عبد العزيز بومسهولي - إرادة الرؤيا أو هكذا رأى الشاعر.. قراءة في "كتاب الرؤيا" لمنعم الفقير

> أريد أن أكون شاعراً، وأعمل لأصير رائياً، يتعلق الأمر بالوصول الى المجهول عبر خلخة قواعد كل الاحاسيس
أرثور رامبو

> كل إرادة تستتبع تقويماً<
تيتشه

> رأيت أن من لا رؤيا له، لارؤية ولا رأي له<
منعم الفقير


-1 في الرؤيا: "هرمس - رامبو - الفقير"·
تمثل الرؤيا البؤرة الأكثر حيوية في الخلق الشعري، انها إحساس مضاعف بدور الكائن في العالم، واعتمال حدسي لمغامرة الكينونة، وهي تنفتح على أبعاد الوجود الخفية، وانباءاته السرية·
تتفق المعاجم العربية على أن للرؤيا مدلولاً مزدوجاً هو النظر بالعين والقلب· وفي المعاجم الفرنسية ربط أساسي بين الرؤيا وبين مدلولها الفلسفي: الكشف والاشراق الروحي· والرائي أو الرؤيوي في قاموس Le petit Robert : يشير الى الشخص الذي وهب الرؤيا المضاعفة Seconde Vue، ثم يردف معنيين آخرين يعضدان هذا المدلول هما: الإشراق والروحانية· فالرائي من هذا المنظور يمتلك الإنارة التي هي أداة روحية للكشف والتجلي على نحو ما نجده في رؤيا "هرمس" الغنية بتأمل الوجود انطلاقاً من مبدإ إرادة المعرفة الحيوية أو بتعبير الجابري "العرفان"، يقول "هرمس" في رؤياه التي يكشف فيها هوسه بامتلاك معرفة وفهم العالم:"ذات يوم، بينما أنا مستغرق في تأمل الموجودات بفكر يحلق في الأعالي، وحواسي معطلة كما يحدث لأولئك الذين يهجم عليهم نوم عميق · · · بينما أنا كذلك إذا بي وكأن كائناً عظيم القامة يفوق كل تقدير وقياس يناديني باسمس ويقول لي: "ماذا تريد أن تسمع وترى، وبفكرك أن تتعلم وتسمع؟" فقلت: لكن منْ أنت؟ قال: "أنا بوامندريس، الرب مالك الملك، أعلم ماتريد وأنا معك أينما كنت"· قلت: أريد أن أعرف عن الموجودات أن أفهم طبيعتها وأن أعرف الله· ثم أردفت قائلاً: آه كم أنا متشوق للاستماع، فرد عليّ بدوره قائلاً:"استحضر جيداً في عقلك كل ماتريد أن تعرفه· وأنا سأعلمك· وما أن أنهى كلامه حتى غير مظهره، فانكشف أمامي ·· فرأيت مشهداً لا حدود له· لقد تحول كل شيء نوراً ناصعاً بهيجاً أحذ بلبي، بمجرد ما أبصرته···"(1)
فهذه الرؤيا إفصاح عن إرادة البعد الخفي/ السري للوجود· ومن ثم غدت مصدراً هاماً لتغذية الخيال الشعري وتفعيل عملية الخلق الابداعي بما هي رعتمال لرؤيا الكائن المضاعف· هذه الرؤيا التي تدمر حدود الواقع الجامدة في نفس الوقت الذي تنير فيه طريق الكائن المفتون باللذّة التي تلازم فعل السفر الدائم والمغامرة والتيه نحو عالم المجهول·
ولعل الشعر الحداثي كان أكثر إدراكاً لمنابع هذا التصور الذي يعتمل لمبدإ أرادة الرؤيا بما هي إرادة عرفان، يخرق قواعد العقل الأداتي، ليحرر الذات من التناهي العقلي، وليمكنها فعلاً من ممارسة اللاعقلانية في أقصى تطرفها وبعدها عن الامتثال لمواصفات الموضوعية الحاجبة للحقيقة في بعدها التعددي والاختلافي، ولتنفلت حقاً من التشيؤ الناتج عن التأثير التقنوي، والبرمجة الآلية·
