العنوان: رقصة العنكبوت:
يعمد العنوان إلى حذف ركن من أركان الجملة الاسمية وإبراز آخر، لغاية محددة ستظهر مع قراءة العمل، ويأتي السؤال: ما هو هذا الطرف المحذوف، ولماذا؟ سؤالان مشروعان ومشرعان على التأويل.
وبالنظر إلى الطرف الحاضر نجده يتكون من مضاف ومضاف إليه، واحد منهما يرتبط بحقل الفرح، فيما الثاني يرتبط بفاعله، والفاعل هنا هو العنكبوت، وما فرحه إلا ناجم عن نجاحه في الإيقاع بضحيته في الشبكة التي نشجها وطوق بها عنقه، ومن هنا تولد فرحه لأن الوليمة صارت جاهزة، والإجهاز عليها بات وشيكا.
فمن هو العنكبوت، ومن يمثل دور الضحية؟
سنترك الإجابة لاحقا مع التحليل، لنشير إلى أن عنوان "رقصة العنكبوت يستدعي عنوانا شبه مماثل؛ وهو "في بيت العنكبوت"، فما العلاقة التي دفعت إلى هذا الاستدعاء؟
هناك أمران يشيران إلى تقاطعهما، وأمور أخرى تشير إلى تباينهما في المعالجة.
كيف ذلك؟
تيمة رواية "رقصة العنكبوت:
يتناول المبدع موضوعاً شائكا في عالمنا العربي هو الشذوذ الجنسي؛ هذا الموضوع الذي مازال مُحتقراً اجتماعياً ودينياً يمنع الخوض فيه وإلا اتهم من قام بذلك بالمثلية وهذا التوصيف يحمل معاني التحقير والإقصاء والإدانة، ذلك أن المثلي يوصف في وطننا بأبشع الصفات.
ولأن المثليين لا يملكون شيئاً تجاه ميولهم الجنسية المثلية، فإنهم يمارسونها في السر، وتحت أجنحة الظلام حتى لا يتم افتضاح علاقتهم. وإن كانت الأمور بدأت تسير باتجاه تقبل محتشم.
فموضوع المثلية الجنسية من التيمات النادرة في المدونة الروائية العربية الحديثة، خاصة ما تعلق منها بالكتّاب الرّجال. لماذا؟
معظم الكتاب يتجنبون الخوض في هذه العوالم، وإنْ دخلوها فبهدف الإدانة. ومن تناول هذه التيمة نجد الروائيّ اللبناني رشيد الضعيف في روايتِه "عودة الألماني إلى رشدِه"، و المصري محمّد عبد النبي في رواية "في غرفة العنكبوت"، إضافة إلى روائيين كانت لهم الجرأة للجهر بمثليتهم لكن في غير أوطانهم، ومنهم عبد الله طايع.
وبناء عليه، نقول إن التيمة المركزية للرواية هي الشذوذ الجنسي أو المثلية. وهي التيمة نفسها التي تناولها المبدع محمد عبد النبوي بكثير من الموضوعية.
ويجب التأكيد على أن الخطاب الأدبي مازال يسير باتجاه تجريم المثلية الجنسية شأنه شأن الشارع الذي ينبذ المثلي ويقوم بتصفيته معنويا إن لم يكن ماديا تحت ذريعة مخالفة الشرع والخروج عن القانون، وبذلك يصير المثلي منبوذًا، تسعى المؤسسة الرسمية إلى السيطرة عليه بالإفراد والعزل، كما أشار إلى ذلك الباحث كمال الرياحي في مقالة له منشورة بموقع الرصيف.
**
تناولت رواية "رقصة العنكبوت"، إذن، موضوع المثلية الذكورية، وتدرك أنها تتناول قضية مازالت تعد من المحرمات الممنوع تداولها روائيا، رغم وجودها بكثرة في كتب التراث العربي الإسلام وفي الواقع. وهو الموضوع نفسه الذي تناولته رواية "في بيت العنكبوت"، وبالضمير نفسه؛ ضمير المتكلم، لكن الاختلاف يتجلى في أن الرواية الأولى تتناوله من وجهة الرفض والإدانة، في حين تتناوله الثانية من وجهة نظر مثلي يرصد حياته وحياة أمثاله وما يكتنفها من معاناة.
