نحن نكتب أنفسنا، نضع على الورق كل الأوجاع، وتصبح الورقة البيضاء هي واحة الراحة بعد غربتنا الصحراوية داخل أنفسنا أو على أرض البشر، تصبح الورقة ذلك البساط السحري، تنقلك لكل مكان وفي أي زمان، ترتد وتجلس بسببها داخل بطن أمك وتشعر باتساع الكون الرحب، أو تصعد بك للنجوم وتصادقها وتجلس ترتشف الشاي على حافة القمر، ثم تتجول في الشوارع والمزارع والصحاري والطرقات والكباري وتشعر حينئذ أن رحم أمك أكثر اتساع ورحابة ودفء وعطف، لكن من منا يستطيع أن يخلع كل ملابسه وأفكاره وأوجاعه وشقاوته ويفعل هذا!!،
أن تصل لمرحلة الطهر والعري والتكشف، أن تكون أنت.. أنت، ذاتك وروحك وأفكارك وخصوصيتك ومغامرتك، تكون صادقاً وصريحاً وجريئاً، لا تخاف من أي شيء ومن كل شيء، تصبح أبيض كاللبن الحليب، يفسدك ويعكرك أي فعل أو كلام أو أفكار سامة أو دخان وشاية أو سخرية خبيثة، إذا وصلت في يوم من الأيام لهذه المرحلة فأنت إذاً أمي : نعمات البحيري.
لو قلت أن حالة العري والطهر والبراءة التي عشتها مع نعمات البحيري في آخر أيام أو سنوات عمرها، هي ما جعلتني أكتب واكتشف ذاتي وأفكاري، لن يصدق أحد أن تلك الصورة التي تعلوا تلك الكلمات، كانت لإنسانه مرت على حياتي، نقشت أيام وذكريات وأوجاع وتأوهات على روح ذاتي وتعاريج عقلي وفي بئر قلبي، اسمها نعمات محمد مرسي البحيري، والشهيرة بنعمات البحيري.
لكن التجربة التي جعلت الورقة أرض نجاه وسفينة إنقاذ، كانت تجربة قاسية، لم أرِ نعمات البحيري، بل إنني ذهبت إليها مرغماً ( دعك مما في عقلك الشيطاني )، كان ذلك عندما وجدت لها قصتين أحدهما في مجلة دبي الثقافية والأخرى في مجلة العربي الكويتية، أخرجت نوتة تليفونات والدي مستجاب واتصلت بالرقم الموجود، جاءني صوت امرأة لم تستيقظ بعد ( وأنا أحب أن أهاجم فريستي عند أول شعاع للشمس ): مين معايا.. أفندم، أرد أنا في بعض القلق الصبياني: صباح الخير.. دايماً منورة ..أنا محمد، يعود صوتها في استفسار وشبة قلق: محمد مين ع الصبح، أنا محمد محمد مستجاب، صمت لحظات، بكاء، ثم صرخة فرحــة: يابن الأية….. أنت فين يا واد.. وأبوك كان مخبيك فين.. آه من مستجاب..
كنا في الشهور الأخيرة من عام 2005 عندما حدثت تلك المحادثة وحتى آخر يوم في حياتها، ولن اذكره، لان حياتها مستمرة معي للأن ولا أريد أن ترحـــل أو تنقطع ذكرياتي معها، كما إنني لم أفكر في الكتابة عنها، ولا أعرف لماذا، لي معها ذكريات مجنونة لو كتبتها لتغيرت أمور كثيرة في حياتي على الأقل.
ذهبت إلى شقتها ذات يوم، وقلت لها سوف أكتب عنك مقالا بعنوان ” الكاتبة القرفصاء ” وأذكر فيه كم أنت كاتبة عظيمة وكل الوقائع التي عشتها معك، ضحكت وقالت لي: لماذا لا تأخذني نشاهد الجبل.
