ثناء درويش - جلال الدين الرومي.. بين عين العشق وعين العقل

"صيَّر الرومي طيني جوهرا * من غباري شادَ كونًا آخر"
محمد إقبال

لطالما أسرجتُ خيلَ الهمَّة لسنين خَلَتْ، أعدو بها نحو سهوبك التي لا تُحَدُّ، يا مولاي. ولطالما وَجَفَتْ خيلي وكَبَتْ، ووقفتْ وقفةَ المتهيِّب عن مغامرة كهذه! وكنتُ كلما أفردتُ أشرعتي لأخوض غمارَ بحرك، رأيتُها تنطوي من جديد، تشكو العجزَ والتقصير. فمَن أنا أمامك، أيها الهرم المتطاول حدَّ السماء؟! وأية جرأة محاولتي الإحاطة بالمحيط؟!
غير أن الرغبة الجامحة، بدل أن تخبو شعلتُها، تحولت مع الأيام إلى هاجس ملحاح. فإذا ما امتلأتُ بك، أيها العبقري الذي لا يجود بمثله الزمانُ كلَّ حين، ووصلتُ حدَّ السكر حتى الثمالة من دَنِّ خمرتك المعتَّقة ودرجةَ البكاء خشوعًا وعرفانًا بالجميل لِمَن نقلني، عبر مدارات مولويَّته، لأهوِّم في فضاءاته، ممجِّدةً مسبِّحة، استعنتُ بالعشق حاديًا وهاديًا، وأسريتُ على جناح العشق إلى حِمَاك، بينما تراتيلك العليَّة ترافقني، جاذبة إياي من أوتار قلبي وأهداب عينيَّ إلى موطن الناي الحزين الذي اقتُلِعَ من منبته، فأمضى العمرَ في نشيج ونواح شوقًا وتوقًا.
أجل، هي ثمانية قرون بيني وبينك! غير أني، في هذه اللحظات الأشبه بتجلِّي ليلة قَدْر خارج حدود الزمان والمكان، أراك حاضرًا فيَّ حضورَ الإله، وأشهدك قطبًا تدور حوله رحى القلوب العاشقة. وما همَّني كل ما كُتِبَ عنك طوال هذه السنين وقيل مادام لكلٍّ منَّا في النهاية إحساسُه، خبرتُه، وشهادتُه. فما كلماتي اليوم إلا أنفاسي تخبر عنِّي كلَّ سالك اختار الحبَّ طريقًا، والقلبَ مقصدًا، حيث طائر السيمُرغ أو العنقا نادر الوجود – سالكٍ يعرف أن دربه لا رجوع فيه، أتاه فارغًا إلا من العشق، ليتشرب كالإسفنج ماء العلم، ماضيًا على آثار خطى مَن سبقوه، غير مبالٍ بالريح تطوي جناحَه أو بالحجارة تعيق مسيرَه.
وأراني، بدءًا، ميَّالةً إلى التعريف بك، كشخص نُسِجَتْ حوله حكايات، فاختلطتِ الحقيقةُ بالخيال والأسطورةُ بالواقع.
لكنَّ أيَّ مريد – يجثو على ركبتيه ليتهجَّى العشقَ في مدرسة فيضك، محاولاً أن يلحق بك أو يجاريك، فيُقعِده العجز – يستطيع أن يتلمس بحاسَّة القلب أنه أمام قصة حياة فريدة، زاخرة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. لاحت تباشيرُها من انبثاق مطلع شمسك في بيت علم ودين ومنبت طيب الأصلاب والأرحام.
حياتك
في يوم ليس كسائر الأيام، وعام ما شابه الأعوام، في لحظة أعجزتِ الفهمَ والبيان، أشرقتِ الأرضُ بنور ربِّها، فهلَّلتِ السماءُ والأركانُ مستبشرةً بقدوم مَن استحق اسم إنسان، مَن كان في السير والسلوك للحق الصراطَ والميزان. لا لم تكن، يا السادس من ربيع الأول من العام 604 ه‍ (1207 م)، إلا لحظةَ فصل في تاريخ البشرية.
على الرغم من تلك الاضطرابات والصراعات الداخلية والخارجية كلِّها، افخري، من الأزل للأبد، يا بلخ ويا خراسان، بقطب الفكر والشعر، وردِّدي، أيتها الآفاق والأنفس، اسم مَن كان للعشق والعقل عنوانًا على مدى الأزمان. ولتشهد، أيها العالم، أن محمدًا، الملقب بجلال الدين الرومي، ابن "سلطان العلماء"، رجل العلم والفقه بهاء الدين محمد ولد بن حسين البلخي، قد ارتقى بحواسه وفكره وقلبه إلى مصاف الأنبياء، تاركًا وشمَه وبصمتَه على صفحة الإنسانية جمعاء. ولتنهد، أيها القلب، لتُشاكِل وتُماثِل مَن حيَّر العربَ والغربَ بعشقه وحكمته، فبقي خالدًا كالخضر في قلب كلِّ مريد، على آثار خطاه يمضي العشاق، حين هو "أقرب إليهم من حبل الوريد". حيٌّ أنت، يا مولاي وشمسي، – ومَن قال إن الشمس تموت؟!
أراك، أراك، وأنت تكبر يومًا بعد يوم، ويزداد وعيُك ويتسع قلبُك. وها أنت ذا بعين الفطرة ترمق اجتماع الناس لحضور دروس أبيك، وترقب بطفولة ودهشة تَمَلْمُلَ الشرِّ والخوف، عند السلطان محمد خوارزمشاه، من حضوره القوي، وتربُّصَ الجهل بالعلم يبغي خلعَه عن عرشه ومقامه، كفعله عِبْرَ رحلة البشرية منذ النفخة الأولى وأول سجود لآدم. أراك سنة 1220 م/609 ه‍، أيها الطفل ابن الخمس سنين، تهاجر في تسليم مع أسرتك، فرارًا من الحسد واقتراب هجوم المغول، ميممًا شطر بغداد، وأتبعك، وأنت تنتقل من مدينة لأخرى، كظلِّك.
وها أنت ذا تلتقي في نيسابور بالشاعر الصوفيِّ الكبير فريد الدين العطَّار. ما أسعد تلك اللحظة التي أخذَك فيها بين ذراعيه وتنبأ لك ببلوغ مراتب عليا في التصوف! وما أغلاها هديةً تلك النسخة من منظومته أسرار نامه التي قدَّمها فألَ خير إليك، يا مَن بقيت تقرُّ بفضله وأسبقيته طوال سنين حياتك مرددًا:
لقد اجتاز العطار مدن الحبِّ السبع، بينما لا أزال أنا في الزاوية من ممرٍّ ضيق.
ومن نيسابور، اتجهتْ أسرتُك إلى بغداد، ثم إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، عائدةً إلى ملطية، لتقيم فيها سبع سنين، لينتهي بها الترحالُ إلى قونية، التي استقر بها المقامُ في ظلِّ ورعاية السلطان علاء الدين السلجوقي ووزيره معين الدين بروانة، حيث راح والدك يدرِّس ويفتي ويخطب ويعظ – ولك، يا مولانا، من العمر حينذاك أربعة وعشرون عامًا.
أذكر يوم حدثتَني حديثَ القلب للقلب، فيما كنت أصغي بحواسي كلِّها، الظاهرة والباطنة، لحكايتك العجيبة التي أعرف:
أول نقلة روحية حقيقية في حياتي الروحية كانت على يد السيد برهان الدين الترمذي، الذي قدم إلى قونية بعد عام من وفاة والدي. فقد رغَّبني في سلوك الطريق الصوفي، وطلب مني الرحيلَ إلى حلب لحضور دروس علمائها. ثم انتقلتُ إلى دمشق، وأقمتُ فيها أربع سنوات، لأعود بعدها إلى قونية، بعد أن استكملتُ أغلبَ العلوم العقلية والنقلية ووصلتُ في الفقه إلى مرتبة الاجتهاد والإفتاء. وحين توفي أستاذي في العام 638 ه‍، تولَّيتُ تدريس العلوم الدينية قرابة خمس سنوات، وكان عدد طلابي يربو على الأربعمائة. وكنتُ – بفضل الله – محبوبًا من العام والخاص، فاعتُبِرتُ أحدَ أكبر أئمة المسلمين وعمادًا لشريعة النبيِّ محمد علينا منه السلام.
الولادة الجديدة ولقاؤك بشمس الدين التبريزي

