الأوقات حيـوات ؛توهب بعطاء وتنتزع بلا استئذان
نبذة عن الكاتبة
اضاءات حول قصة استيقظت الهوية!!!وهي واحدة من المجموعة القصصية للكاتبة الشابة :جيهان عمر محمد عثمان ـ
المكان:جمهورية السودان.لها مشاركات متعددة في مجال القصة القصيرة والاقصوصة (ق ق ج) كما فازت بقصتها (سيتيت العائد) بجائزة وطنية ،ولها دراسات أكاديمة في اللغة والتدريس، ناشطة في مجال النهوض والارتقاء بالذائقة الادبية نثرا ونظما عبر المنتديات والصحف الثقافية المحلية
مدخل:
حري بنا ونحن نحاول تفكيك هذا النص وتحليله ،أن نتوقف وقفة استبصارية اسكشافية عند مفتتح القصة وتصديرها الذي يتمحور حول الوقت والحياة .
في الحياة الواحدة ثمة حيوات كثيرة نعيشها وربما لا ندركها أبدا. يخيل لنا باستمرار أن حياتنا وحدة متكاملة غير متغايرة مع نفسها من المهد إلى اللحد، والحال أننا نعيش تغايرا ضمن هذه الوحدة وحدة الأنا... سألني صديقي عن أهم كتاب قرأته، أي النص الذي صحبني سنوات. قلت هناك كتب بعدد الحيوات التي عشتها بل هي علامة هذه التحولات،وهذه الكتب كان لها دور دينامي في عبوري من حياة لأخرى، لأن النص الحقيقي أو الكتاب الحقيقي هو ذاك الذي وبعد أن تنتهي من قراءته وتضعه جانباً يستمر معك وبالتالي لا تعود أنت بالضبط الذي كنته قبل مباشرتك قراءته.
هكذا في رأيي تتحدد قيمة النصوص الكبرى بمدى استمرارها معنا، وهي في ذات الوقت تفعل شيئاً فينا، وبالتالي في مصيرنا... هل أستعير لغة الإنثربولوجيين وأقول الكتاب الذي تأثرت به هو ذاك الذي لعب دور طقس تحول وعبور في حياتك من حياة إلى أخرى.
بيد أنه هو الكتاب أيضاً الذي يشكل رمزياً سلطة شبيهة بسلطة الأب ويدفعك إلى معايشة تجربة تنطوي على مفارقة فريدة ومكابدة عسيرة تتمثل في النزوع إلى التأثر به وفي الآن الرغبة في التخلص من هذا التأثر لتصل إلى كتابة نصك الخاص هنا تأتي جملة غوتة الشهيرة: «كن رجلا ولا تتبع خطواتي».
والأمر لايرجع فقط لقيمة النص وعمقه لأن القراءة عملية مشتركة تفاعل بين النص والقارئ. ثمة قراءة التلقي السلبي وثمة قراءة هي إعادة خلق للنص بحيث يخلق القارئ نصه وهي القراءة الإبداعية والنادرة.أيضاً هناك القراءة الأخرى المهلكة وهي التي يقول عنها مارسيل بروست الخطر في القراءة لا يكمن في عدم الفهم والاستيعاب الدقيق، وإنما يتمثل الخطر الأكبر في الفهم الخاطئ لما نقرأ.
خليق بنا أن نقر ونعترف أن هناك العديد من النعم التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها على عباده، من بينها نعمة الوقت، فهو المحور الرئيسي في حياة الإنسان، منذ لحظة ولادته حتى وفاته، ولأهمية الوقت العظمى فقد أقسم الله سبحانه وتعالى به في القرآن الكريم، وطلب من الإنسان الحفاظ عليه واستغلاله بشكل سليم، بما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة، لأنه من الأمور التي يسأل عنها الإنسان يوم القيامة.