لقد رتبت القدر الروائي لقاء بين يوسف السارد والشخصية المحورية وحسن الرجل الثري، كانت الصدفة العنصر الذي جمع بينهما، الأول يبحث عن مخرج لأزمته المادية، والثاني يبحث عن إشباع رغبته الجنسية بشكل متوار، لكن يوسف سيخرج من المأزق بفعل عاملين نشطا مناعته، وقويا إرادة رفضه؛ منى هذا الاسم المعبر عن الرغبة البعيدة، والحلم المرغوب فيه، وهدى، علامة الطريق والإشارة العلوية والمحذرة. يخرج يوسف من ورطته في آخر أنفاس العمل بعد أن أدرك رغبة حسن الحقيقية باحثا عن مناه. وبذلك تجهض رقصة العنكبوت، وتنجو الضحية من الشبكة المنسوجة بعناية.
ومن خلال هذه العلاقة نجد المبدع يعالج علاقة الصراع بين طبقتين، الطبقة الفقيرة الخاضعة للاستغلال، والطبقة الغنية والمرفهة التي تميل إلى استنزاف الطبقة الأولى ماديا ومعنويا، تمتص رحيقها وتلقي بها إلى الهامش.
والطبقة الفقيرة تنقسم بدورها قسمين، قسم يبحث عن خلاصه الفردي بامتهان أعمال هامشية لمواجهة غول الخصاص، ويتمثل في أصدقاء السارد الذين فكروا في الهجرة هروبا من مأزقهم الوجودي بشكل خاص؛ وفئة تناضل بكل ما أوتيت من قوة ومن قيم إيجابية وتحلم بغد أفضل رغم المحن والمضايقات والعسف والتنكيل والسجن، وتمثله منى وأبوها الذي دفع ثمن قناعته بالسجن والحرمان من العمل ومن ثم الأجر لفترة ثلاث سنوات؛ وهذا لم يفت من عضده ذلك أنه زرع في ابنته القيم الايجابية لمواصلة مواجهة المشاكل بعزم وقوة.
ومن خلال هذه التيمة نراه يعالج مجموعة من القضايا المهمة، مزاوجا في ذلك بين مستوى الذات ومستوى الواقع الاجتماعي كاشفا عن همومه وانشغالاته وواقع مجتمعه المخترق بمجموعة من السلبيات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.. ومن جملة هذه القضايا:
قضية البطالة:
وهي المعضلة التي يعاني منها كثير من خريجي الجامعات؛ إذ يجدون أنفسهم بعد التخرج بين فكي البطالة والعوز المادي، فيبحثون عن منافذ نجاة حتى ولو كان على حساب حياتهم أو كرامتهم؛ ومن هؤلاء أصدقاء يوسف الذين فكروا بالهجرة عن طريق تزوير الوثائق غير عابئين بالمهن الحقيرة التي سيزاولونها.
الشذوذ الجنسي:
وتمثل مظهرا من مظاهر الانحلال الأخلاقي وعلامة من علامات المرض النفسي وأزمتها الروحية.
التفاوت الطبقي:
بين طبقة تستأثر بخيرات البلاد، وتستمتع بها، وطبقة أخرى تعيش العوز والفقر وتكابد الضياع.
الجانب السياسي:
تشير الرواية إلى ما شهده المغرب في ثمانينيات القرن الماضي من احتقان سياسي بسبب الإضراب سنة 1981، وما تعرض له المناضلون من مطاردات واعتقال وحرمان من العمل والأجر، ويعد أبو منى مثالا على هذا الظلم الذي لحق به ومن معه.
الجانب التاريخي:
ويتمثل في حرب الخليج وشن العدوان الغاشم على دولة العراق. ص70.
الانتقال من الحاضر إلى الماضي، ومن الحاضر إلى المستقبل باعتماد تقنيتي الاسترجاع والاستباق.. كاشفا عن كل تناقضات
الانتقال من الحاضر إلى الماضي، ومن الحاضر إلى المستقبل باعتماد تقنيتي الاسترجاع والاستباق.. كاشفا عن كل تناقضات الإنسان ومفارقاته الحياتية والنفسية والاجتماعية..