"أوليائي تحت قبائي، لا يعرفهم سواي"

وما كان ذلك التاجر الجوال الدرويش، الذي وصل قونية في السادس والعشرين من جمادى الآخرة سنة 642 ه‍ (1244 م) وأقام في أحد خاناتها منقطعًا إلى نفسه، إلا رجلاً من رجال الله، حيَّر العالم – ولا يزال – يقلقلهم السؤال: هل كان حقيقةً أم هو وهم وخيال؟!
كنت معك يوم تعرَّضتِ "الشمسُ" لموكبك مع تلامذتك. وكنت أصغي لتلك المحاورة القصيرة بينكما، ليغمى بعدها عليك. ولما استعدتَ وعيَك، أدركتَ أن شمسًا هو نور الله تعالى، المرسَل لهدايتك إلى المعرفة اليقينية التي لم تصلها من قبل. فمضيتَ معه إلى الخلوة التي دامت بينكما أربعين يومًا، لم يدخل عليكما خلالها إلا أحد مريديك، واسمه صلاح الدين زركوب، لتخرج بعدها وقد زُلزِلتَ زلزالاً عميقًا:
عندما اشتعلتْ نيرانُ الحبِّ في صدري
أحرق لهيبُها كلَّ ما كان في قلبي
فازدريتُ العقلَ الدقيقَ والمدرسةَ والكتاب
وعملتُ على اكتساب صناعة الشعر وتعلمتُ النَّظْم
فما الذي أسرَّ به إليك؟ وأيَّ ماء طهور سقاك إياه؟ بل أية خمرة إلهية وصهباء معتَّقة جادت بها راحتاه؟! – فإذا أنت الكاس والساقي والخمرة معًا. لعلي بدأت أفهم، شيئًا فشيئًا، ما رحتَ تنشده من أشعار متدفقة، حيَّة، متغنيًا بالشمس التي مَحَقَ نورُها النجوم:
شيخ الدين وبحر معاني ربِّ العالمين. الأرض والسماء تبدوان أمامه وكأنهما قشَّة. لو أظهر جمالَه دون حجاب لما بقي شيءٌ في مكانه. ولا ينبغي أن نفلت ذيلَ ثوبه من أيدينا إن أردنا إدراكَ الحقيقة. ولو طلع شمسٌ لانعدمت الظلال. إن النجوم، وإنْ كانت بلا عدد، فإن قوتَها على التجلِّي أمام الشمس منفردةً منعدمةٌ: طيور الضحى لا تستطيع رؤية شعاعه، فكيف طيور الليل تطمع أن ترى؟!
لم تكن تلك النقلة، كما يرى بعضُهم، فجائيةً عندك، يا سيدي ومولاي. فآثارك تشهد على ميلك الفطري إلى التصوف والحكمة والتأمل الروحي العميق، ورحلاتك إلى حلب والشام كانت خطواتٍ أوليةً في درب الحكمة، خاصة وأن عمرك يوم التقيتَ إمامَك شمس كان ينوف على الأربعين. وكل ما فعله التبريزي أنه حرَّك عندك ذلك المنبعَ الفياض – القلب – وحرَّضه، ليجود بكنوزه وخباياه دررًا في القول والفعل. ومن القاع راح يستخرج اللؤلؤ المكنون، ذلك الصيادُ الماهر، تمامًا كما يفعل أيُّ هادٍ أو معلِّم.
قالوا عن شمسك إنه "أمِّي". فليقولوا ما شاؤوا! فقد فعلوا ذلك قبلاً مع نبيِّك ونبيِّنا محمد – وما أدركوا يومًا ما تعنيه الأمِّية، وأي فخر وشرف أن يكون المرءُ أو يعودَ "أميًّا".
علَّمتَني، يا مولاي، كيف ينتظر المُرادُ مريدَه كما يبحث المريدُ عن مُراده. فكأن المعشوق هو المحيط، وكأن العاشق هو القطرة – وكلاهما في حنين إلى الوصْل بعد الفَصْل، ليعودا واحدًا، بما أن إرادة المريد باتت هي إرادة المُراد.
وها هو ذا شمس الدين يشهد بذلك في مسألة توجُّهه إلى قونية في كتابه مقالات الذي ينفي عنه تهمةَ "الأمِّية" من منظور العامة:
لطالما تضرعتُ إلى الله تعالى أن يجعلني أختلط بأوليائه وأنعم بصحبتهم، فرأيت في المنام مَن يقول لي: "سنجعلك تصحب أحدَ الأولياء." قلت: "طيب، وأين أجد ذلك الولي؟" وفي الليلة التالية، رأيت الرؤيا نفسها، وفي الليلة التالية كذلك. وقيل لي: "هو في بلاد الروم." وبعد مدة من البحث والطلب، لم أعثر عليه ولم أرَه. قيل: "لم يحن الوقتُ بعد، فالأمور مرهونة بأوقاتها."
... بينما يحفل المثنوي وديوان شمس تبريز بشواهد الحق دامغ الباطل. ولعل أجملها هذا القصيد الذي يرسم أروع صورة ومظهر للوحدة، وكأنك قلتَه لي وحدي يومًا، في خلوة خارج الزمان والمكان، ونحن فيها نقشان لروح واحدة:
ما أسعد تلك اللحظة حين نجلس في الإيوان، أنا وأنت!
نبدو نقشين وصورتين، ولكننا روح واحدة، أنا وأنت!
إن لون البستان وشدو الطيور يَهَبُنا ماءَ الحياة
في تلك اللحظة التي نذهب فيها إلى البستان، أنا وأنت!
وتُقبِل نجومُ الفلك رانيةً إلينا بأبصارها
فنجلو القمرَ نفسَه لتلك الأفلاك، أنا وأنت!
أنا وأنت، من دون أنا وأنت، نبلغ بالذوق غاية الاتحاد
فنسعد ونستريح من خرافات الفرقة إلى أنا وأنت!
وسيأكل الحسد قلوب طيور الفلك ذات الألوان الباهرة
حينما تشاهدنا نضحك جذلَين على تلك الصورة، أنا وأنت!
ما الذي حدث فجأة؟! وأية نار راحت تسري في تلامذتك كأنهم الهشيم؟! بل أية غيرة هدمتْ كلَّ ما بنيتَه فيهم؟! وما بالهم غدوا كحُمْرٍ مستنفَرةٍ فرَّتْ من قسورة؟! ما لعيونهم الكليلة تعجز عن رؤياك أو رؤياه، وما لقلوبهم عليها أقفالها؟! يا ضيعة العلم، وواأسفًا على وقتك وجهدك راح سدى!

"وظلم ذوي القربى أشد غضاضةً * على القلب من وَقْعِ الحسام المهنَّد"