قمة الادهاش والابهار حين تلتقط نص التصدير " الأوقات حيـوات ؛توهب بعطاء وتنتزع بلا استئذان " هنا نلحظ إشارة حكيمة فيما يلي الوقت الذي يمثل جوهر الحياة ،فن إدارة يقتضي التعامل معه بوعي ،ومن الواجب إعادة تشكيله وفهمه حتى نلحق بركب من سبقونا حضاريا وما كان لهم ذلك السباق والريادة الا بعنايتهم بالأوقات وحسن إدراتها ،وهذا لن يتأتى مالم تتوفر إرادة حقيقة لاستنزال مفهوم استراتيجية إدارة الوقت ،فهي حيوات جمع حياة ،وحري بنا أن نستشعر أهمية الوقت ،وما الإنسان إلا رحلة زمنية تبدأ بصرخة الميلاد وتنتهي بشهقة الممات ،والمسافة بين الميلاد والممات مساحة رحيبة يجب أن تملأ بالمواقف الإيجابية المفيدة وهو ما تشير اليه الكتاب في كون العطاء اللامحدود هو ما يجعل هبة الأوقات تعمر بعطاء فاذا اخفقنا في اغتنام الفرصة وفشلنا في رفد الحياة بالجمال والحق والخير سوف تنزع منا الأوقات بالموت الذي يباغتنا بلا استئذان ،حقيقة هذا التصدير يمثل رسالة قوية للعناية بالوقت وتطويعه فيما يعود بالنفع والفائدة للكون والانسان
في الواقع أن القصة القصيرة هي عبارة عن فن تكثيف الموضوع في عبارات الايجاز،وفي تقديري أن هذا المدخل يمنحنا قناديل استكشاف ما وراءه من رؤى وحيثيات وجدل وحراك ..فهو يشير إلى مسألة الهوية التي ظن الإنسان في وقت ما أنّ التخلص من خصوصية الانتماء وإلغاء الهوية في ظل العولمة أمر هين. لكن القلب يظل مترقبا لحظة مؤاتية تتيح له العودة للجذور والأصول ، فيغزل صوراً ومشاعر يداوي بها فقده للوطن المكتمل وحاجته الملحة للانتماء.
ومن ناحية أخرى نجد الأمم والشعوب بحاجة ملحة وضرورية إلى السرد لإثبات ذاتها ووجودها وترسيخ جذور هويتها وثقافتها في ظل تجاذب الثقافات وصراع الحضارات.
ظل تفكيك وتحليل مفهوم الهوية مثار جدل كبير بين أوساط أطياف متنوعة ،والمتابع يدرك أن مصطلح الهوية توزع على حقول معرفية متنوعة كعلم النفس والسياسة والاجتماع والأنثربولوجيا، وهذا التجاذب المفاهيمي يكسب المصطلح دلالات متعددة وتصورات مختلفة تتيح لنا قدرات إبداعية في فهم التنوع الهوياتي
ويرى المفكر محمد عمارة الهوية أن “هوية الإنسان أو الثقافة أو الحضارة هي جوهرها وحقيقتها… هوية الشيء هي ثوابته التي تتجدد ولا تتغير…كالبصمة بالنسبة للإنسان، تتجدد فاعليتها، ويتجلى وجهها كلما أزيلت من فوقها طوارئ الغبار وعوامل الطمس والحجب، دون أن تخلي مكانها ومكانتها لغيرها من البصمات" قد نتفق او نختلف مع رؤية عمارة ولكن الثابت أن الهوية لا تتسم بطابع الثبات والاستمرارية والجمود والتنميط المقصود بل هي كيان بصير يمتلك الصيرورة والتطور وقد يكون مسار الهوية إما في اتجاه الانكماش والضمور والتلاشي ،وإما في اتجاه الانتشار والاندياح وهي تبشر وتشدو بتجارب صناعها وما يكابدونه من مشقات وعنت وعناء ،انتصاراتهم وهزائمهم تطلعاتهم واشواقهم ضمن سياق تاريخي يحتك ويصارع ويتفاعل سلبا او إيجابا مع الهويات الأخرى الثقافية المقابلة التي تختلف معها بدرجة ونوع ما.
وبالتالي تظل الهوية متيقظة دائما ربما تسكن وقت ما ولكنها لا تنام اذا فرضنا النوم موت اصغر فهي لا تموت بل تكون على الدوام تؤرق صاحبها وتحرضه بشدة على تعهدها بالرعاية واستكمال اشتراطاتها الموضوعية والذاتي .
في ص33 ..نقف عند عتبات مقدمة اعترافية ساحقة :"استيقظت من فراشي وكأن لسعة أصابتني ،وبدأت أتمتم سأذهب اليوم ، سأذهب اليوم لا بد أن أربح نفسي نعم سأذهب فقد ضقت ذرعا من هذا الصراع البغيض الذي يجتاحني ..."
