نظام صلاح
"جوقة"
أنا ابن الزمن القاتم
أمتهن السفر
بين عقاربه
أرشف أقداح الحزن
في زاوية الوحدة
أعد الأيام.
أنا الابن المنسي
على قارعة الحظ العاثر
ربيب الفشل
أتدحرج مع الزجاجات الفارغة من الأحلام
أفشي سر الصدر المكلوم
أتجشّأ الألم
أتقيّأ السخط
بصوت مسموع
فيقيموا الحدّْ..
وحدُّ الساخط غارم
أنا الابن العاق لليل البهيم
تغويني الرذيلة
أضاجع أنوار الطريق
لم أبلغْ حدَّ النشوة
أكرع كؤوس الندم
أعود ثملاً بالتوبة
يبتعلني الظلام
يُبقيني في جوفه
لا يشعر بي أحد.
**
قراءتي النقدية:
لعلّ الطفل ما زال في روح شاعرنا يستصرخ كل مواقف طفولته البائسة التي انقضت مستذكرًا مآسيها وعثراتها وأوجاعها ليعزف لنا (جوقة) طفولته المشتركة عبر مراحلها كلّها بلحنٍ واحدٍ وأداءٍ تمثيليٍّ مشتركٍ في لحنٍ موسيقيٍ متألّقٍ رغم حزنه وألمه.
جوقة:
عنوان حاذق ومُكثَّف يوحي بالكثير والمثير!
فيبدأ تراتيل إنشاده- مع جوقة أطفالٍ انبثقوا عن شخصه- بتعريفه عن نفسه :
"أنا ابن الزَّمن القاتم
أمتهنُ السَّفر
بين عقاربه
أرشف أقداح الحزن
في زاوية الوحدة
أعدُّ الأيّام"
= يُشكُّل الاستهلال النصي بؤرة المأساة التي عاشها طفل الشاعر في طفولته عبر كافة مراحلها على اختلافها في حلّها وترحالها وأحلامها وأمالها وآلامها، ومعاناته النفسيّة والجسديّة، والذاتيّة، ويبدأها بترتيل الطفل الأوّل في جوقته الحزينه، فيحكي لنا عن الزَّمن الذي وُلد فيه، يسمُه بالقَتامة لشدّة ظلامه، وجوره، وعبوسه. ففي أيّ زمنٍ أغبر وُلد ذاك الطفل البائس؟!
وقد جاء شاعرنا بالأفعال المضارعة التي تُدَلُّل على استمرارية الفعل في زمَني الحاضر والمستقبل
و لحظة كتابته هذا النص المُتخَم بالوجع والمغرق بالحزن!
(أمتهن، أرشف، أعدُّ) ليؤكّد على استمرار حال العذاب الذي يقيم بين دفَّتيه رجوعاً لضميره المتكلم( أنا) الذي يعكس معاناته ومأساته، فنراه قد وفِّق في الحديث عن سيرة حياته بصورة تجريدية ومباشرة.
"أمتهن السفر بين عقاربه
أرشف أقداح الحزن في زواية الوحدة
أعدُّ الأيّام"
=متى كان السفر مهنة؟!
وقد اتَّخذها ذاك الطفل -ابنُ الزَّمن الغابر- مهنةً تقتاتُ أوجاعه وآلامه عليها، فتلدغه عقارب الوقت الذي يمرّ ثقيلاً بطيئاً أثناء سفره الطَّويل والذي يخاله لن ينتهي وقد غرَّبه عن أحبابه، ووطنه، فأنكرته الجهات، وجهل قدرَه غرباء المكان، فبات غريباً حتَّى عن ذاته، وحيداً يجترُّ مرارة الوحدة، والعزلة حزناً ووجعاً.