مصفى لغتيري وكما قال الباحث محمد داني في الكتاب الجماعي الموسوم ب "أسئلة الرواية المغربية قراءات في أعمال الروائي مصطفى لغتيري" يحس بالزمن وبحركته، وبأن لا شيء ثابت وقار.. كل ما في الحياة متحرك وخاضع للزمن.. وهذا ما طبع رواياته بنوع من الواقعية الجديدة.. ص 129.
ونجد في الرواية الوصف والحوار بنوعيه والإخبار وتحديد الزمان والمكان والاسترجاع والارتداد والاستباق والتاريخ...
المكان:
يمكن القول إن المكان في الرواية يتميز بخاصتي الانفتاح والانغلاق بحسب شخصياته؛ فالغنية تعيشه منفتحا إذ تمتلك عقارات بالدار البيضاء وخارجه مما يتيح لها التحرك بحرية في أرجاء خريطة الوطن بشعور قوي من الحرية، بل إنها تتمكن حتى من الاستمتاع بجمال دول أخرى. في حين، أن الفقيرة تظل حبيسة جغرافية ضيقة تدور فيها كما لو في حلقة مغلقة بنوع من الضيق والضجر، مع سعي بعضها إلى الانعتاق من هذا القيد الخانق، ولو بالتزوير الأمر الذي يوقعها في المحظور وتماهيها مع حسن الفاسد المعتمد على الغش في معاملاته التي يجني منها أموالا طائلة. وحتى يوسف سيصيبه رذاذ التلوث حين ينجز عملا مزورا ويحصل من خلاله على مال ينفقه في شراء ملابس تكون في مقام الحفل الذي دعي إليه. ولعل خاتمة العمل توحي بأن علاقته بمنى الطاهرة قد انقطعت مثل انقطاع الاتصال بينهما؛ بيد أن أمل معاودة الاتصال وارد بتطهر يوسف مما لحق به من دنس.
وتحتفي الرواية بالمكان البيضاوي بخاصة، حتى ليخيل للمتلقي أن السارد يحمل كاميرا يوثق بها أزقة وشوارع الدار البيضاء، وأمكنة ترفيهها كالمقاهي والحدائق العمومية، ودور السينما. و الأسلوب المشهدي نفسه يرصد رحلته من البيضاء في باتجاه سيدي بوزيد.
إن الحياة التي ترصدها روايات الكاتب تنم عن القلق الوجودي الذي يعانيه الإنسان المغربي، ومن خلال هذا القلق الوجودي نتلمس الأزمة التي يعيشها المجتمع المغربي: الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية، وحتى الثقافية. ص131.
عن السارد:
اقتران السارد بالشخصية وتطابقه بها يوحي للمتلقي/القارئ بصدق المحكي/المسرود، ويقترب المتكلم/الأنا الذي يستخدمه السارد من الشخصية ومن المتلقي/القارئ، بل يسيطر على هذا الأخير ويجعله يتماهى مع الشخصية/الساردة، ويتقمصها، فيصبح كأنه هي..وتصبح هذه {الأنا} نوعا من الارتداد الداخلي. ونوعا من الرجوع إلى الماضي لاستجلائه، وكشف غياهبه.. واستشرافا للمستقبل، وللغيبي.. ص136.
يوحي ضمير المتكلم للمتلقي بأن ما يقر أه يشبه نصا اعترافيا تقوم به الشخصية الساردة. إنه يقرب المحكي من البوح، ويدفع المتلقي إلى الانخراط في ما يتم الإفصاح عنه محققا نوعا من الواقعية أو الإيهام بها. لكن الخطر أن يقوم هذا المتلقي بخلق تماثل بين السارد الورقي والكاتب الواقعي؛ وهو خطر وارد كثيرا ما أدى إلى اتهامات وصدامات.
شخصيات النص الروائي:
يمن تحديدها في أربع شخصيات؛ وهي: يوسف السارد بضمير المتكلم كشاهد ومشارك، يزاول الرسم وهو موهوب في هذا المجال، يعشق فنه بشكل كبير، ومنفتح على بقية الفنون الأخرى وله دراية واسعة بها كفن السينما، وفن الغناء والموسيقى. يعاني البطالة والقلة ذات الحيلة، ويبحث عن مخرج ليجد نفسه في مقهى تحت أعين حسن المدربة على اقتناص ضحاياها.