من خلال الفقرة يتبدى صراع من نوع غريب بين الذات والوعي واللاوعي وبين المكبوت والظاهر كأنما مدرسة التحليل النفسي الفرويدي تشمخ بكلياتها في وصف الحالة النفسية التي نتجت ضيق الراوي من التحرشات( التي قد تكون جنسية او نفسية لفظية او غير لفظية) والرهانات المستحيلة والمتوقعة(أحلام اليقظة) ،وموقف السارد من هذه الممارسات المخيفة ،وكيف زرعت الخوف في وجدانه منذ الصغر ،وتبدأ جلسة الاعتراف اضطرارا لا اختيارا مخالفا لإجراءات كرسي الاعتراف امام القس في كنيسة ما من حيث المسوغات والاهداف .
المكان هو سوق المغارة ،وفي الاسواق تلتقي كل صنوف البشر الشريف واللص وكل التناقضات ،ربما يكون هذا السوق متخيلا أو ربما يكون له بالفعل وجود موضوعي وو اقعي ، والمستقر ذهنيا أن المكان له الابعاد المعروفة طولا وعرضا وعمقا وارتفاعا ،وتدور الأحداث في أزقته وأروقته وأفيائه حيث الحركة والملامح الإنسانية الحياتية من بيع وشراء وأشياء أخرى ،ولا يخفى دور المكان في تكوين حاضنة تنمو عبرها الشخصية، فكأنما المكان هنا يلد النموذج ويرعاه دون فصل بينهم
وتطل قيمة الحب والألفة بكل عنفوان ليس بين الكائنات الحية فحسب بل تمتد لتشمل الجمادات والأشياء غير العاقلة ، وهذا ما يفسر تلك العاطفة الجياشة بين الصغيرة ومعروضات السوق من مأكولات والعاب ،وتنتقل الحميمية وتتنزل قيمة الحب في تشابك يد الصغيرة مع أمها وهذا لايخرج من ذات الاطار المشار اليه في أن الحب والالفة لا تقتصرا على الادميين ولكن تنداح الى الأفكار والاشياء والأشخاص بدرجات متفاوتة ...في لحظة درامية سريعة فإذا بجيش كسرب النحل أي جيش منظم ومرتب قوي الشوكة يقتحم المغارة يبدو أن الزمن تظله حروب ما ..فتصوير الجند وهم ينفذون مجزرة لم تستثني أحدا ممن اوجده حظه العاثر في السوق في ذاك الا وان ..وانفرط حبل الترابط وعمت الفوضى المكان واستباح الجند الحياة ،ولم تعد الصغيرة تتمتع بالأمان حيث تفرق الناس أيدي سبأ ،فأحيانا قد ننتزع من ملاذاتنا عنوة في حال الموت الذي يحاصرنا ،ويهاجمنا دون استئذان وهو ما تشير اليه عبارة الصغيرة :"أقاوم موتا يتربص بي يميتني مئات المرات ...فالموت كحقيقة يمثل فاجعة نجد هذا الإحساس منتشرا في ثنايا قصص الكاتبة .
لا شك أن ملامح الأرض بعد أن وضعت الحرب اوزارها منظر الدماء والاشلاء و الدموع مؤكد يورث النفس حزنا عميقا ،وجرحا يستعصي على الشفاء ، فأخذت الصغيرة في حوار منولوجي ذاتي توجه نقدا فتقرر استعارة تقنيات السيكولوجي باستخدام الانسحاب والتجاهل وهيهات أن يبعث لها الراحة والاطمئنان ....وهنا يأخذنا إلى مرحلة مختلفة نستشف من خلالها أنه كان غارقا في حلم منامي بالاستناد للعوان (واستيقظت الهوية) فكأنما السارد يروي تفاصيل رؤية منامية في ليلة واحدة ..وفي حوارية نقدية يتنامى النقاش بين السيجارة التي يكسبها صفة الكائن الحي كنوع من الاستعارة المكنية والتصريحية ،وفي النهاية يعلن خصومته على عادة التدخين كأنما يهيب بنا وبالشباب بالإقلاع عن عادة التدخين باعتباره تقهر إرادة الانسان وتخضعه لسلطانها ...ومن بعد تعود الصغيرة إلى فراشها لتظفر بشيء من الراحة النفسية.. ولكن تحاصرها الهواجس من كل ناحية الفوبيا القاتلة من شبح الموت وانطفا بريق الحياة ...فترسل اللعنات على فرويد لانها لم تجد إجابات شافية ووافية في كتاباته وآرائه ...البعد النفسي يتجلى "الان عرفت لماذا نظرتي متناقضة الى فرويد.." وهو عالم النفس الذي حاول أن يجد تفسيرات وتأويلات لسلوك وتصرفات البشر وقد حقق نجاحات لحد ما واخفق في الكثير بيد أنه بمقولاته ودراساته منحنا ريتاجا لفهم تعقيدات الذات والانا والهو حسب ما ينقدح في أذهاننا من صور