وهذا مايؤهل الشعر على تعبير "ادورنو" لكي ينفلت عن موضوعة القيم العقلانية وليمارس الانغماس في اللاعقلانية، تمهيداً لتجديد الصيرورة الفاعلة للوجود المعين الأكثر تعبيراً· من هذا المنظور فإن الشعر يمكن الكائن من تحقيق الرغبة في ممارسة الخلق الحيوي للعالم، وإعادة بناء القيم التي ينبني عليها الواقع، انه تعبير أصلاني عن إرادة الرؤيا، إرادة شعرنة الوجود وهذا ما جعل "رامبو" الشاعر الرؤيوي يقول:
>أريد أن أكون شاعراً، وأعمل لأصير رائياً· فالأمر يتعلق بالوصول الى المجهول عبر خلخلة قواعد كل لأحاسيس، فالمعاناة والآلام ضخمة، ولكن يجب أن أكون قوياً، أن أولد شاعراً، وقد أعترف بي شاعراً، وهذا ليس خطئي بتاتاً· فلايصح القول: أنا أفكر، بل يجب أن نقول: يُفكر في - عفواً على التلاعب بالكلمات·(2)
يخالف الشاعر الؤيوي الكجيطو الديكارتي الذي يتوخى البرهنة العقلية للوجود، وصولاً الى يقين منطقي، الى المعلوم المدرك سلفاً، لذا فهو يستبدل البناء للمعلوم، ببناء للمجهول، تكون فيه الذات مشاركة للآخرية، ومنكشفة لاحتمال التماهي المفتوح على أقصى حالات التماهي بالغير:
"أنا هو الآخر" (3)
"Je suis un Autre"
من هذا المنطلق أيضاً فإن انخراط الأنا في صيرورة > الشعور مع<، أو >الوعي بالمعية< في عملية انبناء للمجهول هو تعبير آصلاني عن توجه الرؤيا التخييلية نحو إعادة اكتشاف الكينونة وإعطائها بعد الإينّية الذي يتجاوز المعادلة الكارتيزية:
>أنا = عملية التفكير<
إن الأنا - في منـظور "رامبو" الرؤيوي - يترائى في الآخر، >لكن الغير موجود- لذاته، فهو لهذا "أنا" و"آخر"· كذلك "الأنا/المتكلم" موجود- لذاته، بصفته ذاتاً، وأنا-آخر(alter - ego) بصفته ذاتاً للآخرين ··· أمّا ما نجده في تفكير الكوجيطو إنما هو أنا - لذاته- ولاشيء من أنا- للآخرين·
وبفضل نظرية الوسط المجاور - التي استفادت من حدس رامبو الشعري - يمكن أن يفهم الـ"أنا" ككل منغمر في تداخل الذوات"intersubjectivité" بصفته نواة دائماً لفكر يفكر في العالم وفي الآخرين وفي ذاته وفي الروابط بين الأنا -نحن-آخرين- في العالم·(4)
ويمضي منعم الفقير في نفس الاتجاه معمقاً الرؤية للأنا بوصفها اعتمالاً لعملية التداخل بين الذوات:
>رأيت اني أنا، مادمت أنا، أنا
رأيت أن سواي مبرر أناي< (5)
رؤيا الأنا هنا تفصح عن تعبير يموقع وجود الكائن ضمن الآخر الذي يضحى شرطاً يبرر وجود الأنا، ويمنحها فائض الشعور بالأنوية، حيث تكتشف بعدها الاستقلالي لا الانفصالي المنعزل·
إن الشعر من هذه الوجهة يضحي مساهمة في إعادة إكتشاف الكينونة عبر الدخول الى منطقة المجاهيل لسبر غور الوجود، ومن ثم فدوره تأسيسي باعتياره تجلياً أساسياً لارادة الرؤيا·

- 2 إرادة الرؤيا:
لايفتأ الشاعر الرؤيوي يعلن:
>أريد أن أرى<
كما هو شأن "رامبو" ، وكما هو شأن منعم الفقير الذي يربط الرؤيا بمسألة الوجود الحيوي الذي يعبر عن كائن عاقل "مَنْ" ذي رؤية حسية، وموقف من العالم، موقف يحدس ويقوّم:
