سعدت بمشاهدة صديقي محمد مدني مساء أمس على شاشة تلفزيون السودان. ربما مر عقد كامل على آخر لقاء لنا في الرياض، وهو الذي تجاسر، وزارني في السفارة التي يقاطعها في كل مكان وحتى اليوم. أيقظ اللقاء ومع إبداع الإلقاء الخاص بمدني مفارقة الحاجز السحري لعالم الشعر والواقع، ومعاناة الآخر، في هذه الحالة: استاذ حاتم الياس في مطاردته لفراشات الإجابة. القصيدة لها جوابها، والإجابة لها قصيدتها. هذه هي الحالة. الشعر وحده يمكن أن يجيب عن تلك العلاقة السحرية بين مدني وكجراي أو مدني والفيتوري، أو حتى مدني وناود. ولا يستطيع شاعر أن يجيب عن المؤثرات في شعره أو نثره، لأن ذلك حديث عن الوعي والفعل، وهل يحكم هذان القصيدة؟ وماذا يفعل إذن سكان عبقر، أو ميوزات أثينا؟ كانت عصية هي المقابلة، وربما كان حاتم الياس يحس بانسرابها بين يديه، يخرج بقصيدة أو تلويحة أو ابتسامة كإجابة.
ونقلتني إجابة مدني عن ما يعتبره (الآخرون) إشكالية في الهوية المزدوجة: الحالة الارترية/السودانية إلى تلك الحالة المثالية بين ما قبل وما بعد. ففي إجابته إشار إلى إبيه: عمي المغفور له بمشيئة الله الشيخ محمود الشيخ وهو يقدم بطاقتين لضابط الجوازات في الحدود: واحدة ارترية وأخرى سودانية؛ كأنما يقول له: أختر أيهما. وذلك الموقف حدث في حالة وسطى بين حالتين مثاليتين. ليس تقديم هويتين هو الإشكالية؛ بل السؤال عنها من الأساس هو الإشكالية.
المحطة الوسطى بين محطتين:
أن الأفارقة كانوا لا يعرفون حدودا في ماضيهم. وأشار حاتم الياس إلى أن الدولة القومية كان "موضوعة" وضعا على أرض افريقيا. حتى في صراع المدن والقبائل الأفريقية لم تكن الأرض هي هدف الصراع؛ وإن كانت محله. لأن في أرض افريقيا متسع للجميع. أما في اوروبا فكانت الحاجة إلى الأرض وامتلاكها وغرز العلم عليها وتسويرها وأكراه الناس بين حظائرها ومن هنا ولدت الدولة القومية. أما الأفارقة في حالتهم المثالية لم يعرفوا حدودا أو رسوما أو سؤالا، وهذا يفسر امتداد حكم السلطنة الزرقاء إلى خاصرة ارتريا: هنا لم تكن سنار بحاجة إلى "والي" في ارتريا بل كان يكفيها أن تأتيها الضرائب والقوافل والملح والخيرات وأي حدود كانت ستعطل المدد. وهكذا فعلت سونغاي، وأكسوم وتومبتكو ووداي.
ثم في حالة وسطى هي أبعد تماما عن الحالة المثالية للتنقل والقيام والترحال، جاء مؤتمر برلين حيث أمسك الخواجة بالمسطرة والقلم (وجر الخط) فكان السودان الفرنسي؛ والسودان الانجليزي المصري، وكان وكان ثم تم تسوير الأراضي ووضع الديدبان وأصبح السفر والتنقل المثالي كسباق تخطي الحواجز؟
وأصبحت الدولة الافريقية الشوهاء أول الحواجز التي كسرت الحالة المثالية الأولى. وعندما استطالت الجدران وتعمقت البلدان أراد السكان حالة مثالية أخرى "متحضرة" تعيد لهم نفس مثالية تحركات اجدادهم، فصاروا يحلمون بالقطار الذي يتحرك من باريس ويتوقف في لندن دون أن يشعر المسافر أنه خرج من دولة إلى أخرى. وصار هناك حاجة لحالة مثالية جديدة: تذوب فيها الحدود ويسهل فيها التنقل ويبقى فيها السؤال عن الهوية نوعا من التخلف: أما تقديم الهوية عند الحواجز فيصبح تابو مقيت. في المرة الأولى اشتغلت علينا مسطرة وقلم برلين، وفي المرة الثانية صرنا نحلم بقطار باريس لندن السريع؛ قطار أحلام يتحرك من أنجامينا حتى الخرطوم ويقابله قطار الحادية عشره المتحرك من أسمرا إلى الخرطوم.