جبل مستجاب ونعمات
ربما لا يعرف أحد، أن الجبل الرابض أو الملقي أو الباقي عند مدخل مدينة 6 أكتوبر، هو جبل محمد ونعمات، أو جبل نعمات البحيري فقط، وكم – لا يزال يكافح – هذا الجبل رغم صغره وعدم ارتفاعه لأكثر من خمسة وسبعين متراً فقط، كل هجوم من جينرلات نادي 6 أكتوبر أو موظفي جهاز المدينة أو زحف أصحاب المولات الفارهة الذين نهشوا كل الطريق الصحراوي الممتد من المحور إلى مدينة 6 أكتوبر، ولم يبقي في وجه الجميع صامد إلا – جبل نعمات- كنا نذهب إليه بسيارتها البيضاء الصغيرة ( فله )، تلك السيارة التي اشترتها من أموالها الخاصة، كانت كما ذكرت ليّ، إنها استمرت ( تحوش ) وتجمع النقود من فتات القصص والمقالات وتخزن كل هذه الأموال البسيطة حتى استطاعت شراء ( فله )، كنا نذهب للجبل دائماً في وقت الغروب، نقف بجواره أو نصعده وأساعدها في ذلك، معنا علب كشري أو لب أو زجاجات الحاجة الساقعة، أو نجلس على الرصيف أمامه، ظهرنا للسيارات ووجهنا إلى الجبل وفي نهاية الأفق الشمس التي تهبط، وكنت وقتها اندهش من تلك القصة العجيبة، ( قصة حب ) بين شاب لا يمتلك شيء في بداية حياته وكله طموح بالإضافة إلى العناد الصعيدي وامرأة كالجبل الذي نقف أمامه يستهلكها المرض ويلتهم منها ما يشاء في نعومة ووحشية معني الالتهام، امرأة بثدي واحد في منتصف الخميس وشاب في بداية الثلاثين من عمره، وشمس غاربة في نهاية الأرض، حتى الآن أراها هناك وألتقي بها واقرأ الفاتحة على روحها، ولا زالت اخشي أن اذهب إليه الآن وحيداً، وكأنه أصبح مُوحش ومرتفع وكأنه عائق لا أستطيع اجتيازه أو عبوره، لكنني أعرف أنها هناك صامدة وتحيي، وأفكر أنه عندما يتم أزاحه أو تدمير هذا الجبل، سوف أعلم حينئذ أن نعمات ماتت.
بعد ذلك كنا نترك أو نهبط من على – جبل نعمات – ونتجه – بفله – إلى أي مكان، فقد كانت الأماكن الأساسية لنا ( اتحاد الكتّاب ومستشفي معهد ناصر أو المفاعل الذري كما كنت أراه أو مكتبات وسط البلد والأتيلية )، كانت نعمات ترتبك في البداية عندما تلتقي بها إحدي الأديبات بسبب وجودي معها، فلا يكون أمام نعمات وهي تعرفني بالأصدقاء : ده ابن مستجاب بس بالإفرنجي.. مودرن يعني.. بس كله روح مستجاب.. اللي خلف ممتش، وبعد أن نترك من نقابل، تهمس في أذني كأنها ابنه الجيران التي أخرج معها خلسة: أنت عارف يا واد.. محدش سايب حد في حاله، بس عينها كانت هاتطلع عليك، نضحك ونعود ونركب فله ونتجه إلى المول الشهير على الطريق الصحراوي، نشتري أشياءنا، ونضحك لأننا استطعنا أن نأكل من بعض قطع الشيكولاته، كانت أعينا هاتطلع عليها، وخارج المول يقف بائع بطاطا نشتري منه ثم نذهب إلى شقتها، تغلق باب الشقة وتقول لي: لو قال الناس إنه حب: موافقة، زواج، أيضا موافقة، أضحك وأقول لها: لماذا لا تقولي ابنك، تضحك وتخبطني في صدري، أنا لسه صغيرة وحلوه ..