>رأيت أن من لارؤيا له، لارؤية ولارأي له< (6)
وإذن فالشاعر الرؤيوي ينطلق من كوجيطو الرؤيا· فالأنا هنا يساوي عملية الرؤيا:
-أنا أرى إذن أنا كائن في العالم -
ان الرؤيا تأسيس لحقيقة الوجود، لكونها أداة أساسية لازاحة الحجب وكشف الاسرار يقول "رامبو":
>أريد أن أزيح الحجب عن كل الاسرار: الاسرار الدينية، أوالطبيعية، اسرار الموت، الولادة، المستقبل، الماضي، الكون السماوي، العدم· فأنا حاذق في العرض العجائبي الخارق<
إن كل إرادة كما يقول "نيتشه" تستلزم تقويماً، والشاعر الرائي يعيد تقويم الوجود عبر خلخلته لكل المقاييس التي ينتحها العقل الانساني القاصر الذي يحجب ويخفي اللاتناهي يقول "رامبو":
>عقلنا الشاحب يخفي اللامتناهي
نريد أن نرى:- الشك يعاقبا!
الشك هذا الطائر المرعب يضربنا بجناحيه · · ·
والأفق يهرب هروباً أبدياً
···· ···· ···· ···· ····· ···· ····
السماء الكبرى فتحت! الاسرار ماتت
أمام الانسان، المنتصب وهو يلف ساعديه القويين
في الفضاء الساحر للطبيعة الغنية!
إنه يغني ··· والغابة تغني، وخرير الوادي
يردد أغنية مفعمة بالسعادة التي تتصاعد نحو النهار!
إنه الخلاص! إنه الحب، إنه الحب!
···· ···· ···· ···· ···· ········ ···· ···· ···· ····· ···· ····(7)
إذن فالرائي هو هذا الكائن الذي يوظف قواه الخفية لإعادة كشف العالم وتجليته، ليتمكن من امتلاك الوجود وتفعيله، فمن الضروري إذن أن يرى الشاعر بعيداً وعميقاً بطريقة مغايرة يخترق من خلالها المواضعات والمواصفات والقيم السائدة وإذا كان نيتشه يؤكد على >الحاجة الى نقد للقيم الاخلاقية، ويدعو الى أن نضع موضع الاتهام قبل كل شيء قيمة هذه القيم< فإن الراي يضع قبل كل شيء موضع الشك والنفي، ثم يحيل الاشياء والرؤى السائدة، والقيم الى إرادة الرؤيا كشفاً لزيف السائد والواقع العيني، فبرؤيته المضاعفة سيتم احتبار العادة التي تخفي عالم التوتر الدينامي، بابرازها للانسجام الزائف، واللاتناقض الظاهر·
ان إرادة الرؤيا كما هو شأن إرادة القوة لاتفسر فقط بل تقوّم أيضاً· >فالتفسير هو تحديد القوة التي تعطي معنى الشيء، والتقويم هو تحديد إرادة القوة التي تعطي الشيء قيمة<· (
ان العقل من هذه الوجهة متهم كما هو الشأن عند نيتشه بهوس تفسير الظاهرات وتقويمها من منطلق قوى ارتكاسية وأصل هذا الهوس يجد نفسه في الصورة المقلوبة، ومن ثم فالضمير والضمائر هي مجرد تضخيم للصورة الارتكاسية، وهو مايكتشفه الشاعر منعم الفقير في رؤيا الضمير:
>رأيت أن الضمير بؤس الكائن، وبأس الكون
رأيت أن تلبيس العقل، ولبس القلب
رأيت أن الضمير إثبات العقل، ومحو القلب
رأيت أن الضمير مشقة الكون، وشقاء الكائن
رأيت أن الضمير تواري القلب، وبدو العقل<