أكلُّ هذا لانشغالك عنهم برجل غامض، غريب الأطوار، مجهول النَّسَب؟! أم أن القصة نفسها تتكرر في كلِّ عصر وأوان: صراع الخير والشر بين الأخ وأخيه، قصة الغيرة التي جعلت إبليس من الملعونين المطرودين إلى يوم الدين، وجعلت قابيل يقتل أخاه هابيل دون ذنب. ثم تكررت القصة، عِبْرَ كلِّ دور، بقتل الأنبياء والأئمة والحكماء. عين بشرية قاصرة هي عين القياس، واستكبار وغرور وعدم ثقة بالخالق ولا بخلقه، وتوالُد الأنا كخلية سرطانية: تبدأ المقارنة، ويبدأ الفكر يحجب عينَ القلب بدل التناغم والانسجام.
لكن "الضد يُظهِر حُسْنَه الضدُّ". فلولا ذاك الشر كله ما بان حُسْنُك، يا يوسف، ولا تجلَّتِ الشمسُ في أشعارك، يا مولاي، – شمس شرقية لا يسترها حجاب. وكيف لا يثور الشرُّ، والشمس تستنكر عاداتِ القوم والصوفية وتَباهيهم بالكرامات؟!
حتَّام تتباهون بقولكم: "حدثنا وحدثنا"، وتمرحون في ميدان الرجال وأنتم تمتطون سُرُجًا من غير خيول؟! أما مِن أحد منكم ينطق بخبر فيه: "حدثني عن ربِّي"؟!
الغيرة، التي ابتدأت بالنفور ثم صارت عداءً شديدًا ورغبةً في التخلص من "الشمس" المنافسة، يصفها ابنُك سلطان ولد قائلاً:
وهكذا صاروا جميعًا متعطشين لدماء شمس، فكانوا إذا رأوه أمسكوا سيوفهم، وكانوا يسبونه سبًّا فاحشًا، ويرمونه بالسِّحر والدَّجل، ويتربَّصون به قائلين: "متى يغادر شمس قونية أو يختطفه الموت؟"
ولو كان لي أن أقول رأيي فيما حدث، يا مولاي، لأقسمت على أنهم لم يحبوك يومًا! فالمحبة إيثار وتضحية، والمحبة ثقة، والمحبة تسليم. ولو وصلوا إلى مقام المحبة ما فعلوا به وبك ما فعلوا.
ما أشد حزني لحزنك، يا مولاي، – وأنت ترى شمسًا يرحل عن قونية وعن تلك القلوب المظلمة المحجوبة عن رؤية النور. وحقك أن تشيح بوجهك عن كلِّ مَن كان سببًا في رحيل خضرك الحي عنك، يا موسى العصر والأوان. وها هي فترة قصيرة تمر، فتستلم منه رسالةً يُعلِمك فيها أنه بالشام، فتسارع إلى إرسال ابنك سلطان ولد لإقناعه بالعودة، فيعود. وتعود معه حملةُ الهجوم أشد ضراوة، يختفي على إثرها التبريزي نهائيًّا، فيُجمِع الناس على أنه قُتِلَ، ودمه في عنق أعدائه الذين لم يُكتَب لهم أن يعرفوه حقَّ معرفته. ويروي ابنُك سلطان ولد أنه قال له يومًا:
ألا ترى ما فعلوه؟ أيريدون إبعادي عن مولانا، ثم يجلسون بعد ذلك سعداء فرحين؟ سوف أرحل هذه المرَّة، فلا يعرف أحدٌ أين أكون. سوف تمر سنوات لن يجد فيها أحدٌ لي أثرًا. سأختفي، وتمرُّ أوقاتٌ وأزمان حتى يقال: إن أحد الأعداء قتله.
أما أنت فلم تقتنع لحظة أنه مات، ولم تصدق الشائعات حول مقتله، بل بقيت معتقدًا أنه رحل من جديد إلى الشام:
من ذا الذي قال إنَّ شمس الروح الخالدة قد ماتت؟
ومن الذي تجرأ على القول بأن شمس الأمل قد تولَّت؟
إنَّ هذا ليس إلا عدوًّا للشمس وقف تحت سقف
وعَصَبَ كلتا عينيه ثم صاح: "ها هي الشمس تموت!"
كم من مرة أرسلتَ تسأل عنه في الشام، وكم من مرة ذهبت بنفسك تتقصَّى آثاره هناك، حتى سلَّمتَ أخيرًا بأنه لن يعود أبدًا، فبكيتَه أسًى وحرقةً وأقمت له مجالس العزاء.