تحليل:
بداية جاذبة وأنيقة تحرضك لمعرفة التفاصيل ،وتثير فضولك لاكتشاف ما تريد ارساله الكاتب /الكاتبة من رسائل للإصلاح أو التغيير .ولا أتصور يجانبني الصواب أن قلت لقد نجحت تضمين من الرسائل القوية المنطقية التي تهدف الى معالجة الواقع بأسلوب ادبي رصين ،لاسيما بعد فشل الساسة والمتنفذين من احياء المارد وايقاظه من سباته ،وبعث الروح فيه رغم الآمال العراض التي انعقدت عليه ،وهكذا دور الكاتب بشيء من الخيال والواقع يحاول نشر خطاباته المهمة والموحية هادفا قرع جرس الخطر في تجربة استباقية قبل أن يسقط وينهار المعبد بمن فيه
في تصوري أن ما تحتاجه المبدعة (أي مبدعة) في المجتمعات النامية هو تحفيز وتخليق القناعة في داخلها بأنها مبدعة حقيقية ، وأن مصائر وأقدار المبدعين مختلفة عن الآخرين ، ولن يتم ذلك الا عبر تفكيك الصور الذهنية النمطية ( فيما يتعلق بالذكورية أو الانثوية ) ونسفها ،واحلال قناعات جديدة تتسم بالنضج وتتجاوز مسألة الهوية الجندرية الاجتماعية المعلبة إلى رحاب الهوية الإبداعية .
لغة السرد:
حافظت القصة بلغة سردية شعرية أنيقة تتناثر كما الورد في الرياض النضيرة دون تكلف ولا شطط مستفيدة من تقنيات القصة القصيرة دون استغراق في البوح الذاتي الذي يحور شكل القصة (العمل الادبي) الى مناجاة ذاتية محضة تتخندق حول الفرد ومشاغله الصغيرة، والسرد عادة يعتمد على الوصف الدقيق والتصوير المبدع وبناء العلاقات التعبيرية في اطار مرن قادر على انتاج الأحداث والأنماط ويصنع الشخوص ، ويولد المعاني ويقود الحوار المنبثق عنها ،مقررا ارتباطها بالخارج
ويأتي الزمان والمكان ...وهما وسيلتا النص في تعيين المعيار الفني في هذا التشكيل وتحديد مسيرة النص ورمزيته ودلالاته، ومن هنا فإن دلالات التصوير هي التشكيل الذى يؤدى هذه الأدوار ويقيم الوظائف داخل البناء السردي، ويطرح الوقائع والمتغيرات التي تنتج عن مخيلة الكاتب وتجربته التي يستعرضها في دلالات التعبير ووقائع النص.
رغم حرص الكاتبة ووعيها و عنايتها باللغة والمفردات برزت بعض الأخطاء الإملائية من نحو: سقوط بعض همزات القطع من الكلمات مثل الملا: الملأ ص33، وضع علامة ترقيم (فاصلة)بعد كلمة ورهاناتهم ـ كلمة مأكولات: مأكولات فقموا تقيلا والصواب (تقتيلا) ، كلمة بالون :باللون أخرى: أخرى ص34، الى :إلى، الفرااش: الفراش، ص35، الان: الآن ، انا :أنا ص36. ولا شك أن هذه الأخطاء قد تكون سقطت سهوا في الطباعة فقط نبرزها هنا من باب تجويد العمل واتقانه.
عموما الفكرة في منتهى الروعة في أن تتبلور الرؤية المنامية في شكل قصة جيدة الحبك والسبك ومتناغمة لاترى فيها عوجا ولا أمتا ...هذا ما يشعرنا بأن الكاتبة تبشر بميلاد أعمال إبداعية كاملة الدسم في مقبل الأيام ،وهذه التباشير لا نسوقها جزافا ولكن نستند على ما يتوفر من قدرات حقيقية للكاتبة .