"أنا ابنُ المنسيّ
على قارعة الحظّ العاثر
ربيبُ الفشلِ
أتدحرج مع الزُّجاجات الفارغة من الأحلام
أفشي سرَّ الصَّدر المكلوم
أتجشَّأ الألمَ
أتقيَّأ السُّخطَ
بصوتٍ مسموعٍ
فيقيموا الحدَّ
وحدُّ السُّخط غارم"
=أيُّ زمنٍ منسيٍ ذاك الذي تركه على قارعة الطّريق المُظلم؟
فلم يحالفه الحظّ طوال حلّه و ترحاله فمنَّاه بالخسارة تلو الخسارة والفشل إثر الفشل
ثمَّ يحرص الشَّاعر على التحدُّث بضمير المتكلم ليُرسِّخ في ذهن المُتلقّي معاناته الشخصيّة ويستمرُّ في توالي الأفعال المضارعة بفواعلها المتكلِّمة الموجِبة المستترة (أنا) نحو (أتدحرجُ، أفشي، أتجشَّأ، أتقيَّأ) يتضاعف هنا ضمير الأنا ويتفاعل مع لغته الشعريّة على أساس الانفعال وهنا لا نعدّ التَّدحرج إلا ضرباً من ضروب التّردِّي والضياع في متاهات الحياة التي سلبته- بقسوتها- كلّ أحلامه وهنا -في هذه الصُّورة البليغة- يتمظهر مدى تشظّي الشاعر وتشرذمه في (عراكه الدُّونكشوتيّ) مع طواحين الهواء التي راحت تدحرجه في كل وادٍ هائماً على وجهه، مسلوب الإراده، مُغتال الحلم.
ثمَّ يُدلِّل شاعرنا على امتعاضه الكبير حتى بلغ منه الغضب -من حالة التيه التي يعيشها- كلّ مَبلغ
لدرجة الإفشاء بأسراره التي ضاقت حرَجاً في صدره النَّازف، ويلفظ الألم الذي يسكنه، فقد آن الأوان ليصرخ مُعبِّراً عن غضبه، وسخطه ولا يعدُّ التقيُّئ والتَّجشَّأ إلا حالةً من حالات التُّخمة أو التُّوتر وقد بلغ السَّيل الزُّبى، فنفذ صبره، ولم يلبث أنْ صرخ منفِّساً عن ضيق صدره حتّى أقاموا عليه الحدّ!
فيقيموا الحدّ
"وحدُّ السّاخط غارم"
= تُرى من هم أولئك الذين أقاموا عليه الحدّ لمجرَّد أنّه صرخ غاضباً رافضاً لكلِّ ما يُمارس عليه من عذاب وقهرٍ واضطهادٍ، وما هي العقوبة والغرامة التي سوف يطبّقونها عليه جرّاء صراخه؟
يُثير الشاعر هنا بإيحاءٍ جميل ورمزيّةٍ محبّبة تمّ نسجها على أساس التَّضمين والتأويل مُخفياً شخصية أولئك الذين سوف يطبّقون عليه الحدّ وما ومن وراءَهم!
ليبقى المتلقِّي متشوِّقاً متسائلاً عن سرِّ تغريمه وسبب تجريمه!
"أنا ابن الليل البهيم
تغويني الرذيلة
أضاجع أنوار الطريق
لم أبلغ حدّ النشوة
أكرع كؤوس الندم
أعود ثملاً بالتوبة
يبتلعني الظلام
يبقيني في جوفه
لا يشعر بي أحد"
= وكأنّ بطل النص
أبى إلا أنْ يشقَّ عصا الطاعة ويشبَّ عن الطّوق ليعلن عصيانه على كلِّ ما ورّثه إياه الجهل وفرضتَه عليه العادات والتقاليد البالية
محطماً كل القيود متمرِّداً على القمع والسجن وراء قضبان الإذعان مُشرعاً نوافذه للنور والحرية طلّاعاً غير هيّابٍ لكن الفشل كان حليفه رغم كل تجاسره والإخفاق كان من نصيبه رغم كلّ محاولاته في الخروج من جلباب أبيه
ليعود منكفئاً على ذاته
يتجرَّعُ كؤوس الخيبة والخذلان لا يدفعه إلا ظلالٌ من خيبةٍ وإحباطٍ، أعادته القهقرى نكوصاً وإخفاقاً إلى ماضٍ مهزوم؛ ليبقى ابن الظلام والوحشة مهيض الجناح لا يشعر به أحد؛
وليبقى ظلّ طفله المقهور والمأسور حجر عثرة أمام من شابت ذوائبه.
بتناغمٍ رشيقٍ يختتم الشاعر نصه بتعالقٍ لافت مع ما بدأه، فما فتِئت (الجوقة) تعزف تراتيل الزمن القاتم مُشنّفةً آذان الليل...الليل فقط!
= طبيعة النَّص السَّوداويّة مؤلمة وقد ألقتْ بظلالها الكثيفة على النصَّ من بدايته حتَّى نهايته، وقد كان عزف (الجوقةِ) مُرَّاً موجعاً مستقىً من واقعٍ حزين يعيشه البطل في صورة قاتمةٍ انبثقتْ عنه كلّ تلك الآلام التي أدَّت دوره.