"لا يطَّلع على ولادتنا ولا على موتنا أحد"
رحلتْ شمسُك، تاركةً إياك في خلوتك، منقطعًا عن كلِّ مَن كان من وراء غيبته. وإذا بيد الله تبسط من الغيب، وإذا بوجهه يلوح من جديد بمعشوق آخر، أحد تلامذتك المقربين، صلاح الدين فريدون زركوب، الصانع البسيط في الزخرفة والطلاء بالذهب، العالم بأمور الله. لكأن الشرَّ حرَّض الخيرَ أن يظهر من جديد، ولكأن الإبداع لا يظهر إلا بهذين القوسين لتكتمل الدائرة.‏
ومن جديد، يحوك الشرُّ شرنقتَه، ويبدأ التآمر على قتل صلاح الدين، "ليخلو لهم وجهك" بعد أن اصطفيتَه دونهم – لولا أن قضاء الله كان أسرع، إذ توفي سنة 1258 م، ليكون حسام الدين جلبي البديلَ الصالح لشمس تبريز، مصدرَ إلهامك ومحبتك، يتردَّد اسمُه ومضاتِ نور في قصائدك. بإيحاء منه نظمتَ المثنوي، ترتجله فيدوِّنه حسام، منشدًا إياه في سكرات عشقه.
أراد "الكنز المخفي" أن يُعرَف، فكان شمس، ثم صلاح الدين، وأخيرًا حسام الدين – وما كانوا إلا وجوهًا ثلاثة لحقيقة واحدة، صفةً للذات، وعَرَضًا للجوهر، ورمزًا إلى المعنى. فـ"الخلق الآخر"، كي يُبعَث، لا بدَّ له من سماء وأرض وماء وَصْل، عِبْرَ لقاح المحبة والعشق.
وحانت ساعةُ انعتاق الروح من أسْر الجسد، ملتحقةً بأصلها، سنة 672 ه‍/1273 م. ولكن مَن قال إن الرومي يموت؟! الرومي حيٌّ في قلبي، وفي كلِّ نَفَس من أنفاسي، مادمت أحاول أن أغوص في عين عشقه وعلمه، ماضيةً على نهج تَرَكَه أمانةً في عنقي، قائلاً بتأدية الأمانة لأهلها، ومادام قد أودع في رحم روحي نطفةَ معانيه، لـ"تهتز الأرض وتنبت من كلِّ زوج بهيج".
الرقص المولوي
تعالوا إليَّ، أيها الفنانون والحرفيون والصنَّاع المهرة. تعالوا، أيها المتجهون إلى قبلة العشق الواحدة، من أيِّ مذهب أو دين. تعالوا نرقص معًا، نحور وندور، لنجسِّد في رقصنا ما حاولت أن أقوله عبر الكلمات سني عمري، وما يقوله الوجود كلَّ لحظة. بديع السماوات والأرض أنا. واليوم سأترك إبداعي هويةً لي عبر القرون يدلُّ عليَّ.
يا رقصة النحل، دومي. فها هي ذي المليكة تخرج ليلة زفافها في رقصة تصاعدية. هيا، أيها الذكور! إن أكثركم عشقًا سيكون الأقدر والأقوى على اللحاق واللقاح. فإذا ما مات بعده حقَّق غايةَ الوصال، شاهدًا وشهيدًا على أعتاب عشقها.
يا رقصة الأفلاك، دومي. شمسك العروس تناديك من مركزها. فمن غير وصال، كيف لظلمتك أن تمتلئ بالنور؟! – فإذا بالعاشق والمعشوق في وحدة من غير فرق.
يا رقصة الماء والهواء والتراب والنار، اشهدي لوحدة الوجود ووهم التضاد. ففي الرقص لا إله إلا هو...

هو... هو... هو... هو...

تعالوا ننطلق إلى القرى لنخفِّف عن البائسين ونعزِّي الحزانى. أصقاع الأرض تنادينا لرقص دراويش الخلود. قد ارتدينا البياض أكفانًا، والمعاطف السودَ قبورًا، ووضعنا قلنسوةَ اللبَّاد شاهدةً للقبر. أما بساطنا الأحمر فلون الشمس الغاربة.
دوروا دوراتِكم الثلاث حول باحة الرقص، قربةً لله: دورة طريق العلم، ودورة طريق الرؤية، ودورة طريق الوصال. ثم ارموا معاطفَكم السود، متطهِّرين من عالم المادة، ناهدين نحو الخلاص.