الضمير تعبير عن سلبية مكونة للكائن في الكون، بوصفه الموجود - الساقط، الشقي، وكما يرى "هيدغر" فإن نداء الضمير ليس سوى نداء القلق بقدر ما هو مكوّن من الموجود· في الخطإ الذي يستدعي الدّازاين الذي قدرته على الوجود الخاصة: إنه نداء مستحث لامكانية تحمل مسؤولية الانوجاد للكائن الملقى، انه نداء لعدم تجنب الجرمية، وإن ما اختاره الدازاين بفهمه النداء هو أن يكون على الخصوص ماهو عليه، أي الموجود في الخطيئة: وفهم النداء يعني إرادة -امتلاك- الضمير:(10)
>لا أخاف الخطأ
وإنما الصواب<
وضمنياً فهذه الارادة من جهة أخرى تفصح عن إرادة قوة، تتوخى اثبات التعارض مع المثل الأعلى الزهدي للحياة، الذي يتعالى عن الخطإ ويتجنب الخطيئة وهي داخله في صميم تكوين الكائن، كما أنها تفصح كل ارتكاسي في الحياة، انها من وجهة نظر "نيتشه" إرادة خداع، والفن باعتباره بحثاً عن المعرفة والحقيقة وهو اختراع لامكانات حياة جديدة·(11) وهنا تغدو الحاجة الى الوهم اساسية لاغناء نداء القلق الذي يستدعي الكائن في العالم الى قدرته الخاصة على الوجود:
>رأيت أن الوهم حاجة، ومن لا أوهام له جارت عليه حاجاته
رأيت أن اللاحقيقة الحقيقة الوحيدة
رأيت أن الشك هو البدء، وإليه المنتهى
لا أخاف الخطأ
وانما الصواب< (12)
يفصح الشاعر عن الحاجة الى الوهم بوصفة يدخل في تجربة اكتمال المشروع الانساني التواق الى تجسيد رؤيته من خلال الفن الدي يغدو هنا تعبيراً كينونياً عن أعلى قوة للوهم· إنه يعظم العالم بوصفه خطأ وبوصفه غنياً جداً بالدلالة(13) ان تحفيز الارادة واثارتها تغدو تجلياً اساسياً للرؤيا واعتمالاً فاعلاً للحس النقدي، الحس الذي يختبر الظاهر او الواقع المكرر، وينتقي مضاعفاً رؤيته التصحيحية· وهنا ينحاز الشاعر الرائي الى القلب ليس بمعناه الديني الذي يغيب الانسان كقوة عقلية فاعلة، وليس بالمعنى الزهدي الذي يقتصر على دور الاطمئنان والطاعة والقناعة الزاهدة في الحياة، ولكن بمعنى القلب، قلب الصورة، قلب القيم السائدة وخلخلتها هذا من جهة، ومن جهة أخرى بمعناه البعدي الذي يرى الرؤيا المضاعفة التي تدرك اللامتناهي، وتتجاوز حدود العقل الأداتي، ان القلب بهذا المعنى ضد التشييء وضد التناهي أيضاً:
>رأيت أن القلب بعد العقل
رأيت أن من كان مع قلبه، كان معه عقله، ومن كان مع عقله، أضلّ العقل والقلب
رأيت أن من كان على قلبه، كان عليه عقله
أنا
من
القلب
وإليه
أؤول
··· ···
رأيت أن من وجد قلبه اهتدى الى الفعل، ومن يفعل يكون
رأيت أن القلب كشف، والعقل ستر< (14)
فالعقل ستر حجاب، وهنا يلتقي الفقير برامبو، وفي هذا التلاقي أكثر من دلالة، وإذا كان رامبو يقول بأن عقلنا يخفي اللامتناهي، فإنه من جهة يؤكد الرغبة الذاتية القوية نحو الكشف وإرادة الرؤيا، لهذا مايفتأ يردد -نريد أن نرى- في حين أن الفقير بنزوعه الحِكمي يقيم معادلات شعرية يظهر من خلالها العقل نقيضاً أساسياً للقلب، وهو بذلك يستلهم الرؤية الصوفية، التي تعطي للقلب مركزية محورية على أساسها يقوم انفتاح الكائن على الوجود اللامتناهي، فالقلب هنا ليس هو العاطفة الوجدانية المحدودة في الزمان والمكان، انه بوابة الخيال التي تفضي من خلالها الكينونة الى تأهيل وجودها، فتضحى بذلك ممسكة على أسرار الكون وخفاياه بالرؤيا التي تحقق التجاوز والتعالي، تجاوز المتناهي من جهة والتعالي على الوجود المباشر من جهة أخرى·