سيجد يوسف نفسه قد انخرط في العمل الذي رسم له بعناية من لدن حسن مقابل إغراءات مادية ترمي إلى شد الخناق عليه حتى يسق في الفخ المنصوب له بذكاء.. وسقطته الأولى وهي تزوير اللوحات لم تقده إلى السقطة النهائية بفضل إشارات وتحذيرات من طرف منى وهدى.
منى، وتمثل الشخصية القوية المتشبثة بمبادئها وأفكارها ولا تقبل أن تتخلى عنها، فقد تربت في بيت نضال، ولن تضيع رصيدها مقابل حبيب يبحث عن منفذ لمأزقه الوجودي والمادي كيفما كان نوعه. لقد وضعت يوسف أمام أمرين؛ إما التخلي عن الشغل الذي عرض عليه، أو التخلي عنها؛ وكانت صارمة في قرارها.
هدى، وهي ابنة حسن الرجل الثري، قدمت إلى المغرب في إجازة، وأعجبت بشغل يوسف، وعلمت بما يحاك له، فحذرته دون أن تخبره بشكل صريح، عارضة عليه تقديم لوحاته لأستاذها كنوع من الإنقاذ له. لم يفهم يوسف التحذير، لكنه أيقظ فيه الشك.
حسن، وهو الشخصية المحورية الثانية التي تقبل يوسف؛ شخصية لا يدل مظهر اسمها على مخبرها؛ فهي شخصية حسنة المظهر لأن ذلك جزء من شغلها الذي يعتمد على خلق انطباع جيد لدى الرائي، لكن مخبرها سيء؛ وبذلك تضاد اسمها، بخلاف باقي الشخصيات التي يوازي اسمها المظهر والمخبر؛ أي أنها شخصيات منسجمة مع نفسها بالرغم من بعض الزلات التي ارتكبها يوسف دون غيره.
وخلاصة القول تعد رواية "رقصة العنكبوت" إضافة جديدة للمكتبة المغربية والعربية لجرأتها وعمق طرحها، جاء كل ذلك بلغة بسيطة وسرد آسر يدفعك إلى متابعتها من البداية إلى النهاية، ويحملك على التفكير فيها وفي ما تناقشه وكيفية عرضه.
يعمد العنوان إلى حذف ركن من أركان الجملة الاسمية وإبراز آخر، لغاية محددة ستظهر مع قراءة العمل، ويأتي السؤال: ما هو هذا الطرف المحذوف، ولماذا؟ سؤالان مشروعان ومشرعان على التأويل.
وبالنظر إلى الطرف الحاضر نجده يتكون من مضاف ومضاف إليه، واحد منهما يرتبط بحقل الفرح، فيما الثاني يرتبط بفاعله، والفاعل هنا هو العنكبوت، وما فرحه إلا ناجم عن نجاحه في الإيقاع بضحيته في الشبكة التي نشجها وطوق بها عنقه، ومن هنا تولد فرحه لأن الوليمة صارت جاهزة، والإجهاز عليها بات وشيكا.
فمن هو العنكبوت، ومن يمثل دور الضحية؟
سنترك الإجابة لاحقا مع التحليل، لنشير إلى أن عنوان "رقصة العنكبوت يستدعي عنوانا شبه مماثل؛ وهو "في بيت العنكبوت"، فما العلاقة التي دفعت إلى هذا الاستدعاء؟
هناك أمران يشيران إلى تقاطعهما، وأمور أخرى تشير إلى تباينهما في المعالجة.
كيف ذلك؟
تيمة رواية "رقصة العنكبوت:
يتناول المبدع موضوعاً شائكا في عالمنا العربي هو الشذوذ الجنسي؛ هذا الموضوع الذي مازال مُحتقراً اجتماعياً ودينياً يمنع الخوض فيه وإلا اتهم من قام بذلك بالمثلية وهذا التوصيف يحمل معاني التحقير والإقصاء والإدانة، ذلك أن المثلي يوصف في وطننا بأبشع الصفات.
ولأن المثليين لا يملكون شيئاً تجاه ميولهم الجنسية المثلية، فإنهم يمارسونها في السر، وتحت أجنحة الظلام حتى لا يتم افتضاح علاقتهم. وإن كانت الأمور بدأت تسير باتجاه تقبل محتشم.