أيها الراقصون، ما أنتم إلا قوس هبوط تنغمس به الروحُ في المادة، وقوس صعود تعود به الروحُ إلى بارئها.
كلنا الآن، خارج حدود الزمان والمكان، عدنا واحدًا!
أيتها الموسيقى، اصدحي، فقد تم الوصال!
ولتقرعي، يا طبول، فقيامتنا اليوم قامت!
آثارك
قرون ثمانية طُوِيَتْ، حافلة بالأحداث والمعالم والشخصيات المتميزة – وأنت باقٍ، دفق دم ونبض قلب، بنثرك وشعرك الفارسي الجميل، المطعَّم بقليل من العربية البسيطة. تترجَم أعمالُك إلى لغات عالمية عديدة، ويُقبِلُ القرَّاءُ والمريدون على نهج تعاليمها، ويعمل الباحثون والنقاد على دراستها وتفكيك مرموزاتها. وأعجبهم المستشرق الإنكليزي رينولد نيكُلسون الذي أمضى ثلاثين عامًا في ترجمة المثنوي بأجزائه الستة، وألحقها بشروح وتعليقات، فكان مثالاً رائعًا للجهد الدؤوب والصبر على مصاعب العمل والإخلاص للعلم والحقيقة.
بينما يقرُّ العالم العربيُّ بالأيادي البيضاء لبعض الأقلام والقلوب التي قامت بترجمة بعض أعمالك ودراستها. ولعل أبرزهم الدكتور محمد عبد السلام كفافي، الذي قام بترجمة وشرح ودراسة المثنوي في جزئيه الأول والثاني، وتلميذه الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا، الذي أكمل هذا العمل الضخم في أجزائه الثالث والرابع والخامس والسادس.
النثر عندك عبارة عن كتاب فيه ما فيه ورسائلك ومجالسك السبعة. والرسائل تضمُّ 144 رسالة موجَّهة إلى المقرَّبين منك وشخصيات ذلك العصر، مثل معين الدين پروان (الوزير وحاكم أقاليم الروم)، مع أربع رسائل إلى شمس تبريزي. وفي معظم رسائلك، رحت توصي بالفقراء والمعسرين. بينما تشتمل المجالس السبعة على مواعظك الصوفية والأخلاقية التي ألقيتها على أتباعك، وتُستهلُّ هذه المجالس بالخطبة والدعاء، حيث احتوت موضوعات صوفية وأحاديث وأبيات شعرية.
وأما الشعر – وهو الأهم والأعمق أثرًا في النفس – فكان تغنيًا وغزلاً بشمس تبريز، جمعتَه في ديوان دعوته باسمه: ديوان شمس تبريز، وحكمةً وتربية، تضمنتْها ستةُ أجزاء من كتاب سمَّيتَه المثنوي.
ديوان شمس تبريز
أهذا ديوان شعر، أم هو الشمس الخالدة، بتنوع أشعتها تشهد أنها واحدة متفردة؟ اثنان وأربعون ألف بيت من الشعر في ثلاثة آلاف وخمسمائة غزلية، تجلَّتْ فيها صورةُ الإنسان الكامل، سلطان دولة العشق وأمير قافلة الحبِّ الإلهي. ألفاظ عذبة رقيقة، رمز وإيحاء، صور بيانية ذات تنوع مذهل، تبتعد عن المحسِّنات اللفظية، ومظاهر طبيعة هي تجلِّيات الخالق في خلقه، أبهاها الزهور، رُسُل المحبة، تعبِّر بتباينها عن اختلاف أحوال الإنسان ومشاعره، تلتقطها العينُ الساحرة العاشقة لتحيلها شعرًا وسُكْرًا، فإذا بالقارئ يمسُّه العشق، فيشفُّ، وتأخذه الروحُ بتلقائية وسجيَّة من طين الأرض لسماء سابعة، مشدود الأنفاس، يحاول اللحاق بِمَن يطير به من الكثافة إلى اللطافة، فيقر بعجزه والتقصير، ثم تتركه مخمورًا من كاس رؤاك، مذهولاً عمَّن عداك، فلا يدري أهو بشر أم ملاك!
أقبل الربيع، أقبل الربيع، أقبل الربيع حلو العذار
أقبل أوانُ الشقائق الحُمْر، طاب العالمُ وعمَّ الاخضرار