ومن ثم تضحى الرؤيا تعبيراً تتمظهر من خلاله فاعلية إرادة الرؤيا، بماهي إرادة قوة تهدف نحو تحقيق سمو الكائن، بل خلق كائن أسمى يستجمع في كينوتنه قوى الخرق والانكشاف التي يغذي بها نزوعه الابدي نحو الخلود، ونزوعه التكينن الجوهري في العالم:
>رأيت أن من وجدَ قلبه اهتدى الى الفعل، ومن يفعل يكون< (15)
فالقلب مفتاح الفعل، والفعل مفتاح الكينونة بالفعل، بينما العقل الأداتي هو مفتاح الكينونة بالقوة، وفي هذا التوجه تعميق نحو إغناء التجربة الوجودية للكائن بممارسة الفعل، من حيث هو تعبير عن إرادة رؤيا تتخذ من القلب بداية الانجاز الحقيقي لتفعيل الامكانات اللامتناهية التي يمتلكها الكائن ذي الأبعاد المتعددة الموصلة الى تعدد الحقائق:
>بتعدد الافعال، تعدد الحقائق< (*)
لكنه لايفضي الى تجل للمطلق بماهو حقيقة كلية يقينية ميتافزيقية كما هو الشأن عند المتصوفة او عند فلاسفة الحضور، بقدر ماهو تجل للامتناهي، حيث يتماهى الكائن في العالم بالوجود المتعدد الذي هو مفتاح لايقاط الشعور من اليقين الزائف، وتحرير الوعي الباطن من عوائق الرؤيا الحاجبة للحقيقة اللامتناهية التي تنحصر في الحضور المباشر:
>رأيت أن اللاحقيقة، الحقيقة الوحيدة
رأيت أن الشك هو البدء، وإليه المنتهى< (16)
فالمفكر الديكارتي يقول:
"أنا أشك، فأنا أفكر، وبما أني أفكر فأنا موجود"
انه يبدأ بالشك ليصل عبر تفكير الأنا الى إثبات وجود الموجود، بينما الرائي يقول:
"أنا اشك، فأنا أرى، ومادمت أرى فأنا كائن في العالم"·
لكنه كائن يحلم، كائن يرى يمارس نقد الواقع ليتجاوزه وينطلق من الشك نحو الشك ليحرر كينونته من الامتلاك المعيق لارادة فهم الوجود وتخيله، وتحقيق لذّة العبور نحو المابعد، نحو الحيوية الناطقة
>رأيت أن الكون يرشو الكائن بالحلم
رأيت أن الحلم لا يضيق بالحالم
رأيت أن الحلم طهارة الحالم
رأيت أنه لاغنى عن غنى الاحلام
الحلم
ثروتي
··· ···
من ضاقت به اليقظة اتسع له الحلم
··· ···
الحلم
وطن الحالم < (17)
الحلم من هذه الوجهة هو إفصاح عن إرادة الرؤيا، والرؤيا من هذا المنظورلها علاقة بالنبوة، فهي حسب الحديث النبوي جزء من ستة وعشرين جزءاً من النبوة، والشاعر يلتقي بالنبي في اعتماد كليهما على قوى المخيال حسب ابن سينا·
فالحلم بما هو ثروة الكائن، هو ايضاً وطن جوهري للاقامة الدائمة، اذا ماحولنا دلالته الى لغة حية ناطقة تشي بالوجود وتحرر الانسان من الشيئية والفقر التخييلي·