ثم تجلس وقد شعرت بالتعب وتحكي نعمات: الوسط الأدبي كان يطلق عليّ أنثي مستجاب أو بمعني أدق ( نتاية مستجاب ) عشان كنت بخربش واعض وأهاجم، أضحك، ثم تكمل: أبوك كان صادم، شرس قوي، بس كان على حق، والحياة دي عايزة واحد زيه، وكان زعلان ويزعق أن الجميع يريد أن يخرج من عباءة نجيب محفوظ فقط، ثم تتنهد وتشرب رشفة من الماء، لان الألم بدأ ينتابها ويعاود ضرب جسدها النحيل، أدخلها غرفتها، وأضعها في الفراش، وأضبط لها الوسائد، وأفتح لها التليفزيون الذي اشتريناه من عرض للتخفيضات من المول وقد صعدت به على كتفي لشقتها، تمسك يدي ، أربت على كتفها وادعوا لها أن تنام، تضحك وتقول لي: لو قابلتك من تلاتين سنة كنت تزوجتك، أحاول أن أهرب من نظراتها، ثم تنبهني إلى أنه في الغد يجب أن نذهب إلى المستشفي، وأنه يجب أن ننتهي من روايتها ( يوميات امرأة مشعة)، وإنها تريد أن تكلم والدتها، أقول لها بعد أن نعود من المستشفي نعمل كل حاجة.
في الغد نذهب للمستشفي التي تماثل المفاعل الذرية التي نراها في الأفلام الأجنبية، بغطائها الفضي وطوابقها المتعددة الباردة، نتجول ونصعد ونهبط نوقع الأوراق والدفتر ونقف في الصفوف حتى يتم النداء عليها لدخولها الغرفة الذرية، أو الإشعاع الذري، جلسة الكيماوي، تمسك يدي، تقول لي نصف ساعة وسوف أعود، المرضي متناثرين في كل مكان، والألم رهيب على الوجوه والأجسام التي أصابها المرض، في حربه ضد الجسد البشري واضحة غزواته وفتوحاته، ودائماً منتظر هذا الملعون، لم أرىِ في أي وجه ذات يوم أي اثر للانتصار إلا وجه نعمات، وكأنها تدخل الجولة، مسبقا وتعلم إنها حاولت، مهزومة لكنها تضحك وتبتسم وتقول: اخذ ابن الكلب من جسدي أغلى جزء في المرأة .. لكني استطيع أن أحيا واعمل وأحب بالجزء الباقي، أحاول أن ادخل مع هذا المرض في حلقة مصارعة وجهاً لوجه، لكنني لا أراه مطلقاً وكأنني أحارب دخان ابيض مثل الذي كان يغلفني أيام الثورة من كثرة القنابل المسيلة للدموع، أخرج من المبني للحديقة، أشعل سيجارة ، وأشاهد الممرضات وهم يعبثن مع بعضهن، وتبدأ الأسئلة الغبية تداهم عقلي ولا أجد لها إجابة: لماذا تركت نعمات وحيدة في الحلقة، كيف يتحول الإنسان لوقود ذري لمرض اسمه السرطان، ألم يلاحظ كل أطباء العالم ذلك، أنه يأكل في أجساد البشرية، فلماذا لا نسلم الرب كل أمانته سليمة، لماذا نسلم الأجساد ناقصة ثم نقول أن الختم هو السرطان، نعمات بالداخل في حربها وحيدة، تخرج مشعة كما كانت تقول، إنها تستطيع بما أخذته من إشعاع أن تضئ مدينة 6 أكتوبر كلها، أراها الآن واقفة على جبلها تشع نوراً أمامي وأمام كل الظلام الذي يحاول أن يحيط بأرواحنا وحياتنا، وفي النهاية أجري مسرعاً وهي خارجه من الغرفة متهالكة، اضبط لها ملابسها وتستند علىّ حتى نعود للمنزل، أغلق باب الشقة، وتضحك نعمات وتقول لي: لم أعد استطيع، لن اذهب مرة أخري، تعالى نصلي ركعتين.. يمكن ربنا يخليني أخف، أبكي ونصلي ونقرأ القرآن، ثم تضحك وتقول: إيه البرجماتية دي، هو إحنا هانضحك على ربنا أضحك معها وترتعش الآيات والأدعية ويختلطا مع ضحكاتنا الساخرة الخارجة من أفواهنا الصغيرة.