فموضوع المثلية الجنسية من التيمات النادرة في المدونة الروائية العربية الحديثة، خاصة ما تعلق منها بالكتّاب الرّجال. لماذا؟
معظم الكتاب يتجنبون الخوض في هذه العوالم، وإنْ دخلوها فبهدف الإدانة. ومن تناول هذه التيمة نجد الروائيّ اللبناني رشيد الضعيف في روايتِه "عودة الألماني إلى رشدِه"، و المصري محمّد عبد النبي في رواية "في غرفة العنكبوت"، إضافة إلى روائيين كانت لهم الجرأة للجهر بمثليتهم لكن في غير أوطانهم، ومنهم عبد الله طايع.
وبناء عليه، نقول إن التيمة المركزية للرواية هي الشذوذ الجنسي أو المثلية. وهي التيمة نفسها التي تناولها المبدع محمد عبد النبوي بكثير من الموضوعية.
ويجب التأكيد على أن الخطاب الأدبي مازال يسير باتجاه تجريم المثلية الجنسية شأنه شأن الشارع الذي ينبذ المثلي ويقوم بتصفيته معنويا إن لم يكن ماديا تحت ذريعة مخالفة الشرع والخروج عن القانون، وبذلك يصير المثلي منبوذًا، تسعى المؤسسة الرسمية إلى السيطرة عليه بالإفراد والعزل، كما أشار إلى ذلك الباحث كمال الرياحي في مقالة له منشورة بموقع الرصيف.
**
تناولت رواية "رقصة العنكبوت"، إذن، موضوع المثلية الذكورية، وتدرك أنها تتناول قضية مازالت تعد من المحرمات الممنوع تداولها روائيا، رغم وجودها بكثرة في كتب التراث العربي الإسلام وفي الواقع. وهو الموضوع نفسه الذي تناولته رواية "في بيت العنكبوت"، وبالضمير نفسه؛ ضمير المتكلم، لكن الاختلاف يتجلى في أن الرواية الأولى تتناوله من وجهة الرفض والإدانة، في حين تتناوله الثانية من وجهة نظر مثلي يرصد حياته وحياة أمثاله وما يكتنفها من معاناة.
لقد رتبت القدر الروائي لقاء بين يوسف السارد والشخصية المحورية وحسن الرجل الثري، كانت الصدفة العنصر الذي جمع بينهما، الأول يبحث عن مخرج لأزمته المادية، والثاني يبحث عن إشباع رغبته الجنسية بشكل متوار، لكن يوسف سيخرج من المأزق بفعل عاملين نشطا مناعته، وقويا إرادة رفضه؛ منى هذا الاسم المعبر عن الرغبة البعيدة، والحلم المرغوب فيه، وهدى، علامة الطريق والإشارة العلوية والمحذرة. يخرج يوسف من ورطته في آخر أنفاس العمل بعد أن أدرك رغبة حسن الحقيقية باحثا عن مناه. وبذلك تجهض رقصة العنكبوت، وتنجو الضحية من الشبكة المنسوجة بعناية.
ومن خلال هذه العلاقة نجد المبدع يعالج علاقة الصراع بين طبقتين، الطبقة الفقيرة الخاضعة للاستغلال، والطبقة الغنية والمرفهة التي تميل إلى استنزاف الطبقة الأولى ماديا ومعنويا، تمتص رحيقها وتلقي بها إلى الهامش.
والطبقة الفقيرة تنقسم بدورها قسمين، قسم يبحث عن خلاصه الفردي بامتهان أعمال هامشية لمواجهة غول الخصاص، ويتمثل في أصدقاء السارد الذين فكروا في الهجرة هروبا من مأزقهم الوجودي بشكل خاص؛ وفئة تناضل بكل ما أوتيت من قوة ومن قيم إيجابية وتحلم بغد أفضل رغم المحن والمضايقات والعسف والتنكيل والسجن، وتمثله منى وأبوها الذي دفع ثمن قناعته بالسجن والحرمان من العمل ومن ثم الأجر لفترة ثلاث سنوات؛ وهذا لم يفت من عضده ذلك أنه زرع في ابنته القيم الايجابية لمواصلة مواجهة المشاكل بعزم وقوة.
