتأثرهم بها، وشفيعهم أنهم لم يحرزوا قسطا وافرا من الدرس والتحصيل، بل اغتربوا مكافحين وراء لقمة العيش، فرققت الغربة والمهاجر أحاسيسهم، فأنطقتهم بالشعر العذب، وقد عبر عن ذلك أحدهم، وهو الشاعر إلياس فرحات، في قصيدته التي سنثبت معظم أبياتها لجمالها وصدقها :
يقولون عمن أخذت القريضَ وممن تعلمت نظـــم الدُررْ
وأين درست العروض وكيـــــــــــف تلقفت هذا البيان الأغرْ
وما كنت يـومًـا بطالب علمٍ فإنا عــرفناك منذ الصغـــر
فقلت أخذت القريض صبيا عن الطير وهي تغني السحر
وعن خطرات عليل النسيم يَمُرُّ فيشفي عليل البشـــــــــر
وعـــــــــن ضحكات مياه الجداولِ فوق الجلامد تحت الشجر
وعن زفرات المحب الأديب يزاحمه الموســـــــــر المقتدر
وعن نظرات الحسان التي يكدن يغلغلنها فـــــــي الحجر
وعن عبرات الحزانـى الضعافِ ففي عبرات الحزانى عِبَـــر
كذاك تعلمت نظم اللآلي لفرط الغرام وطول الســــــهر
لئن كنت لـــــم أدخل المدرساتِ صغيرا ولا بعدها في الكبر
فذا الكون جامعة الجامعات وذا الدهــــــر أستاذها المعتبر
فمن يحيَ يوما ولا يسـتفيدُ فأعمى البصيرة أعمى البصـر
فما انتقص شيئا من جمال قصيدته أنه لم يتقن النحو، فلم يجزم الفعل المعطوف على فعل الشرط في صدر البيت الأخير (ولا يستفيدُ) فيجعله (ولا يستفدْ) مع أن الوزن يبقى سليما على البحر المتقارب (فعولن فعولن فعولن فعو) بدلا من (فعولُ) في التفعيلة الأخيرة.
لكننا نختم حديثنا بمثل ما ابتدأنا به، فليس من لوازم الشاعر أن يكون نحويا، وإلا قدم لنا تماثيل صماء بكماء باردة لا حياة فيها، وإن كانت بديعة الصنعة.
فيصل سليم التلاوي