تجلس نعمات في أحد الأركان وتقول ليّ : أمك اعترضت طريق علاقتي بأبيك مستجاب، أضحك، تكمل نعمات وتقول هذه حقيقة، أمك جميلة لذا لم يتزوج عليها، انه يحبها، تكمل في بعض الخجل: كنت أحدث مستجاب في المنزل كل يوم بالساعات، وذات يوم جاءني مكالمة من امرأة وقالت لي: مستجاب متجوز وعنده عيال، ابعدي عنه، زعلت جداً، تذكرت هذا الموقف، وتذكرت رد فعل أبي مع البيت كله، لكني كنت اندهش من أمي – واعلم إنها سلطت احدي الجارات أو القريبات لفعل هذا – هذه هي المرأة التي تخاف على بيتها وتعرف كيف تصونه، وإنني أندهش من كثرة حالات الطلاق الآن في المجتمع مع إنهم لم يروا أي شيء في الحياة من صعوبة مثل أمي.
أول بدايات كتابتي عرضتها على نعمات، كانت سعيدة بذلك وقامت بنفسها بتعديل وحذف أجزاء من القصة، كانت القصة بعنوان ” مناورة “، عن شاب يذهب لخطبة حبيبته فيجدها تزوجت، وقالت: ده درس تعلمته من مستجاب نفسه، لازم تحذف كل الترهلات من قصتك، لازم تكون مشدودة وصالبه طولها، قوة الحذف يجب أن تكون أكبر من قوة الإضافة لأنها أصعب في الكتابة، ثم تضحك وتقول: أبوك كان لديه طريقة في كتابة قصة لا تقل ولا تنقص، لذا أصبح علامة فارقة وجزء هام في تاريخ القصة العربية، وكان يهاجم النقاد والأدباء ويقول: إن قصصهم قصص عواجيز كلها ترهلات.
ذات يوم أثناء ذهابنا للمول، وجدنا رجل شرطة يقف في الطريق يشير لأي سيارة كي تقله، أشرت لها أن نقف ونساعده، بعد أن ركب السيارة وجدته يحاول سرقه حقيبة نعمات والموبيل والنقود، ألا إنني لحقنت الموقف وقمت بطرده، كتبت هذا الموقف في قصة أسميتها ( التتار ) من أول قصصي وأهديتها إلى روح نعمات بعد رحيلها والقصة فازت بجائزة إحسان عبد القدوس، ولم تنشر حتى الآن نظراً للموقف الأمني قبل الثورة بالإضافة لحذفها من مجموعتي القصصية الأولي.
أثناء تلك الفترة كانت أمورنا مثل كل الأشياء حولنا: لقاء، فراق، صراخ، دماء، رائحة أدوية كريهة تملأ الشقة، لكن الرحلة ذاتها كانت جميلة، وكان هذا يجعل مواقفنا وتعاملنا يأخذ مواقف ومنحنيات غريبة جدا، كانت تتعامل معي كأنها ابنه الجيران التي أسير معها في الخفاء في كل الشوارع المظلمة، وكأنها تخشي أن يعلم احد بما نفعله، ثم تتحول إلى حبيبه جالسة جوار التليفون منتظرة اتصال حبيبها أو أم تبحث لابنها عن وظيفة أو عمل أو فتاه رقيقة واقفة في شرفتها منتظره أن يمر – فتاها – في ليلة باردة، وكنت خلال ذلك، أول من يشتري لها الجرائد والمجالات ولو وجدت لها قصة أو مقال لا اخشي أن أوقظها سواء ليلاً أو صباحاً، لأنني أعرف أن هذا يسعدها جدا، ويشعرها إنها تحيا وتعيش وتكتب، كنا نجلس بالساعات في الشرفة، نشرب شاي ونثرثر ونأكل بسكويت كنا نشتريه من أحد مصانع أكتوبر، ثم ننتقل ونجلس أمام الكمبيوتر وهي تكتب روايتها ” يوميات امرأة مشعة “، وذات