نبذة عن الكاتبة
اضاءات حول قصة استيقظت الهوية!!!وهي واحدة من المجموعة القصصية للكاتبة الشابة :جيهان عمر محمد عثمان ـ
المكان:جمهورية السودان.لها مشاركات متعددة في مجال القصة القصيرة والاقصوصة (ق ق ج) كما فازت بقصتها (سيتيت العائد) بجائزة وطنية ،ولها دراسات أكاديمة في اللغة والتدريس، ناشطة في مجال النهوض والارتقاء بالذائقة الادبية نثرا ونظما عبر المنتديات والصحف الثقافية المحلية
مدخل:
حري بنا ونحن نحاول تفكيك هذا النص وتحليله ،أن نتوقف وقفة استبصارية اسكشافية عند مفتتح القصة وتصديرها الذي يتمحور حول الوقت والحياة .
في الحياة الواحدة ثمة حيوات كثيرة نعيشها وربما لا ندركها أبدا. يخيل لنا باستمرار أن حياتنا وحدة متكاملة غير متغايرة مع نفسها من المهد إلى اللحد، والحال أننا نعيش تغايرا ضمن هذه الوحدة وحدة الأنا... سألني صديقي عن أهم كتاب قرأته، أي النص الذي صحبني سنوات. قلت هناك كتب بعدد الحيوات التي عشتها بل هي علامة هذه التحولات،وهذه الكتب كان لها دور دينامي في عبوري من حياة لأخرى، لأن النص الحقيقي أو الكتاب الحقيقي هو ذاك الذي وبعد أن تنتهي من قراءته وتضعه جانباً يستمر معك وبالتالي لا تعود أنت بالضبط الذي كنته قبل مباشرتك قراءته.
هكذا في رأيي تتحدد قيمة النصوص الكبرى بمدى استمرارها معنا، وهي في ذات الوقت تفعل شيئاً فينا، وبالتالي في مصيرنا... هل أستعير لغة الإنثربولوجيين وأقول الكتاب الذي تأثرت به هو ذاك الذي لعب دور طقس تحول وعبور في حياتك من حياة إلى أخرى.
بيد أنه هو الكتاب أيضاً الذي يشكل رمزياً سلطة شبيهة بسلطة الأب ويدفعك إلى معايشة تجربة تنطوي على مفارقة فريدة ومكابدة عسيرة تتمثل في النزوع إلى التأثر به وفي الآن الرغبة في التخلص من هذا التأثر لتصل إلى كتابة نصك الخاص هنا تأتي جملة غوتة الشهيرة: «كن رجلا ولا تتبع خطواتي».
والأمر لايرجع فقط لقيمة النص وعمقه لأن القراءة عملية مشتركة تفاعل بين النص والقارئ. ثمة قراءة التلقي السلبي وثمة قراءة هي إعادة خلق للنص بحيث يخلق القارئ نصه وهي القراءة الإبداعية والنادرة.أيضاً هناك القراءة الأخرى المهلكة وهي التي يقول عنها مارسيل بروست الخطر في القراءة لا يكمن في عدم الفهم والاستيعاب الدقيق، وإنما يتمثل الخطر الأكبر في الفهم الخاطئ لما نقرأ.
خليق بنا أن نقر ونعترف أن هناك العديد من النعم التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها على عباده، من بينها نعمة الوقت، فهو المحور الرئيسي في حياة الإنسان، منذ لحظة ولادته حتى وفاته، ولأهمية الوقت العظمى فقد أقسم الله سبحانه وتعالى به في القرآن الكريم، وطلب من الإنسان الحفاظ عليه واستغلاله بشكل سليم، بما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة، لأنه من الأمور التي يسأل عنها الإنسان يوم القيامة.