استمع إلى السوسن، أيها الريحان، فللسوسن مئة لسان
انظر وادي الماء والطين، كيف امتلأ بوشيٍ يبهر الأبصار

تسأل الوردةُ زهرةَ النسرين: "كيف كنتِ في هذه الغربة؟"
تقول: "بخير، إذ الطيبات أتت من تلك الديار"

وزهرة الياسمين تهتف بشجرة السرو: "أوترقصين وأنت سكرى؟"
فيسرُّ السرو في أذنها: "قد أقبل الحبيب البار"

تقدمتْ زهرةُ البنفسج إلى النيلوفر قائلة: "بوركت والله
فقد أقبل العمر الباقي، وولَّى الجفاف، ثم ولَّى الاصفرار"

وتلك النرجسة رمقتِ الوردةَ بنظرة قائلة: "أتضحكين؟"
فهتفت بها: "ما أضحك إلا لأن الحبيب بالجوار!"

وقالت شجرة الصنوبر: "تيسَّر السبيلُ الوعرُ بفضل الحقِّ
فكلُّ ورقة بدت في قطع الطريق كسيف بتَّار"

من تركستان العالم الآخر – منبت الأتراك الملاح –
بأمر المليك، أقبل إلى بلاد الهند الماءُ ونُثِرَتِ الأزهار

انظر ذلك اللقلق الصدَّاح، قد ارتقى منبرًا
هاتفًا: "يا رفاق العمل، الصَّلا، حان وقت العمل والإكثار"
يا للكلمات الراقصة على إيقاع خمسة وخمسين بحرًا من بحور الشعر، ويا للخبرة باستخدام حتى الأوزان المهملة، والتوظيف الفطري للموسيقى الجانبية، كالقافية والرديف والموسيقى الداخلية التي لم تخلُ منها غزلية. وفي هذا أرقى تجلٍّ لإبداعك وتفرُّدك. فذاك ما لم يُتَحْ لأحد من قبلك ولا من بعدك، يا ابن آدم العاشق للَّحن، تذكره مذ كنتَ في الجنة ذرًّا وذرية في صلب أبيك. علق حبُّه بقلبك، وصارت الأنغامُ العذبة والألحان الجميلة، التي تجيد عزفَها على أكثر من آلة، حنينًا للعودة عندك إلى أصلك السماوي، كذلك الناي الحزين الذي اقتُلِعَ من منبته، فغنَّى شوقَه ألحانًا. فكأن الشعر والموسيقى والرقص سلالم صعود نحو سماء القلب بخلع أثواب الأنا وحُجُب المادة الكثيفة.
كلُّ حرف في ديوانك، يا أستاذ العشق ومدرسته، يشير إلى دور المحبة كرائدة لمسير الإنسانية ومصيرها، وإلى أن العلاقة بين الإنسان وربِّه قائمةٌ على المحبة: إذ هي الهادي والمقدمة لكلِّ ما عداها، وهي العلاج لكلِّ العلل، والوسيلة المثلى للوصول للغاية والمراد.
ديوانك دعوة إلى العشق الإلهي، لتصبح إرادةُ العاشق من إرادة المعشوق، فمن إرادة الكون، لتحقِّق الوحدةَ والوصالَ بالمحبة، القوة المحركة للكون كلِّه، التي تسري روحُها في كلِّ ذرة من ذرات الوجود – فإذا بالعشق قطب الرحى ومركز الدائرة:
بشفته ما أحلى الكلام والسماع وما جرى
لاسيما حين يفتح الباب ويهتف: "سيدي، وهلمَّ أقبل علينا!"