مرة كانت تحاول أن تتذكر اسم فيلم أجنبي، قلت لها اسمه ( وداعا شوشنك ) عن رجل دخل السجن ظلماً ولكنه بعد عشرين عاماً استطاع الهرب لدرجة انه يسخر من جدران السجن بصورة ” لريتا هاورث ” في فيلم مليون سنة قبل الميلاد، تصرخ نعمات بالفرح لأنها تستطيع أن تتابع الكتابة وهي تقول: أبوك كان مخبيك فين .. أنت داهية.. شكلك مسبتش سيما ألا لما عطيت فيها، نضحك ويأتي تليفون وترد نعمات، تبرق عينيها، تنهي المكالمة وتصرخ في وجهي: أبويا جاي، لازم تمشي دلوقتي، لو جه وأنت هنا هاتبقي مصيبة وفضيحة، أضحك واترك الشقة بعد أن أأتي لها ببعض المثلجات، لكني كنت أحيانا أتضايق من هذه التصرفات، إلا انه في الليل تتصل بي وتقول: أوعي تكون زعلت.. أنا بحبك.. بس أبويا عمره ما هايفهم راجل مع واحدة ست غير لما يكون ثالثهم الشيطان، اضحك بشدة وأقول لها: ما أنت بتحكي لامك كل حاجة وهي أكيد بتقوله، تكمل: معلهش هو فاكرني لسه عيلة صغيرة، ولا استطيع أن أقول لها أنت زى أمي.
في إحدي المرات اتصلت بي نهاراً، وكنا في حالة من حالات الخصام وزعلانين مع بعض، وجدتها تصرخ في التليفون، تعالي بسرعة، ألحقني، قلت لها: في أيه؟، تصورت أن صاحب الشقة قد جاء وقام بتهديدها أو الاعتداء عليها، فقد كنت أعرف إنها مهددة من صاحب الشقة – أي من الخارج، وكان التهديد الداخلي لها من ذلك اللعين الذي ينهش في جسدها، كنت بملابس النوم، هبطت وجريت إلى منزلها، فلم يكن يبعد عن منزلي أكثر من 600 متر، صعدت السلم وكأنني سوف أجد جريمة أو مصيبة كبيرة، لكني وجدتها فاتحة باب الشقة وواقفة في انتظاري – كان معها الكاتبة ابتهال سالم، قلت لها: في إيه؟ قالت: أنبوبة البوتاجاز خلصت، وأنا حاطه المكرونة في الماء، وخايفة تعجن، تعرف تغير الأنبوبة، ضحكت، مجنونة، ولم استطيع أن أقول لها هذا، وهل أنا بتاع أنابيب، أخذت منها المفتاح وقمت بتغير أنبوبة السخان مكان أنبوبة البوتاجاز، وقمت بأشعار النار تحت حلة المكرونة، كانت تتقافز من الفرحة هي وابتهال، قلت لها: عايزة حاجة تاني يا مدام، ضحكت ودعتني للغداء معهم، قلت لها: معلهش.. ورأيا أنابيب تانية، وتركتهم.
كلما تذكرت هذه المواقف، أضحك، وأتذكر مسودة بعض رواياتها التي طبعتها في بيتي، وأنني شجعتها للتقدم لجائزة التفوق كحل لمشكلة تهديد صاحب الشقة لها، وكان ذلك يغضبها، لان الكاتب لا يجد ما يأويه في هذا الوطن، كانت قيمة الجائزة خمسين ألف عندما قدمنا لها أول مرة، وفي ثالث مرة كنا نقول الثالثة تابتة، وأخذتها نعمات وكانت قيمة الجائزة قد ارتفعت إلى مائة ألف، وقد اشترت بها الشقة أو دفعت مقدم شقة قبل وفاتها بشهرين فقط، وعندما ذهبت لأبارك لها، دعت لي بأن امتلك شقها مثلها، وقالت لي وكنا نجلس في الشرفة: لازم تتجوز.. ارحم نفسك شوية يا محمد.. واخد النسوان عواجيز وشابات، حرام عليك.
