أحمد رجب شلتوت - سعد الله ونوس المتشائم يستلهم التراث ليناقش قضايا الحاضر

"ونحن إزاء تجربة سعدالله ونوس نجدنا فى حضرة مثقف استثنائي ومبدع من طراز خاص، إذ يمثل نموذجا ناصعا للمثقف العضوي الذي عمل بقدر مسعاه إلى إبداع أدب يتسم بالثورية والتجديد، مسرح يطمح إلى إعادة تعريف مفهوم المسرح، مسرح يجدد في قواعد المسرح ويحدث في شروطه وإجراءاته ـ بقدر ما سعى ـ أيضا إلى تثوير جمهور المسرح والمتلقي، قرر سعدالله ونوس أن يقف في مواجهة السلطة لا بمفهومها السياسي فحسب المتمثل في السلطة الحاكمة، بل كل سلطة تفرضها قوى أو جماعات أو معتقدات، وقد تفطن ونوس إلى تلك الوشائج الضامة لمختلف أنواع الاستبداد الذي تمارسه هذه السلطات المتشابكة فيما بينها". تلك هي خلاصة رؤية الدكتور رضا عطية لمكانة سعدالله ونوس و تجربته التى يقسمها فى كتابه إلى ثلاثة مراحل، هي البدايات كلاسيكية القالب ممتزجة بسمات ذهنية وعبثية، وبعد عودته من فرنسا واطلاعه على المسرح البريختي بما فيه من تغريب كانت مرحلته الوسطى التى كانت اختمرت فيها تجربته فكانت تمهيدا للمرحلة الثالثة حيث البحث في الأسئلة الوجودية الكبرى. ومن بين نصوص ونوس المسرحية اختار الباحث أربعة نماذج ممثلة لهذه المراحل وقف أمامها محللا كل نص فى فصل مستقل، لتكتمل الدراسة التى وصفها بأنها "دراسة رأسية لأربعة نصوص لا تخلو من تصورات للبنية العرضية والمحور الأفقي لمجمل إنتاج ونوس". ومهد لها بمدخل نظر فيه بمنظور طائر لمجمل المنجز المسرحى لونوس.