بشفة جافة يحكي قصةَ عين ماء الخضر
وخياط عشقه يحيك على قدِّ كلِّ امرئ عبا

العيون تسكر من سكرات عينه السَّكرى
الشجر يرقص للُّطف ريحَ الصَّبا

يقول البلبلُ لشجرة الورد: "ماذا يضمر قلبك؟
ابسطي القول الآن: فليس هناك أحد، أنت وأنا، ليس إلا!"

تقول: "مادمت أنتَ معنا، فلا ترُمْ هذا أبدًا
اجهدْ كي تحمل من هذا القصر متاع أنت

فاعلم علم اليقين أن ثقب إبرة الهوس بالغ الضيق
لا يسمح بولوج الجمل حين يبدو مزدوجًا"
ديوانك تذكير مستمر بالوطن الأم وبالأصل العلوي الذي ننتمي إليه، في تشويق وترغيب، معتمدًا على لهفة المريد واستعداده الروحاني للسير في هذا الطريق الصعب، الذي تذلِّل صعابَه الإرادةُ والعشق، بتأييد من الله تعالى. ولا يحصل ذلك إلا بتبديل المزاج كما تقول: "يُشترَط تبديلُ المزاج، واعلم أن المزاج السيئ موتٌ زؤام." ولا يتم هذا التبديل إلا على يد رجل من أهل الطريق والعرفان، يجلو مرآةَ القلب من الصدأ، لتنعكس فيها حقائقُ الأشياء، فتحيا على يد الخضر الحيِّ بعد موتها.

"يُشترَط تبديلُ المزاج، واعلم أن المزاج السيئ موتٌ زؤام."

وعلى حين تبدو في مثنويك، يا مولاي، فيلسوفًا متأملاً حكيمًا عاقلاً، فأنت هنا سيد العشق: تخلع عمامة العقل، وتُسْلِس قيادَك للمحبة الإلهية في "شعر اللاوعي"، كما سُمِّيَ:
لا تكن بين العاشقين عاقلاً
خاصة في عشق هذا العذب اللِّقا