ومن خلال هذه التيمة نراه يعالج مجموعة من القضايا المهمة، مزاوجا في ذلك بين مستوى الذات ومستوى الواقع الاجتماعي كاشفا عن همومه وانشغالاته وواقع مجتمعه المخترق بمجموعة من السلبيات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.. ومن جملة هذه القضايا:
قضية البطالة:
وهي المعضلة التي يعاني منها كثير من خريجي الجامعات؛ إذ يجدون أنفسهم بعد التخرج بين فكي البطالة والعوز المادي، فيبحثون عن منافذ نجاة حتى ولو كان على حساب حياتهم أو كرامتهم؛ ومن هؤلاء أصدقاء يوسف الذين فكروا بالهجرة عن طريق تزوير الوثائق غير عابئين بالمهن الحقيرة التي سيزاولونها.
الشذوذ الجنسي:
وتمثل مظهرا من مظاهر الانحلال الأخلاقي وعلامة من علامات المرض النفسي وأزمتها الروحية.
التفاوت الطبقي:
بين طبقة تستأثر بخيرات البلاد، وتستمتع بها، وطبقة أخرى تعيش العوز والفقر وتكابد الضياع.
الجانب السياسي:
تشير الرواية إلى ما شهده المغرب في ثمانينيات القرن الماضي من احتقان سياسي بسبب الإضراب سنة 1981، وما تعرض له المناضلون من مطاردات واعتقال وحرمان من العمل والأجر، ويعد أبو منى مثالا على هذا الظلم الذي لحق به ومن معه.
الجانب التاريخي:
ويتمثل في حرب الخليج وشن العدوان الغاشم على دولة العراق. ص70.
الانتقال من الحاضر إلى الماضي، ومن الحاضر إلى المستقبل باعتماد تقنيتي الاسترجاع والاستباق.. كاشفا عن كل تناقضات
الانتقال من الحاضر إلى الماضي، ومن الحاضر إلى المستقبل باعتماد تقنيتي الاسترجاع والاستباق.. كاشفا عن كل تناقضات الإنسان ومفارقاته الحياتية والنفسية والاجتماعية..
مصفى لغتيري وكما قال الباحث محمد داني في الكتاب الجماعي الموسوم ب "أسئلة الرواية المغربية قراءات في أعمال الروائي مصطفى لغتيري" يحس بالزمن وبحركته، وبأن لا شيء ثابت وقار.. كل ما في الحياة متحرك وخاضع للزمن.. وهذا ما طبع رواياته بنوع من الواقعية الجديدة.. ص 129.
ونجد في الرواية الوصف والحوار بنوعيه والإخبار وتحديد الزمان والمكان والاسترجاع والارتداد والاستباق والتاريخ...
المكان:
يمكن القول إن المكان في الرواية يتميز بخاصتي الانفتاح والانغلاق بحسب شخصياته؛ فالغنية تعيشه منفتحا إذ تمتلك عقارات بالدار البيضاء وخارجه مما يتيح لها التحرك بحرية في أرجاء خريطة الوطن بشعور قوي من الحرية، بل إنها تتمكن حتى من الاستمتاع بجمال دول أخرى. في حين، أن الفقيرة تظل حبيسة جغرافية ضيقة تدور فيها كما لو في حلقة مغلقة بنوع من الضيق والضجر، مع سعي بعضها إلى الانعتاق من هذا القيد الخانق، ولو بالتزوير الأمر الذي يوقعها في المحظور وتماهيها مع حسن الفاسد المعتمد على الغش في معاملاته التي يجني منها أموالا طائلة. وحتى يوسف سيصيبه رذاذ التلوث حين ينجز عملا مزورا ويحصل من خلاله على مال ينفقه في شراء ملابس تكون في مقام الحفل الذي دعي إليه. ولعل خاتمة العمل توحي بأن علاقته بمنى الطاهرة قد انقطعت مثل انقطاع الاتصال بينهما؛ بيد أن أمل معاودة الاتصال وارد بتطهر يوسف مما لحق به من دنس.
وتحتفي الرواية بالمكان البيضاوي بخاصة، حتى ليخيل للمتلقي أن السارد يحمل كاميرا يوثق بها أزقة وشوارع الدار البيضاء، وأمكنة ترفيهها كالمقاهي والحدائق العمومية، ودور السينما. و الأسلوب المشهدي نفسه يرصد رحلته من البيضاء في باتجاه سيدي بوزيد.