يلاحظ رضا عطية أن مسرحيات ونوس الأولى كانت أكثر تجريداً، وأقل واقعية، أقرب إلى عوالم المثال من عالم الواقع، تحلّق في سماء التفلسف أكثر من درجها بأرض الدراما. وتعتبر مسرحية "فصد الدم" (1963) أولى مسرحيات ونوس التي تتناول قضية الصراع العربي – الإسرائيلي. وفي مسرحية "المقهى الزجاجي"، ندد بمحاولات السلطات البطريركية فرض إملاءاتها وبسط سيادتها ومصادرة حق الأبناء في التعبير عن ذواتهم. ومع كثافة الإشارات المحيلة إلى قضايا السياسة في المسرحيات التي كتبها ونوس قبل 1967، فإن تناوله مسائل السياسة الشائكة كان من خلف ستائر الرمز، إذ ارتدى قناع الأسطورة أحياناً، غير أن البنية الهيكلية في غالبية مسرحياته الأولى كانت أقرب إلى حواريات الأفكار، فلم تكن تعنى بإنضاج متنام للحدث المسرحي. وإذا كان ونوس طرح في مرحلتيه الأولى والثانية قضية الاستبداد وبطش السلطة الحاكمة والهيمنة الذكورية، فإن الشخصيات فى مسرحياته الأخيرة بدوا أكثر إيجابية، مقارنة بالأعمال التي كتبها قبل عام 1989 وهو العام الذي كتب فيه "الاغتصاب". أما في مرحلته الثالثة والأخيرة فقد تميزت مسرحياته بوجود قوى وكثيف للمرأة، ، كما في "يوم من زماننا" و "طقوس الإشارات والتحولات"، و "الأيام المخمورة".
استلاب وعبث
" استلاب المواطن فى تراجيديا عابثة" عنوان طويل لأول فصول الكتاب، وفيه يحلل الناقد مسرحية مسرحيةَ "مأساة بائع الدبس الفقير" مبينا البنيةَ الأرسطيةَ للمسرحية، وتقسيمَها لمناظرَ بينها فواصلٌ، كما في المأساة اليونانية، وقيامَ الجوقةُ بالإنشادِ في تلك الفواصلِ، تعرض الدراسة لحكاية "خضور" بائعِ الدبسِ الفقير، والذي وقعَ فريسةً في حبائلِ العسسِ الذين اتبعوا حيلًا متشابهة للإيقاع به و كذلك تشابهوا في الأسماء (حسن- حسين- محسن)، حتى أوقعوه في ليكون مصيرُه السجنَ والتعذيبَ. ولئن كان من شروط المأساة وقوعُ ما يُعرف بسقطةِ البطل التراجيدي، أو الخطأ التراجيدي (الهامارتيا)، فلقد كانت سقطة خضور تتمثل في سذاجته.
تتابعُ الدراسةُ دورَ الجوقة في التعليق على الأحداث دون التدخلِ فيها، كما تحللُ فترةَ الانتظارِ بين المناظرِ التي طالت أحيانًا تعبيرًا عن طولِ فترةِ غيابِ خضورِ المُلقى به في معتقلِ التعذيب، وكي تمنحَ المتلقىَ فرصةً لاستيعابِ ما عاين من أحداثٍ مأساوية، فما كان يعد هامشًا في المسرح الكلاسيكي قد أصبح متنًا في مسرح سعد الله ونوس. وتحلل الدراسة الدورَ السيميولجيَ للموسيقى، وخصوصًا الموسيقى العسكريةَ التي يقترنُ مع لعبِها سقوطُ تماثيلِ الجوقة، في إشارة لدوِر عسكرةِ الدولةِ في الإجهازِ على الشواهد. وتحللُ الدراسةُ ما آلت إليه أحوالُ الإنسانِ في مجتمعٍ معسكرِ من المسخِ والآليةِ. كما تحللُ خطأ الشخصيةَ الجمعيةَ التي يمثلُها خضور في تعليل أسبابِ مأساةِ المجتمع، حيث إن ربطَ خضور/ المواطنِ البسيطِ بقاءَ الأوضاع كما هي عليه وعدمَ إمكانيةِ حدوثِ التغيير بأن هذه هي إرادةُ اللهِ- يكشفُ عن خللٍ خطيرٍ في وعي بائع الدبس، فقد رسخت الأنظمةُ الاستبداديةُ في وعي شعوبِها المقهورة أن ما يكونُ من أوضاعٍ سياسيةٍ وتدهورٍ اقتصادي إنما هو ناجمٌ من إرادةِ عليا على إرادةِ البشرِ وهي إرادةُ الله، مما يرسخُ لفكرةِ استحالةِ التغييرِ، بل يرسخُ- أيضًا- لفكرةِ أن الثورةَ على الأنظمةِ المستبدةِ والتمردَ على الديكتاتوريات الحاكمة إنما تكونُ بمثابة تمردٍ على إرادةِ الله.
آثار بريختية
يتناول الفصل الثاني وعنوانه " ثورة على الذات، ثورة على الشكل الفنى" مسرحيةَ "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" وهى أول أعمال ونوس بعد عودته من فرنسا ومطالعتِه المسرحَ البريختي، وبحسب قول الكتاب " لقد أخذته نداهةُ التغيير"ِ، ليس ترفًا جماليًّا أو نزقًا تجريبيًّا مفرغًا من غرضٍ فني، وإنما استجابةً لحاجاتٍ ملحة وقضايا مستجدةِ لم يعد المسرح بشكلِه التقليدي وأبنيتِه الكلاسيكية قادرًا على التعاطي معها. فقد وعى ونوس ضرورةَ أن "يقف موقفًا أيدولوجيًّا حازمًا وواضحًا من أزمة المسرح العربي باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من الثقافة العربية المتسمة بالتهميش وفقدان المنهج". ورأى رضا عطية في تحليله لمسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" أن هذه المسرحية مثلت تعديلا للمسار الذي اتخذه ونوس في سابق مسرحياته، مرتادا بذلك أرضا جديدة لم يسبق أن وطئها لينصب فيها خيمة تجريبه الطليعي، وبين استحداثَ ونوس لوسائلِ التغريب البريختي بمسرحه كتقنية اللوحات وفعلِها السيميولوجي، وكسر الحاجز الرابع بالحوار بين الصالة والجمهور الذي آل إلى تمردِ الصالة، وإبدالِ الديكور في أثناء دورانِ المشاهِد لا في الفواصلِ بينها. فيقدم ونوس نسخةً حديثةً من المسرح الملحمي. وأوضح التوالدِ الحكائي للقصصِ، كحكايةِ الجنودِ الذين واجهوا آتونَ الهلاكِ والموت في المعركة والفلاحَين "عبد الرحمن" و"أبو فرج" و"مدرس الجغرافيا" في إطارِ ما أخذه ونوس عن لويجي بيراندلو فيما عُرف بـالمسرح داخل المسرح.
و بعد فترة صمت عن الكتابة استمرت لخمس سنوات، جاءت مسرحية "الملك هو الملك" لتوجز أساليب السلطان الحاكم من أجل الحفاظ على سلطانه.
ويستلهم ونوس مسرحيته تلك من مسرحية "أبو الحسن المغفل" لمارون نقاش، الذي استلهمها بدوره من إحدى حكايات "ليالي ألف ليلة وليلة" وهي "حكاية النائم واليقظان" والتي تتماس في عنوانها أيضا مع مسرحية لبريخت بعنوان "الرجل هو الرجل".
تقلبات الهوية
أما مسرحية "الأيام المخمورة" فقد تناولها د. رضا عطية فى الفصل الأخير " تقلبات الهوية وتبدد الحقيقة" ويرى أنها تعمل على مطارحة هموم أفراد ومعاينة مأساة وطن إزاء تحديات سياسية وأخلاقية واجتماعية تعصف بسفينة هويتهم وتهدد الوجود الفردي والجماعي للإنسان أمام رياح الفساد العاتية التي تعمل على خلخلة ثوابت القيم وإبدال مستقرات الأعراف مما يخضع القيم لعملية إعادة تقييم ويضع الضمائر محل اختبار وتمسي العزائم في امتحان، قياسا لصلابتها وتماسكها فيما تجابه من تحديات وتمسكها بما تؤمن به من قناعات أمام ضغوطات الحاجة ونقائص العوز وإغراءات الفساد.
و فى الختام انتهى الباحث إلى أن تجربة ونوس المسرحية تتنوع فيها الرؤى و تتكامل لتطرح قضايا الوجود والواقع المعيش، كما أنها تتسم بالتراكم الكمي والكيفي فكثيرا ما يعيد ونوس قضايا سبق تناولها ولكن من منظور آخر جديد بما يؤكد على رؤيته السابقة وكذلك يضيف لها أبعادا جديدة. ورأى أن حضور التسييس عوضا عن السياسة فى المرحلة الأولى من مسرح ونوس كان لتنمية وعي الجمهور وتحريضه على الفعل السياسي بدلا من الاستسلام.




التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...