أتابع منذ فترة ليست بالطويلة إبداعات الأستاذ محمود سلطان وبخاصة في قصصه القصيرة.
وفي قصته " زير الحاجة زُهرة" لفتني العنوان، وكقروي عاش الريف أعادني إلى الزمن الجميل الذي مثَّل فيه "الزير" ثلاجة أو مبردة ذاك الزمان وكذلك اختياره لاسم "الحاجة زُهرة" أحاطني بمعانٍ تجمع بين الأمومة والطهر فهي عمتي، خالتي، وهي أمي.
بتلك العتبة دلفت إلى النص فبدا لي أن الأمر أبعد من ذلك بكثير وتملكتني مشاعر اللذة والإثارة، فالنص محمل بالرموز والإشارات ما يفتحه على دلالات أعمق من المعاني الظاهرة.
"فالرمز أكثر امتلاء وأبلغ تأثيرا من الحقيقة الواقعة، إذ هو أكثر شعبية منها فهو ماثل في الخرافات والأساطير والحكايات والنكات وكل المأثور الشعبي. والتفاهم بطريق الرمز بين الناس شيء مألوف. والناس يلتقون عند الرمز لأنه أثر للتراث السحري؛ فهو يأسرهم ويجذبهم إليه بقوة لا تجذبهم بها الحقيقة الواقعة»*.
فزُهرة سلطان هي "بهية" الفاجومي، هي مصر حيث يصفها نجم بصورة مباشرة:
مصر يا امّة يا بهية يام طرحة و جلابية
الزمن شاب و انتي شابة هو رايح و انتي جاية
نجد سلطان يرسمها صاحبة الزير التي تضعه نظيفا عليه الكوز النحاسي اللامع سبيلا للشاربين، وهي تنشر الحب والسلام للجار وكل جار، وترحب بالعلم وتبش له "العارف بالله البوهي وتلاميذه".
وهي ناشرة النور بمصباحها العتيق.
والقصة مشحونة بالرموز:
زهرة/بهية/مصر
الزير/العطاء/ النيل
اللمبة/ النور
الكتاب/ العلم والدين.
هد الدار/ فناء
الأفاعي/ العطب.
وهكذا تعددت رموز القاص ما بين الرمز التراثي كالزير ولمبة الجاز والرمز الأسطوري ممثلا بالجني أو عفريت الحاجة زهرة والذي يلقي بنفسه في الترعة لتخرج حورية البحر نصفها يشبه "زهرة" وذيلها وكأنه "الزير".
- أسطورة الجني بين سحر الخيال وواقع الإعلام!
وإذا كانت زهرة هي مصر، فنشر أسطورة الجنية واستغلالها لصرف الأولاد عن دارها ونبذ العلم ومحاربة الكتاب هو واقع نحياه في العديد من وسائل إعلامنا والتي باتت تتلاعب بعقول العامة بين حكاوي الجن والعفاريت وقاريء الطالع والخرافات!
وبجوار الإعلام المضلل لا ينسى أديبنا "مدعي الدين المزيف" من يرون " اللمبة ضلالة وكل ضلالة في النار، تُغري على السهر وتلهي عن قيام الليل".
و"عصارة القصب" هي رمز شخصي للقاص، فمع حبي لعصير القصب فالعصارة هنا صارت رمزا لانتهاك الجميل: /الدار/ الكتاب، وطردا للأمل/ تلاميذ العارف بالله البوهي!
وآهٍ وألف آهٍ لمن حطم الزير، فزيرنا نيلٌ فيه الحياة نفتديه بكل غالٍ ونفيس!
جعلنا الكاتب نشم رائحة تراب القرية من خلال مفردات: الحمار، الغبيط، السباخ، وشجرة الجُميز العتيقة.
واللافت للنظر أن الناطق الوحيد بلسانه في القصة بخلاف السارد هي شخصية "الحاجة زهرة" فهي "البطل" بامتياز حيث هي من تنشر "صباح الخير يا ام سيد" وهي من تقول للعارف بالله: "اختار ما شئت يا مولانا"، والشخصيات الأخرى تتوارى من خلال قالوا، والحكي عنهم.
وإن أحسست بالحيرة بين الفصحى والعامية في الحوار فزهرة ستنطق "ام سيد" إن كان بالعامية و "اختر ما شئت يا مولانا" إن كان بالفصحى!
وأحسب أن وصف تحطم الزير "جذاذا" بديلا عن "إربًا" سيكون أكثر وقعا.
وعلى الإجمال فقاصنا دوما يطل علينا من نسق ثقافي مضمر ملؤه حب الوطن والسعي في رقيه ورفعته.