قمة الادهاش والابهار حين تلتقط نص التصدير " الأوقات حيـوات ؛توهب بعطاء وتنتزع بلا استئذان " هنا نلحظ إشارة حكيمة فيما يلي الوقت الذي يمثل جوهر الحياة ،فن إدارة يقتضي التعامل معه بوعي ،ومن الواجب إعادة تشكيله وفهمه حتى نلحق بركب من سبقونا حضاريا وما كان لهم ذلك السباق والريادة الا بعنايتهم بالأوقات وحسن إدراتها ،وهذا لن يتأتى مالم تتوفر إرادة حقيقة لاستنزال مفهوم استراتيجية إدارة الوقت ،فهي حيوات جمع حياة ،وحري بنا أن نستشعر أهمية الوقت ،وما الإنسان إلا رحلة زمنية تبدأ بصرخة الميلاد وتنتهي بشهقة الممات ،والمسافة بين الميلاد والممات مساحة رحيبة يجب أن تملأ بالمواقف الإيجابية المفيدة وهو ما تشير اليه الكتاب في كون العطاء اللامحدود هو ما يجعل هبة الأوقات تعمر بعطاء فاذا اخفقنا في اغتنام الفرصة وفشلنا في رفد الحياة بالجمال والحق والخير سوف تنزع منا الأوقات بالموت الذي يباغتنا بلا استئذان ،حقيقة هذا التصدير يمثل رسالة قوية للعناية بالوقت وتطويعه فيما يعود بالنفع والفائدة للكون والانسان
في الواقع أن القصة القصيرة هي عبارة عن فن تكثيف الموضوع في عبارات الايجاز،وفي تقديري أن هذا المدخل يمنحنا قناديل استكشاف ما وراءه من رؤى وحيثيات وجدل وحراك ..فهو يشير إلى مسألة الهوية التي ظن الإنسان في وقت ما أنّ التخلص من خصوصية الانتماء وإلغاء الهوية في ظل العولمة أمر هين. لكن القلب يظل مترقبا لحظة مؤاتية تتيح له العودة للجذور والأصول ، فيغزل صوراً ومشاعر يداوي بها فقده للوطن المكتمل وحاجته الملحة للانتماء.
ومن ناحية أخرى نجد الأمم والشعوب بحاجة ملحة وضرورية إلى السرد لإثبات ذاتها ووجودها وترسيخ جذور هويتها وثقافتها في ظل تجاذب الثقافات وصراع الحضارات.
ظل تفكيك وتحليل مفهوم الهوية مثار جدل كبير بين أوساط أطياف متنوعة ،والمتابع يدرك أن مصطلح الهوية توزع على حقول معرفية متنوعة كعلم النفس والسياسة والاجتماع والأنثربولوجيا، وهذا التجاذب المفاهيمي يكسب المصطلح دلالات متعددة وتصورات مختلفة تتيح لنا قدرات إبداعية في فهم التنوع الهوياتي
ويرى المفكر محمد عمارة الهوية أن “هوية الإنسان أو الثقافة أو الحضارة هي جوهرها وحقيقتها… هوية الشيء هي ثوابته التي تتجدد ولا تتغير…كالبصمة بالنسبة للإنسان، تتجدد فاعليتها، ويتجلى وجهها كلما أزيلت من فوقها طوارئ الغبار وعوامل الطمس والحجب، دون أن تخلي مكانها ومكانتها لغيرها من البصمات" قد نتفق او نختلف مع رؤية عمارة ولكن الثابت أن الهوية لا تتسم بطابع الثبات والاستمرارية والجمود والتنميط المقصود بل هي كيان بصير يمتلك الصيرورة والتطور وقد يكون مسار الهوية إما في اتجاه الانكماش والضمور والتلاشي ،وإما في اتجاه الانتشار والاندياح وهي تبشر وتشدو بتجارب صناعها وما يكابدونه من مشقات وعنت وعناء ،انتصاراتهم وهزائمهم تطلعاتهم واشواقهم ضمن سياق تاريخي يحتك ويصارع ويتفاعل سلبا او إيجابا مع الهويات الأخرى الثقافية المقابلة التي تختلف معها بدرجة ونوع ما.
وبالتالي تظل الهوية متيقظة دائما ربما تسكن وقت ما ولكنها لا تنام اذا فرضنا النوم موت اصغر فهي لا تموت بل تكون على الدوام تؤرق صاحبها وتحرضه بشدة على تعهدها بالرعاية واستكمال اشتراطاتها الموضوعية والذاتي .
في ص33 ..نقف عند عتبات مقدمة اعترافية ساحقة :"استيقظت من فراشي وكأن لسعة أصابتني ،وبدأت أتمتم سأذهب اليوم ، سأذهب اليوم لا بد أن أربح نفسي نعم سأذهب فقد ضقت ذرعا من هذا الصراع البغيض الذي يجتاحني ..."