آه.. هذا القلم الحرون لماذا يتحرك الآن ويتذكرك يا نعمات، يا حبيبتي، كنت أقلب الصور على جهاز الكمبيوتر عندما وجدت صورتك، آخر صوره لها وقبل وفاتها بأيام قليلة، وكأنني كنت أخشي أن تصعد وأشاهدها، حتى نبأ وفاتها كنت اعلمه مسبقاً، وكنت لا أريد أن يقوله لي أحد، ألا إنني لا استطيع نسيان هذا اليوم، كان صباح يوم جمعة، والقرآن يغرق كل الأماكن تمهيداً للصلاة، عندما اتصل بي الشاعر سعدني السلاموني يسألني عنها: قلت له لو اتصلت الآن، لن ترد نعمات، أهلها هم الذين سيردون عليك، ولم تمضي ألا دقائق، واتصل مرة أخري وقال: نعمات تعيش أنت.
آه يا بنت الموت.. كنا نذهب ثلاث مرات في الأسبوع للعلاج والجري خلف مكاتب لإصدار أوراق ونفقات العلاج، لم أكن أعرف أن جسدك النحيل بسبب هذه العنة وإننا كنا ننهشك من الخارج، كما كان الملعون ينهشك من الداخل، تصرخ نعمات وتقول: عايزني أبطل كتابة، اتصلت بي الكاتبة الفلانية ( لا داعي لذكر الاسم ) وقالت: أنت لسه بتكتبي وبتطلعي روايات، أضحك وأواسيها.
لم يفهم أحد معني الكتابة حتى الآن إلا الذي يمارسها، السحر والعشق والطموح والانكسار والمرض والحياة، لكن عمرها ما تكون الموت.. أن تمارس عبادتك وابتهالاتك كل ليلة وعلى كل سطر وعلى نواصي أحرف الكلمات.. أن تقوم بالجري والغرق والسباحة والقفز والصعود على الورقة البيضاء، أن تقوم بتحبيّل الورقة بالكلمات والأنفاس والشخصيات النابضة، أن تصنع الألم والمجد والسمو والخلود، أن تعاشر كل المواقف بكل حب، أن تكون جهاز استقبال وأرض تسقي بالكلمات، أن لا تقول آه إلا على ورقتك، سريرك، سجادة صلاتك، محرابك، قبلتك، أنت فيه المتعبد والعبد وأنت الإله وأنت المؤمن والعاصي الذي يبحث عن كلمة نجاه.
كل هذا كنا نفعله، أغنية نعناع الجنينة لمحمد منير التي رافقتنا في مشاويرنا للمستشفي وأروقتها الباردة المميتة، نجاة الصغيرة في سكة العاشقين ونحن نبحث عن جنيهات قليلة في أي جريدة أو مجلة كي نلتقط بها ساندويتش فول أو لتر بنزين لفله، محمد عبد المطلب في يا حاسدين الناس، ونحن نلف على دواء نادر نبحث عنه وكأنه شمه هيروين، مقابلاتنا، حضور الندوات، الكوافير واستعداها للتصوير في التليفزيون، ملابسها وهي تداري الجزء المنهوش من جسدها.
ذات يوم قالت لي عايزة أقولك كلام نسوان، قلت لها خير، قالت نعمات: قراشانات الوسط الأدبي بيحسدوني عليك، واحدة قالت: خدت الأب والابن، وواحدة قالت: لو كانت خلفت كان ابنها قدك دلوقتي، أضحك وأقول لها: المفروض أن يحسدوني أنا، فقد أعطاني الله أميّن، أم حقيقة وأم اسمها نعمات البحيري.. رحمه الله عليك يا نعمات.
sadazakera.wordpress.com
أن تصل لمرحلة الطهر والعري والتكشف، أن تكون أنت.. أنت، ذاتك وروحك وأفكارك وخصوصيتك ومغامرتك، تكون صادقاً وصريحاً وجريئاً، لا تخاف من أي شيء ومن كل شيء، تصبح أبيض كاللبن الحليب، يفسدك ويعكرك أي فعل أو كلام أو أفكار سامة أو دخان وشاية أو سخرية خبيثة، إذا وصلت في يوم من الأيام لهذه المرحلة فأنت إذاً أمي : نعمات البحيري.