والحلم كما يرى باشلار هو في جوهره مفجر لطاقات الخيال الكامنة حيث تبثق رؤيا مستقبلية، وان خيال الشاعر بانفتاحه على العالم لابد له من ان يمجد الحلم ويرتفع به الى مرتبة المثالية، وأن يحوله الى كون عظيم، وهو بابعاده النفس عن ذاتها المتقوقعة المثقلة بالهموم والشجون يحررها من الواقع وضغوطه القاسية، ليلقي بها في عالم شفاف، إنه يلغي عنصر الزمان ويردنا الى وحدتنا الاولية - الطبيعية التي تجعل من الكائن عظيماً ينزع نحو روح الأنثى Anima التي تعبر عن حب حميم يكاد يستوعب الوجود الشامل، وعن رغبة دفينة في التوحد بالطبيعة والتماهي فيها·(18)
>رأيت أني من الحلم، ومني الحلم، به أحيا، ومنه أكون<
إن الحلم من هذه الوجهة هو استيعاب لموقف الكائن في الوجود، وانغمار في الحيوية التي تشكل أحدى أهم سمات التكينن المعين الذي يتوحد بالكون ويتشاكل به بل يتماهى به حد التطابق والتلاحم الكلي
>رأيت أن الكون جسدي
رأيت أن الكون يدركني، ولاحول لي لأدراك ادراكه
رأيت أن من كينونتي يكون الكون
رأيت اني الكون، ودوني لا كون يكون
رأيت أني الجزء المجزوء من الكون، منه أكون، ومني يكون<(19)
وفي هذه الرؤيا يضحى الكون مادة تكوينية لجسدانية يتراكب فيها الكلي بالجزئي، الكوني العام، بالذاتي الخاص، وهذا التركيب ذو سمة متلاحمة ومتفاعلة في آن واحد، لانه يمكن طرفي العملية التفاعلية من خلق الصيرورة، بماهي حركية تنفعل بالتأثير المتبادل في إطار وحدة حميمة، لكنها ليست وحدة تلاشي الكائن، بقدر ما هي وحدة تلاحم ووعي بالكينونة التي هي شرط وجود وتكوين الكون وظهوره للكائن من أجل ذاته:
"بمقدار الظهور، مقدار الكينونة"(20)
-autant d'apparence, autant d'être -
ان الفكرة هنا قد تتشابه بمفهوم وحدة الوجود عند المتصوفة وبعض الفلاسفة، لكن التمايز يتجلى في شرط كينونة الذات، هذه الكينونة التي تنبع من الوعي بالأنا، أي بذات ترى تتفاعل، تتلاحم، وتدخل كشرط اساسي للوجود الكلي، الوجود الذي يصير، يقول هيغل· ونحن هنا نستحضر رؤيا الشاعر "أني الجزء المجزوء من الكون، منه أكون، ومني يكون"· مايلي "العلاقة المتبادلة المشروطة مباشرة هي الكل والأجزاء، فالأجزاء من حيث توجد خارج العلاقة، وتبقى في ذاتها هي فقط مواد، وبوصفها كذلك فهي ليست أجزاء· ومن حيث هي أجزاء لها تعييناتها في الكل فقط- الكل هو الذي يجعلها أجزاء، وبالعكس الاجزاء هي التي تكون الكل"(21)
واعتماداً على هذا المنظور الفينومينولوجي نستنتج أن حيوية الكون مشروطة بالتفاعل بين الأنا كجزء وبين الكون ككل لاتكتمل كينونته المعينة الا بهذا الجزء الذي ينفصل عن الشيء في ذاته، وهو بذلك يدرك أناه، وذاتيته كاستقلالية عن المادة المتشيئة، حيث الكائن لاينفصل عن المادة كامتلاء وانعدام للوعي الذاتي· في حين فهو يتجه نحو الكون الذي هو جزء منه، بوصفه كائناً لأجل ذاته، يتجوهر في العالم ليؤسس إقامته الدائمة التي يسمها بميسمه الداتي - الواعي، الذي يتجاوز مرحلة الادراك باعتبارها تقف عند حد التناهي، ليلج مرحلة الرؤيا التي تمنح هذا الكائن معنى الصيرورة التي بها يتفاعل بالكون، ويتيه فيه:
>أرى
البعد يقربني من
والقرب يبعدني عني< (22)