نحن في "المحطة الوسطى" بين حالتين مثاليتين؛ وهذه المحطة لا يستطيع سوى الشعر تقديم الإجابات فيها
فقبل أن نضع القطارات على القضبان؛ علينا أن نطلق سراح القصيدة والفكرة والحلم ثم نقول، كما في الأمس للشعر: هات الإجابة.
www.facebook.com
ونقلتني إجابة مدني عن ما يعتبره (الآخرون) إشكالية في الهوية المزدوجة: الحالة الارترية/السودانية إلى تلك الحالة المثالية بين ما قبل وما بعد. ففي إجابته إشار إلى إبيه: عمي المغفور له بمشيئة الله الشيخ محمود الشيخ وهو يقدم بطاقتين لضابط الجوازات في الحدود: واحدة ارترية وأخرى سودانية؛ كأنما يقول له: أختر أيهما. وذلك الموقف حدث في حالة وسطى بين حالتين مثاليتين. ليس تقديم هويتين هو الإشكالية؛ بل السؤال عنها من الأساس هو الإشكالية.
المحطة الوسطى بين محطتين:
أن الأفارقة كانوا لا يعرفون حدودا في ماضيهم. وأشار حاتم الياس إلى أن الدولة القومية كان "موضوعة" وضعا على أرض افريقيا. حتى في صراع المدن والقبائل الأفريقية لم تكن الأرض هي هدف الصراع؛ وإن كانت محله. لأن في أرض افريقيا متسع للجميع. أما في اوروبا فكانت الحاجة إلى الأرض وامتلاكها وغرز العلم عليها وتسويرها وأكراه الناس بين حظائرها ومن هنا ولدت الدولة القومية. أما الأفارقة في حالتهم المثالية لم يعرفوا حدودا أو رسوما أو سؤالا، وهذا يفسر امتداد حكم السلطنة الزرقاء إلى خاصرة ارتريا: هنا لم تكن سنار بحاجة إلى "والي" في ارتريا بل كان يكفيها أن تأتيها الضرائب والقوافل والملح والخيرات وأي حدود كانت ستعطل المدد. وهكذا فعلت سونغاي، وأكسوم وتومبتكو ووداي.
ثم في حالة وسطى هي أبعد تماما عن الحالة المثالية للتنقل والقيام والترحال، جاء مؤتمر برلين حيث أمسك الخواجة بالمسطرة والقلم (وجر الخط) فكان السودان الفرنسي؛ والسودان الانجليزي المصري، وكان وكان ثم تم تسوير الأراضي ووضع الديدبان وأصبح السفر والتنقل المثالي كسباق تخطي الحواجز؟
وأصبحت الدولة الافريقية الشوهاء أول الحواجز التي كسرت الحالة المثالية الأولى. وعندما استطالت الجدران وتعمقت البلدان أراد السكان حالة مثالية أخرى "متحضرة" تعيد لهم نفس مثالية تحركات اجدادهم، فصاروا يحلمون بالقطار الذي يتحرك من باريس ويتوقف في لندن دون أن يشعر المسافر أنه خرج من دولة إلى أخرى. وصار هناك حاجة لحالة مثالية جديدة: تذوب فيها الحدود ويسهل فيها التنقل ويبقى فيها السؤال عن الهوية نوعا من التخلف: أما تقديم الهوية عند الحواجز فيصبح تابو مقيت. في المرة الأولى اشتغلت علينا مسطرة وقلم برلين، وفي المرة الثانية صرنا نحلم بقطار باريس لندن السريع؛ قطار أحلام يتحرك من أنجامينا حتى الخرطوم ويقابله قطار الحادية عشره المتحرك من أسمرا إلى الخرطوم.
نحن في "المحطة الوسطى" بين حالتين مثاليتين؛ وهذه المحطة لا يستطيع سوى الشعر تقديم الإجابات فيها
فقبل أن نضع القطارات على القضبان؛ علينا أن نطلق سراح القصيدة والفكرة والحلم ثم نقول، كما في الأمس للشعر: هات الإجابة.
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.