"جوقة"
أنا ابن الزمن القاتم
أمتهن السفر
بين عقاربه
أرشف أقداح الحزن
في زاوية الوحدة
أعد الأيام.
أنا الابن المنسي
على قارعة الحظ العاثر
ربيب الفشل
أتدحرج مع الزجاجات الفارغة من الأحلام
أفشي سر الصدر المكلوم
أتجشّأ الألم
أتقيّأ السخط
بصوت مسموع
فيقيموا الحدّْ..
وحدُّ الساخط غارم
أنا الابن العاق لليل البهيم
تغويني الرذيلة
أضاجع أنوار الطريق
لم أبلغْ حدَّ النشوة
أكرع كؤوس الندم
أعود ثملاً بالتوبة
يبتعلني الظلام
يُبقيني في جوفه
لا يشعر بي أحد.
**
قراءتي النقدية:
لعلّ الطفل ما زال في روح شاعرنا يستصرخ كل مواقف طفولته البائسة التي انقضت مستذكرًا مآسيها وعثراتها وأوجاعها ليعزف لنا (جوقة) طفولته المشتركة عبر مراحلها كلّها بلحنٍ واحدٍ وأداءٍ تمثيليٍّ مشتركٍ في لحنٍ موسيقيٍ متألّقٍ رغم حزنه وألمه.
جوقة:
عنوان حاذق ومُكثَّف يوحي بالكثير والمثير!
فيبدأ تراتيل إنشاده- مع جوقة أطفالٍ انبثقوا عن شخصه- بتعريفه عن نفسه :
"أنا ابن الزَّمن القاتم
أمتهنُ السَّفر
بين عقاربه
أرشف أقداح الحزن
في زاوية الوحدة
أعدُّ الأيّام"
= يُشكُّل الاستهلال النصي بؤرة المأساة التي عاشها طفل الشاعر في طفولته عبر كافة مراحلها على اختلافها في حلّها وترحالها وأحلامها وأمالها وآلامها، ومعاناته النفسيّة والجسديّة، والذاتيّة، ويبدأها بترتيل الطفل الأوّل في جوقته الحزينه، فيحكي لنا عن الزَّمن الذي وُلد فيه، يسمُه بالقَتامة لشدّة ظلامه، وجوره، وعبوسه. ففي أيّ زمنٍ أغبر وُلد ذاك الطفل البائس؟!
وقد جاء شاعرنا بالأفعال المضارعة التي تُدَلُّل على استمرارية الفعل في زمَني الحاضر والمستقبل
و لحظة كتابته هذا النص المُتخَم بالوجع والمغرق بالحزن!
(أمتهن، أرشف، أعدُّ) ليؤكّد على استمرار حال العذاب الذي يقيم بين دفَّتيه رجوعاً لضميره المتكلم( أنا) الذي يعكس معاناته ومأساته، فنراه قد وفِّق في الحديث عن سيرة حياته بصورة تجريدية ومباشرة.
"أمتهن السفر بين عقاربه
أرشف أقداح الحزن في زواية الوحدة
أعدُّ الأيّام"
=متى كان السفر مهنة؟!
وقد اتَّخذها ذاك الطفل -ابنُ الزَّمن الغابر- مهنةً تقتاتُ أوجاعه وآلامه عليها، فتلدغه عقارب الوقت الذي يمرّ ثقيلاً بطيئاً أثناء سفره الطَّويل والذي يخاله لن ينتهي وقد غرَّبه عن أحبابه، ووطنه، فأنكرته الجهات، وجهل قدرَه غرباء المكان، فبات غريباً حتَّى عن ذاته، وحيداً يجترُّ مرارة الوحدة، والعزلة حزناً ووجعاً.