فالكائن حين يقترب بل يلتصق بالشيء، يضحى كائناً في ذاته،être-en-soi ، وهو بذلك يفتقد وعيه بكينونته، أما حين ينفصل ويبتعد عن المادة، فيغترب عنها، فإنه بذلك يضحى كائناً من أجل ذاته être-pour-soi، فإنه ببعده هذا يقترب من ذاته فيعيها ككينونة متعينة، فهي تختبر إدراكها القصدي، وتلتحم بالأنا لا كذات مفكرة بل كرائية متجلية في العالم:
>رأيت أن بُعْدَ البُعْدِ أنا
رأيت أن بُعدي يشي بي
رأيت أني تماسف المسافة، البعد مني بُعْدٌ والقرب ليس قرباً
أنا
من
البُعْد<(23)
والبعد هنا مرحلة لتحقيق شروط بزوغ الأنا الرائي، الأنا الشعري الذي يختبر، امكانات الوجود، ويعيها كبعد يقرأ من خلاله العالم بوصفه هذا الاحتمال الكبير الذي يغذي الرائي في التعالي والتجاوز الخلاق، وهو ما يعني أيضاً هو أن هذا التجاوز يجد فيه الكائن لاجل ذاته بوصفه كائناً من أجل الموت، حلاً لمشكلته الميتافزيقية بانتقاله من المتناهي -الحياة- نحو اللامتناهي -الموت:
>رأيت أن الحياة تَسْفير، والموت سفر
··· ··· ··· ··· ···
الموت
ميزتي
··· ··· ··· ··· ···
رأيت أن الحياة سؤال، والموت جواب
··· ··· ··· ··· ···
رأيت أن الحياة منفى، والوطن الموت
الحياة
مكان
والموت
تمكين< (24)
الموت بتعبير الشاعر ميزة خاصة بالكائن، هذه الميزة يسميها "هيدغر" بالزمانية الخاصة بالدّازاين، وهي ليست سهلة الوصول إليه إلا عندما يفهم ذاته ككائن فانٍ، أي عندما يتوقع نهايته الخاصّة، وكينونته الخاصة الكاملة كشيء يكون الإمكانية القصوى لكينونته وليس كعرض بسيط يحدث له من الخارج، وبهذا التوقع للموت فان الدازاين يعطي لذاته زمانه·(25)
وبالنسبة للشاعر أيضاً يضحى الموت تمكيناً للكائن من الامساك بكينونته الكاملة الخاصة كامكانية في كل لحظة:
"الموت تمكين"
إن الموت كما يرى "هيدغر" هو الامكانية العظيمة لانه لايعرض أية نهاية محققة وأية صورة للفعالية حتى تنكشف اللافعالية تماماً الامكانية كما هي في حقيقتها والتقدم من الموت يمكن الكائن في العالم من اختبار التجربة كإمكانية وجود، وليس كحقيقة أنطوقية كما يفعل دوماً كموجود - ساقط· (26)
إن الشاعر هنا يقابل بين الحياة بوصفها اختبار لشعور الكائن بالنقص وبين الموت بوصفه اكتمالاً للكينونة، ومن ثم يسمه الشاعر بالجواب، الذي لايأتي الا بتراكم أسئلة الحياة التواقة نحو المستقبل المجهول الذي يحقق للكائن امكانية سفر كينوني يحقق عبره اقامته الدائمة في وطن الموت، والإمساك بكينونته الكاملة· وهذا الإمساك مشروط بالرؤيا الجوهرانية التي تعبر عن إرادة الكائن في الخلق وإعادة تأويل الوجود الحي·

- 3 خلاصة:
فما نكتشفه -إذن- في تجربة الشاعر العراقي منعم الفقير، هو تلك الفاعلية الرؤيوية التي تمارس اختزال الوجود المباشر باعتباره اغتراباً Alienation يمكن من تحقيق الانزياح عن الوسائط الحسية والعقلية، كما يمكن أيضاً تجاوز فضاء الرؤية "بالتاء" الى مابعدها أي الى الرؤيا "بالالف" حيث يدرك الوجود في ابعاده الخلفية والقصية، فتَنْحلّ الروابط وتنكشف الاشياء في كامل عريها·