من خلال الفقرة يتبدى صراع من نوع غريب بين الذات والوعي واللاوعي وبين المكبوت والظاهر كأنما مدرسة التحليل النفسي الفرويدي تشمخ بكلياتها في وصف الحالة النفسية التي نتجت ضيق الراوي من التحرشات( التي قد تكون جنسية او نفسية لفظية او غير لفظية) والرهانات المستحيلة والمتوقعة(أحلام اليقظة) ،وموقف السارد من هذه الممارسات المخيفة ،وكيف زرعت الخوف في وجدانه منذ الصغر ،وتبدأ جلسة الاعتراف اضطرارا لا اختيارا مخالفا لإجراءات كرسي الاعتراف امام القس في كنيسة ما من حيث المسوغات والاهداف .
المكان هو سوق المغارة ،وفي الاسواق تلتقي كل صنوف البشر الشريف واللص وكل التناقضات ،ربما يكون هذا السوق متخيلا أو ربما يكون له بالفعل وجود موضوعي وو اقعي ، والمستقر ذهنيا أن المكان له الابعاد المعروفة طولا وعرضا وعمقا وارتفاعا ،وتدور الأحداث في أزقته وأروقته وأفيائه حيث الحركة والملامح الإنسانية الحياتية من بيع وشراء وأشياء أخرى ،ولا يخفى دور المكان في تكوين حاضنة تنمو عبرها الشخصية، فكأنما المكان هنا يلد النموذج ويرعاه دون فصل بينهم
وتطل قيمة الحب والألفة بكل عنفوان ليس بين الكائنات الحية فحسب بل تمتد لتشمل الجمادات والأشياء غير العاقلة ، وهذا ما يفسر تلك العاطفة الجياشة بين الصغيرة ومعروضات السوق من مأكولات والعاب ،وتنتقل الحميمية وتتنزل قيمة الحب في تشابك يد الصغيرة مع أمها وهذا لايخرج من ذات الاطار المشار اليه في أن الحب والالفة لا تقتصرا على الادميين ولكن تنداح الى الأفكار والاشياء والأشخاص بدرجات متفاوتة ...في لحظة درامية سريعة فإذا بجيش كسرب النحل أي جيش منظم ومرتب قوي الشوكة يقتحم المغارة يبدو أن الزمن تظله حروب ما ..فتصوير الجند وهم ينفذون مجزرة لم تستثني أحدا ممن اوجده حظه العاثر في السوق في ذاك الا وان ..وانفرط حبل الترابط وعمت الفوضى المكان واستباح الجند الحياة ،ولم تعد الصغيرة تتمتع بالأمان حيث تفرق الناس أيدي سبأ ،فأحيانا قد ننتزع من ملاذاتنا عنوة في حال الموت الذي يحاصرنا ،ويهاجمنا دون استئذان وهو ما تشير اليه عبارة الصغيرة :"أقاوم موتا يتربص بي يميتني مئات المرات ...فالموت كحقيقة يمثل فاجعة نجد هذا الإحساس منتشرا في ثنايا قصص الكاتبة .
لا شك أن ملامح الأرض بعد أن وضعت الحرب اوزارها منظر الدماء والاشلاء و الدموع مؤكد يورث النفس حزنا عميقا ،وجرحا يستعصي على الشفاء ، فأخذت الصغيرة في حوار منولوجي ذاتي توجه نقدا فتقرر استعارة تقنيات السيكولوجي باستخدام الانسحاب والتجاهل وهيهات أن يبعث لها الراحة والاطمئنان ....وهنا يأخذنا إلى مرحلة مختلفة نستشف من خلالها أنه كان غارقا في حلم منامي بالاستناد للعوان (واستيقظت الهوية) فكأنما السارد يروي تفاصيل رؤية منامية في ليلة واحدة ..وفي حوارية نقدية يتنامى النقاش بين السيجارة التي يكسبها صفة الكائن الحي كنوع من الاستعارة المكنية والتصريحية ،وفي النهاية يعلن خصومته على عادة التدخين كأنما يهيب بنا وبالشباب بالإقلاع عن عادة التدخين باعتباره تقهر إرادة الانسان وتخضعه لسلطانها ...ومن بعد تعود الصغيرة إلى فراشها لتظفر بشيء من الراحة النفسية.. ولكن تحاصرها الهواجس من كل ناحية الفوبيا القاتلة من شبح الموت وانطفا بريق الحياة ...فترسل اللعنات على فرويد لانها لم تجد إجابات شافية ووافية في كتاباته وآرائه ...البعد النفسي يتجلى "الان عرفت لماذا نظرتي متناقضة الى فرويد.." وهو عالم النفس الذي حاول أن يجد تفسيرات وتأويلات لسلوك وتصرفات البشر وقد حقق نجاحات لحد ما واخفق في الكثير بيد أنه بمقولاته ودراساته منحنا ريتاجا لفهم تعقيدات الذات والانا والهو حسب ما ينقدح في أذهاننا من صور