"أنا ابنُ المنسيّ
على قارعة الحظّ العاثر
ربيبُ الفشلِ
أتدحرج مع الزُّجاجات الفارغة من الأحلام
أفشي سرَّ الصَّدر المكلوم
أتجشَّأ الألمَ
أتقيَّأ السُّخطَ
بصوتٍ مسموعٍ
فيقيموا الحدَّ
وحدُّ السُّخط غارم"
=أيُّ زمنٍ منسيٍ ذاك الذي تركه على قارعة الطّريق المُظلم؟
فلم يحالفه الحظّ طوال حلّه و ترحاله فمنَّاه بالخسارة تلو الخسارة والفشل إثر الفشل
ثمَّ يحرص الشَّاعر على التحدُّث بضمير المتكلم ليُرسِّخ في ذهن المُتلقّي معاناته الشخصيّة ويستمرُّ في توالي الأفعال المضارعة بفواعلها المتكلِّمة الموجِبة المستترة (أنا) نحو (أتدحرجُ، أفشي، أتجشَّأ، أتقيَّأ) يتضاعف هنا ضمير الأنا ويتفاعل مع لغته الشعريّة على أساس الانفعال وهنا لا نعدّ التَّدحرج إلا ضرباً من ضروب التّردِّي والضياع في متاهات الحياة التي سلبته- بقسوتها- كلّ أحلامه وهنا -في هذه الصُّورة البليغة- يتمظهر مدى تشظّي الشاعر وتشرذمه في (عراكه الدُّونكشوتيّ) مع طواحين الهواء التي راحت تدحرجه في كل وادٍ هائماً على وجهه، مسلوب الإراده، مُغتال الحلم.
ثمَّ يُدلِّل شاعرنا على امتعاضه الكبير حتى بلغ منه الغضب -من حالة التيه التي يعيشها- كلّ مَبلغ
لدرجة الإفشاء بأسراره التي ضاقت حرَجاً في صدره النَّازف، ويلفظ الألم الذي يسكنه، فقد آن الأوان ليصرخ مُعبِّراً عن غضبه، وسخطه ولا يعدُّ التقيُّئ والتَّجشَّأ إلا حالةً من حالات التُّخمة أو التُّوتر وقد بلغ السَّيل الزُّبى، فنفذ صبره، ولم يلبث أنْ صرخ منفِّساً عن ضيق صدره حتّى أقاموا عليه الحدّ!
فيقيموا الحدّ
"وحدُّ السّاخط غارم"
= تُرى من هم أولئك الذين أقاموا عليه الحدّ لمجرَّد أنّه صرخ غاضباً رافضاً لكلِّ ما يُمارس عليه من عذاب وقهرٍ واضطهادٍ، وما هي العقوبة والغرامة التي سوف يطبّقونها عليه جرّاء صراخه؟
يُثير الشاعر هنا بإيحاءٍ جميل ورمزيّةٍ محبّبة تمّ نسجها على أساس التَّضمين والتأويل مُخفياً شخصية أولئك الذين سوف يطبّقون عليه الحدّ وما ومن وراءَهم!
ليبقى المتلقِّي متشوِّقاً متسائلاً عن سرِّ تغريمه وسبب تجريمه!
"أنا ابن الليل البهيم
تغويني الرذيلة
أضاجع أنوار الطريق
لم أبلغ حدّ النشوة
أكرع كؤوس الندم
أعود ثملاً بالتوبة
يبتلعني الظلام
يبقيني في جوفه
لا يشعر بي أحد"
= وكأنّ بطل النص
أبى إلا أنْ يشقَّ عصا الطاعة ويشبَّ عن الطّوق ليعلن عصيانه على كلِّ ما ورّثه إياه الجهل وفرضتَه عليه العادات والتقاليد البالية
محطماً كل القيود متمرِّداً على القمع والسجن وراء قضبان الإذعان مُشرعاً نوافذه للنور والحرية طلّاعاً غير هيّابٍ لكن الفشل كان حليفه رغم كل تجاسره والإخفاق كان من نصيبه رغم كلّ محاولاته في الخروج من جلباب أبيه
ليعود منكفئاً على ذاته
يتجرَّعُ كؤوس الخيبة والخذلان لا يدفعه إلا ظلالٌ من خيبةٍ وإحباطٍ، أعادته القهقرى نكوصاً وإخفاقاً إلى ماضٍ مهزوم؛ ليبقى ابن الظلام والوحشة مهيض الجناح لا يشعر به أحد؛
وليبقى ظلّ طفله المقهور والمأسور حجر عثرة أمام من شابت ذوائبه.
بتناغمٍ رشيقٍ يختتم الشاعر نصه بتعالقٍ لافت مع ما بدأه، فما فتِئت (الجوقة) تعزف تراتيل الزمن القاتم مُشنّفةً آذان الليل...الليل فقط!
= طبيعة النَّص السَّوداويّة مؤلمة وقد ألقتْ بظلالها الكثيفة على النصَّ من بدايته حتَّى نهايته، وقد كان عزف (الجوقةِ) مُرَّاً موجعاً مستقىً من واقعٍ حزين يعيشه البطل في صورة قاتمةٍ انبثقتْ عنه كلّ تلك الآلام التي أدَّت دوره.