فليُبعِدِ الله العقلاءَ عن العشاق
ليُبعِدِ الله ريحَ التنور عن ريح الصبا

إذا أتى إليك عاقلٌ فقلْ له: "ليس ثَمَّ طريق"
وإن أتى إليك عاشقٌ فألف مرحبا

إنْ أخذ العقلُ في التدبير والتفكير
مضى العشقُ هربًا حتى سابع سما

إنْ بَحَثَ العقلُ عن بعير لأجل الحجِّ
مضى العشقُ قُدُمًا وارتقى جبلَ الصفا

جاءني العشقُ فأمسك بهذا الفم هاتفًا:
"دعك من الشعر واعلُ على الشِّعرى"
أما وقد بلغتُ من مقالي هذا الحد، فلروحي الثملة بالرومي وشمسه المتجلِّية في إبداعه أن توردَ البوح الرائع بين العاشق والمعشوق، قبل أن أطلَّ من جديد مع المثنوي، "قرآن السالكين":
تجلَّ بوجهك، أيها الحبيب، فإن مناي الحديقة وبستان الورد
وافتح شفتيك، فإن مناي الشهد الكثير
أيتها الشمس، أميطي عن وجهك نقابَ السحاب
إن أملي تلك الطلعة المشرقة الوضَّاءة
لقد سمعت من هواك صوتَ الطبول تقرع للسطور، فرجعت
لقد قلت في دلال: "اذهب، ولا تتبعني أكثر من ذلك." وقولك لي هذا هو غاية أملي
ودفعك لي قائلاً: "اخرج، إنَّه ليس في المنزل"، كذلك دلَّ حارس الباب وكبره وخدنه
أولئك كلهم آمال أرتجيها
أيتها النسائم العبقة التي تهبُّ من بستان الحبيب، مرِّي عليَّ، فإني مؤمل بشارة الريحان
إن خبز هذا العالم ومائه كسيل لا وفاء عنده
وأنا حوت عظيم، وليس لي أمل إلا بحر عُمان
وإني أردِّد دائمًا عبارات الأسى، مثل يعقوب، ذلك لأن أملي وجهُ يوسف المليح
والله ما المدينة من دونك إلا سجن لنفسي! فليس لي أمل سوى الحيرة بالجبال والصحارى
بل إن أملي أن أمسك كأسَ الشراب بيد وشعرَ الحبيب بالأخرى
وأن أرقص على هذا النحو وسط الميدان
ما أشد ضيقي بهؤلاء الرفاق ذوي العناصر الواهية!
إنني أريد أسد الله، أريد جلال الدين بن سنان
إن في يد كلِّ موجود فُتات من الحُسْن، لكن أريد منجم الملاحة كلِّه
ومهما كنتُ مفلسًا فلن أقبل نثار العقيق
فلا رجاء لي إلا منجم العقيق النادر المتلألئ
وإنني من هؤلاء الخلق لمليءٌ بالشكوى، باكٍ ملولٍ
ولهذا أريد صياحَ السكارى، أريد ضجيجَهم
لقد أصبحت روحي ضائقةً بفرعون وظلمه
ولهذا فإن أملي نور وجه موسى بن عمران
لقد قيل لي إن هذا لا يوجد، ولقد طال بحثنا عنه، ذلك الذي لا يُعثَر عليه
إنني أصدح مثل البلبل، ولكن من الحسد العام خُتِمَ على لساني، وما أملي إلا النواح
بالأمس، كان الشيخ يحمل سراجًا ويطوف بالمدينة قائلاً:
"لقد ضقت بالشياطين والوحوش... إنني أنشد إنسانًا!"
بل إن أمري قد خرج عن كلِّ حنين وكلِّ أمل
إن أملي أن أودِّع كلَّ كون وكلَّ مكان متجهًا صوب الحقيقة، نحو الحبيب
فهو هناك، محتجب عن العيون، ولكن كلَّ المرئيات من فعله
لقد سمعت أذني قصةَ الإيمان، فسكرتْ بها. فلتقل إن الإيمان بذاتي
وكنهي هو أملي ورجائي
أنا قيثار العشق، والعشق قيثاري، ولي أمل في يد عثمان وصبره وأنغامه
وهذا القيثار يحدثني قائلاً: إنني من شوقي الدائم أرجو ألطاف رحمة الرحمن
ولتجْلُ لنا، يا شمس تبريز ومفخرتها، مشرقَ العشق
فإني أنا الهدهد، وما رجائي إلا حضور سليمان
أيها الحبيب، إني لم أرَ طربًا في الكونين من دونك
لقد رأيتُ كثيرًا من العجائب، ولكنني لم أرَ عجبًا مثلك ولم أرَ محرومًا
من نارك سوى أبا لهب
ولكم وضعتُ أذنَ الروح على نافذة القلب وسمعتُ كلامًا كثيرًا، ولكنني لم أرَ شفتين
لأنك كثيرًا ما تنثر رحمتَك على عبدك دون توقُّعٍ ومن دون طلبٍ منه
ولم أرَ سببًا لذلك سوى لطفك الذي لا يُحَدُّ
أيها الساقي المختار، يا مَن أنت منِّي بمنزلة عيني، مثلك لم يجئْ في العجم
ولا رأيتُ نظيرَك في العرب، صُبَّ لي كأسًا من الخمر ما أتخلص به من ذاتي
فإني لم أرَ في الذاتية والوجود سوى التعب
يا مَن أنت اللبن والسكَّر
يا مَن أنت الشمس والقمر، يا مَن أنت الأم والأب، لم أرَ نَسَبًا سواك
ولا أريد نَسَبًا سواك، يا شمس تبريز
أيها العشق الذي لا يزول، أيها المطرب الإلهي، إنك أنت الملجأ والظهير
وما رأيت لقبًا يفيك حقَّك
نحن قِطَعٌ من الفولاذ، أما عشقك فمغناطيس
وأنت الأصل في كلِّ طلب يجذبنا إليك، وليس ذلك في نفوسنا
فلتسكت، يا أخي، ولتدعْ حديثَ الفضل والأدب
فلست أرى أدبًا عندك مادمت دائبًا على حديث الأدب
فيا شمس الحقِّ التبريزي، يا أصل أصل الروح
إني لم أرَ تمرةً واحدةً إلا في بصرة وجودك
كيف لا يحلِّق الروحُ حينما يأتيه من جَناب الجلال خطابُ اللطف حلوًا
كالسكَّر يناديه: تعال؟!
كيف لا يقفز السمك متعجبًا من اليابسة إلى اليمِّ
حين يطرق سمعَه صوتُ الأمواج من البحر الزلال؟!
ولماذا لا يطير الباز عائدًا إلى سلطانه
عندما يسمع نداءَ العودة تردِّده دقاتُ الطبول؟!
لماذا لا يرقص كلُّ صوفيٍّ كالذرة في شمس البقاء حتى تخلص من الزوال؟!
أيكون بمثل هذا اللطف والإنعام بالحياة ويعبِّر عنه إنسان؟!
ألا ما أعجب هذا الشقاء والضلال!
لنَطِرْ، لنحلِّقْ، أيها الطائر، نحو معدنك حتَّى تخلص من القفص
وتصبح كالبازي
خوافي وأقدام
ولترحل من الماء الملح نحو ماء الحياة، ولترجع نحو صدر عالم الروح
تاركًا موضع صفِّ النِّعال
لتذهبي، لتذهبي، أيتها النفس! وإننا أيضًا لقادمين من عالم الفراق إلى
عالم الوصال
حتَّام نحن في التراب، نملأ جحورَنا بالتراب والحصى وحطام الخزف؟!
فلنرفع أيادينا من التراب، ولنحلِّق نحو السماء، ولنهرب من الطفولة إلى مأدبة الرجال
ألا فلتنظرْ كيف أن الهيكل الترابيَّ مثل حقيبة أحاطت بك. فلتمزقْ هذه
الحقيبة، ولترفعْ رأسَك منها
ولتقبضْ على هذا الكتاب حتَّى لا تعصف به الرياح
فأنت لست طفلاً لا يدري
إن الله قد أمَرَ رسولَ العقل أن يمضي كما أمَرَ يدَ الموت أن تفرك أذن الحرص
فسمعتِ الروحُ نداءً يهتف بها: "اذهبي إلى الغيب، ولا تنوحي بعد اليوم
خذي الكنز والنوال"
فاهتف مغادرًا، وارفع صوتك قائلاً: "إنَّك أنت السلطان
وإن لك لطفَ الجواب كما لديك علم السؤال"
*****
يتبع.. في الجزء الثاني.. "المثنوي"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...