إن الحياة التي ترصدها روايات الكاتب تنم عن القلق الوجودي الذي يعانيه الإنسان المغربي، ومن خلال هذا القلق الوجودي نتلمس الأزمة التي يعيشها المجتمع المغربي: الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية، وحتى الثقافية. ص131.
عن السارد:
اقتران السارد بالشخصية وتطابقه بها يوحي للمتلقي/القارئ بصدق المحكي/المسرود، ويقترب المتكلم/الأنا الذي يستخدمه السارد من الشخصية ومن المتلقي/القارئ، بل يسيطر على هذا الأخير ويجعله يتماهى مع الشخصية/الساردة، ويتقمصها، فيصبح كأنه هي..وتصبح هذه {الأنا} نوعا من الارتداد الداخلي. ونوعا من الرجوع إلى الماضي لاستجلائه، وكشف غياهبه.. واستشرافا للمستقبل، وللغيبي.. ص136.
يوحي ضمير المتكلم للمتلقي بأن ما يقر أه يشبه نصا اعترافيا تقوم به الشخصية الساردة. إنه يقرب المحكي من البوح، ويدفع المتلقي إلى الانخراط في ما يتم الإفصاح عنه محققا نوعا من الواقعية أو الإيهام بها. لكن الخطر أن يقوم هذا المتلقي بخلق تماثل بين السارد الورقي والكاتب الواقعي؛ وهو خطر وارد كثيرا ما أدى إلى اتهامات وصدامات.
شخصيات النص الروائي:
يمن تحديدها في أربع شخصيات؛ وهي: يوسف السارد بضمير المتكلم كشاهد ومشارك، يزاول الرسم وهو موهوب في هذا المجال، يعشق فنه بشكل كبير، ومنفتح على بقية الفنون الأخرى وله دراية واسعة بها كفن السينما، وفن الغناء والموسيقى. يعاني البطالة والقلة ذات الحيلة، ويبحث عن مخرج ليجد نفسه في مقهى تحت أعين حسن المدربة على اقتناص ضحاياها.
سيجد يوسف نفسه قد انخرط في العمل الذي رسم له بعناية من لدن حسن مقابل إغراءات مادية ترمي إلى شد الخناق عليه حتى يسق في الفخ المنصوب له بذكاء.. وسقطته الأولى وهي تزوير اللوحات لم تقده إلى السقطة النهائية بفضل إشارات وتحذيرات من طرف منى وهدى.
منى، وتمثل الشخصية القوية المتشبثة بمبادئها وأفكارها ولا تقبل أن تتخلى عنها، فقد تربت في بيت نضال، ولن تضيع رصيدها مقابل حبيب يبحث عن منفذ لمأزقه الوجودي والمادي كيفما كان نوعه. لقد وضعت يوسف أمام أمرين؛ إما التخلي عن الشغل الذي عرض عليه، أو التخلي عنها؛ وكانت صارمة في قرارها.
هدى، وهي ابنة حسن الرجل الثري، قدمت إلى المغرب في إجازة، وأعجبت بشغل يوسف، وعلمت بما يحاك له، فحذرته دون أن تخبره بشكل صريح، عارضة عليه تقديم لوحاته لأستاذها كنوع من الإنقاذ له. لم يفهم يوسف التحذير، لكنه أيقظ فيه الشك.
حسن، وهو الشخصية المحورية الثانية التي تقبل يوسف؛ شخصية لا يدل مظهر اسمها على مخبرها؛ فهي شخصية حسنة المظهر لأن ذلك جزء من شغلها الذي يعتمد على خلق انطباع جيد لدى الرائي، لكن مخبرها سيء؛ وبذلك تضاد اسمها، بخلاف باقي الشخصيات التي يوازي اسمها المظهر والمخبر؛ أي أنها شخصيات منسجمة مع نفسها بالرغم من بعض الزلات التي ارتكبها يوسف دون غيره.
وخلاصة القول تعد رواية "رقصة العنكبوت" إضافة جديدة للمكتبة المغربية والعربية لجرأتها وعمق طرحها، جاء كل ذلك بلغة بسيطة وسرد آسر يدفعك إلى متابعتها من البداية إلى النهاية، ويحملك على التفكير فيها وفي ما تناقشه وكيفية عرضه.