تحليل:
بداية جاذبة وأنيقة تحرضك لمعرفة التفاصيل ،وتثير فضولك لاكتشاف ما تريد ارساله الكاتب /الكاتبة من رسائل للإصلاح أو التغيير .ولا أتصور يجانبني الصواب أن قلت لقد نجحت تضمين من الرسائل القوية المنطقية التي تهدف الى معالجة الواقع بأسلوب ادبي رصين ،لاسيما بعد فشل الساسة والمتنفذين من احياء المارد وايقاظه من سباته ،وبعث الروح فيه رغم الآمال العراض التي انعقدت عليه ،وهكذا دور الكاتب بشيء من الخيال والواقع يحاول نشر خطاباته المهمة والموحية هادفا قرع جرس الخطر في تجربة استباقية قبل أن يسقط وينهار المعبد بمن فيه
في تصوري أن ما تحتاجه المبدعة (أي مبدعة) في المجتمعات النامية هو تحفيز وتخليق القناعة في داخلها بأنها مبدعة حقيقية ، وأن مصائر وأقدار المبدعين مختلفة عن الآخرين ، ولن يتم ذلك الا عبر تفكيك الصور الذهنية النمطية ( فيما يتعلق بالذكورية أو الانثوية ) ونسفها ،واحلال قناعات جديدة تتسم بالنضج وتتجاوز مسألة الهوية الجندرية الاجتماعية المعلبة إلى رحاب الهوية الإبداعية .
لغة السرد:
حافظت القصة بلغة سردية شعرية أنيقة تتناثر كما الورد في الرياض النضيرة دون تكلف ولا شطط مستفيدة من تقنيات القصة القصيرة دون استغراق في البوح الذاتي الذي يحور شكل القصة (العمل الادبي) الى مناجاة ذاتية محضة تتخندق حول الفرد ومشاغله الصغيرة، والسرد عادة يعتمد على الوصف الدقيق والتصوير المبدع وبناء العلاقات التعبيرية في اطار مرن قادر على انتاج الأحداث والأنماط ويصنع الشخوص ، ويولد المعاني ويقود الحوار المنبثق عنها ،مقررا ارتباطها بالخارج
ويأتي الزمان والمكان ...وهما وسيلتا النص في تعيين المعيار الفني في هذا التشكيل وتحديد مسيرة النص ورمزيته ودلالاته، ومن هنا فإن دلالات التصوير هي التشكيل الذى يؤدى هذه الأدوار ويقيم الوظائف داخل البناء السردي، ويطرح الوقائع والمتغيرات التي تنتج عن مخيلة الكاتب وتجربته التي يستعرضها في دلالات التعبير ووقائع النص.
رغم حرص الكاتبة ووعيها و عنايتها باللغة والمفردات برزت بعض الأخطاء الإملائية من نحو: سقوط بعض همزات القطع من الكلمات مثل الملا: الملأ ص33، وضع علامة ترقيم (فاصلة)بعد كلمة ورهاناتهم ـ كلمة مأكولات: مأكولات فقموا تقيلا والصواب (تقتيلا) ، كلمة بالون :باللون أخرى: أخرى ص34، الى :إلى، الفرااش: الفراش، ص35، الان: الآن ، انا :أنا ص36. ولا شك أن هذه الأخطاء قد تكون سقطت سهوا في الطباعة فقط نبرزها هنا من باب تجويد العمل واتقانه.
عموما الفكرة في منتهى الروعة في أن تتبلور الرؤية المنامية في شكل قصة جيدة الحبك والسبك ومتناغمة لاترى فيها عوجا ولا أمتا ...هذا ما يشعرنا بأن الكاتبة تبشر بميلاد أعمال إبداعية كاملة الدسم في مقبل الأيام ،وهذه التباشير لا نسوقها جزافا ولكن نستند على ما يتوفر من قدرات حقيقية للكاتبة .