*د.عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية. بيروت، دار العودة ودار الثقافة، ط 2/1972، ص. 138-139
وفي قصته " زير الحاجة زُهرة" لفتني العنوان، وكقروي عاش الريف أعادني إلى الزمن الجميل الذي مثَّل فيه "الزير" ثلاجة أو مبردة ذاك الزمان وكذلك اختياره لاسم "الحاجة زُهرة" أحاطني بمعانٍ تجمع بين الأمومة والطهر فهي عمتي، خالتي، وهي أمي.
بتلك العتبة دلفت إلى النص فبدا لي أن الأمر أبعد من ذلك بكثير وتملكتني مشاعر اللذة والإثارة، فالنص محمل بالرموز والإشارات ما يفتحه على دلالات أعمق من المعاني الظاهرة.
"فالرمز أكثر امتلاء وأبلغ تأثيرا من الحقيقة الواقعة، إذ هو أكثر شعبية منها فهو ماثل في الخرافات والأساطير والحكايات والنكات وكل المأثور الشعبي. والتفاهم بطريق الرمز بين الناس شيء مألوف. والناس يلتقون عند الرمز لأنه أثر للتراث السحري؛ فهو يأسرهم ويجذبهم إليه بقوة لا تجذبهم بها الحقيقة الواقعة»*.
فزُهرة سلطان هي "بهية" الفاجومي، هي مصر حيث يصفها نجم بصورة مباشرة:
مصر يا امّة يا بهية يام طرحة و جلابية
الزمن شاب و انتي شابة هو رايح و انتي جاية
نجد سلطان يرسمها صاحبة الزير التي تضعه نظيفا عليه الكوز النحاسي اللامع سبيلا للشاربين، وهي تنشر الحب والسلام للجار وكل جار، وترحب بالعلم وتبش له "العارف بالله البوهي وتلاميذه".
وهي ناشرة النور بمصباحها العتيق.
والقصة مشحونة بالرموز:
زهرة/بهية/مصر
الزير/العطاء/ النيل
اللمبة/ النور
الكتاب/ العلم والدين.
هد الدار/ فناء
الأفاعي/ العطب.
وهكذا تعددت رموز القاص ما بين الرمز التراثي كالزير ولمبة الجاز والرمز الأسطوري ممثلا بالجني أو عفريت الحاجة زهرة والذي يلقي بنفسه في الترعة لتخرج حورية البحر نصفها يشبه "زهرة" وذيلها وكأنه "الزير".
- أسطورة الجني بين سحر الخيال وواقع الإعلام!
وإذا كانت زهرة هي مصر، فنشر أسطورة الجنية واستغلالها لصرف الأولاد عن دارها ونبذ العلم ومحاربة الكتاب هو واقع نحياه في العديد من وسائل إعلامنا والتي باتت تتلاعب بعقول العامة بين حكاوي الجن والعفاريت وقاريء الطالع والخرافات!
وبجوار الإعلام المضلل لا ينسى أديبنا "مدعي الدين المزيف" من يرون " اللمبة ضلالة وكل ضلالة في النار، تُغري على السهر وتلهي عن قيام الليل".
و"عصارة القصب" هي رمز شخصي للقاص، فمع حبي لعصير القصب فالعصارة هنا صارت رمزا لانتهاك الجميل: /الدار/ الكتاب، وطردا للأمل/ تلاميذ العارف بالله البوهي!
وآهٍ وألف آهٍ لمن حطم الزير، فزيرنا نيلٌ فيه الحياة نفتديه بكل غالٍ ونفيس!
جعلنا الكاتب نشم رائحة تراب القرية من خلال مفردات: الحمار، الغبيط، السباخ، وشجرة الجُميز العتيقة.
واللافت للنظر أن الناطق الوحيد بلسانه في القصة بخلاف السارد هي شخصية "الحاجة زهرة" فهي "البطل" بامتياز حيث هي من تنشر "صباح الخير يا ام سيد" وهي من تقول للعارف بالله: "اختار ما شئت يا مولانا"، والشخصيات الأخرى تتوارى من خلال قالوا، والحكي عنهم.
وإن أحسست بالحيرة بين الفصحى والعامية في الحوار فزهرة ستنطق "ام سيد" إن كان بالعامية و "اختر ما شئت يا مولانا" إن كان بالفصحى!
وأحسب أن وصف تحطم الزير "جذاذا" بديلا عن "إربًا" سيكون أكثر وقعا.
وعلى الإجمال فقاصنا دوما يطل علينا من نسق ثقافي مضمر ملؤه حب الوطن والسعي في رقيه ورفعته.
*د.عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية. بيروت، دار العودة ودار الثقافة، ط 2/1972، ص. 138-139