ومعنى هذا أن الرؤيا تغدو كوجيطو شعري cogito poétique لكنه لا ديكارتي فالبعد الأنوي يدرك في تماهيه بالآخرية وفي تعدديته السالبة للفواصل، وكأن الشاعر باغترابه يتعالى على التشييء وعلى حدود التناهي العقلي، كما بينا سالفاً·
أي يتجاوز ما به تكون الذات مطابقة للعالم الحسي فتضحى وجوداً مُشيئاً، كائناً في ذاته، كما يتخطى أيضاً مواضعات العقل الأداتي التي تحصر مجالات الكينونة L'être ضمن حدود الاقيسة والمطابقات هذا من جهة·
ومن جهة أخرى فالاغتراب هنا هو انعتاق وتحرر، تنعتق فيه الأنا لتمارس فعل الحرية باعتبارها إمكانية تفجير طاقات الكائن في العالم، وهنا تتداعى الحدود بين المتناهي واللامتناهي، بين الجزء والكل· وكأننا بصدد >الروح المطلق< لكنه هنا لايكتسب شكل المثالية المطلقة الهيغلية، بل شكلاً من اشكال العبور الذي يبدد العتمة عن الحكمة المقيمة هناك في رؤيا الكائن الشعري، وهي حكمة تعري مفارقات الوجود وتسجيلها باعتبارها دينامية توتر خالقة للدهشة الشاعرة، وليس للموعظة التي تدفع باتجاه السكون والاستقامة الزائفة·


الهوامش:
- 1 محمد عابد الجابري: بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي يناير1986 ص268
Arthur Rimbaud: Poésies, p. 190 - 2
- 3 نفس المرجع ص190
- 4 محمد عزيز الحبابي: من الكائن الى الشخص، دار المعارف القاهرة، طبعة1960 ص 46
- 5 منعم الفقير: كتاب الرؤيا، تقديم عبد العزيز بومسهولي، دار افريقيا الشرق، الدار البيضاء، طبعة1997 ص 46
- 6 نفس المرجع ص 17
- 7 رامبو، نفس المرجع ص25
- 8 دولوز: نيتشه والفلسفة، ترجمة أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للنشر، بيروت الطبعة الاولى ص49
- 9 منعم الفقير: ص49
- 10فرانسواز داستوز: هيدغر والسؤال عن الزمان ص73
- 11 دولوز نفس المرجع ص132
- 12الفقير: ص16
- 13 دولوز : ص43
- 14 الفقير: ص43
- 15 نفس المرجع: ص 44
- 16 نفس المرجع: ص16
- 17نفس المرجع: ص15
- 18 محمد علي الكردي: نظرية الجمال عند غاستون باشلار، عالم الفكر، مجلد 11، العدد الثاني، العام1980 ، ص203
- 19 الفقير: ص12
- 20ميشيل هنري: أربعة مبادىء للظواهرية، مجلة العرب والفكر العالمي، العدد16 - 15 ، العام 1991، ص124
- 21 هيجل: مختارات، ترجمة الياس مرقص، دار الطليعة، بيروت، الجزء الاول، ص89
- 22 الفقير: ص57
- 23 نفس المرجع: ص58
- 24 نفس المرجع: ص 88
- 25 فرانسواز داستوز: هيدغر والسؤال عن الزمان، ترجمة سامي أدهم، المؤسسة الجامعية للنشر، بيروت 1993 ص23
- 26 نفس المرجع: ص80
- (* انظر الحوار الذي اجريناه مع الشاعر منعم الفقير ونشر في الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، العدد524 في 31 اكتوبر1997


* عبد العزيز بومسهولي ناقد ومفكر ورئيس الجمعية الفلسفية في المغرب




تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...