لو قلت أن حالة العري والطهر والبراءة التي عشتها مع نعمات البحيري في آخر أيام أو سنوات عمرها، هي ما جعلتني أكتب واكتشف ذاتي وأفكاري، لن يصدق أحد أن تلك الصورة التي تعلوا تلك الكلمات، كانت لإنسانه مرت على حياتي، نقشت أيام وذكريات وأوجاع وتأوهات على روح ذاتي وتعاريج عقلي وفي بئر قلبي، اسمها نعمات محمد مرسي البحيري، والشهيرة بنعمات البحيري.
لكن التجربة التي جعلت الورقة أرض نجاه وسفينة إنقاذ، كانت تجربة قاسية، لم أرِ نعمات البحيري، بل إنني ذهبت إليها مرغماً ( دعك مما في عقلك الشيطاني )، كان ذلك عندما وجدت لها قصتين أحدهما في مجلة دبي الثقافية والأخرى في مجلة العربي الكويتية، أخرجت نوتة تليفونات والدي مستجاب واتصلت بالرقم الموجود، جاءني صوت امرأة لم تستيقظ بعد ( وأنا أحب أن أهاجم فريستي عند أول شعاع للشمس ): مين معايا.. أفندم، أرد أنا في بعض القلق الصبياني: صباح الخير.. دايماً منورة ..أنا محمد، يعود صوتها في استفسار وشبة قلق: محمد مين ع الصبح، أنا محمد محمد مستجاب، صمت لحظات، بكاء، ثم صرخة فرحــة: يابن الأية….. أنت فين يا واد.. وأبوك كان مخبيك فين.. آه من مستجاب..
كنا في الشهور الأخيرة من عام 2005 عندما حدثت تلك المحادثة وحتى آخر يوم في حياتها، ولن اذكره، لان حياتها مستمرة معي للأن ولا أريد أن ترحـــل أو تنقطع ذكرياتي معها، كما إنني لم أفكر في الكتابة عنها، ولا أعرف لماذا، لي معها ذكريات مجنونة لو كتبتها لتغيرت أمور كثيرة في حياتي على الأقل.
ذهبت إلى شقتها ذات يوم، وقلت لها سوف أكتب عنك مقالا بعنوان ” الكاتبة القرفصاء ” وأذكر فيه كم أنت كاتبة عظيمة وكل الوقائع التي عشتها معك، ضحكت وقالت لي: لماذا لا تأخذني نشاهد الجبل.
جبل مستجاب ونعمات
ربما لا يعرف أحد، أن الجبل الرابض أو الملقي أو الباقي عند مدخل مدينة 6 أكتوبر، هو جبل محمد ونعمات، أو جبل نعمات البحيري فقط، وكم – لا يزال يكافح – هذا الجبل رغم صغره وعدم ارتفاعه لأكثر من خمسة وسبعين متراً فقط، كل هجوم من جينرلات نادي 6 أكتوبر أو موظفي جهاز المدينة أو زحف أصحاب المولات الفارهة الذين نهشوا كل الطريق الصحراوي الممتد من المحور إلى مدينة 6 أكتوبر، ولم يبقي في وجه الجميع صامد إلا – جبل نعمات- كنا نذهب إليه بسيارتها البيضاء الصغيرة ( فله )، تلك السيارة التي اشترتها من أموالها الخاصة، كانت كما ذكرت ليّ، إنها استمرت ( تحوش ) وتجمع النقود من فتات القصص والمقالات وتخزن كل هذه الأموال البسيطة حتى استطاعت شراء ( فله )، كنا نذهب للجبل دائماً في وقت الغروب، نقف بجواره أو نصعده وأساعدها في ذلك، معنا علب كشري أو لب أو زجاجات الحاجة الساقعة، أو نجلس على الرصيف أمامه، ظهرنا للسيارات ووجهنا إلى الجبل وفي نهاية الأفق الشمس التي تهبط، وكنت وقتها اندهش من تلك القصة العجيبة، ( قصة حب ) بين شاب لا يمتلك شيء في بداية حياته وكله طموح بالإضافة إلى العناد الصعيدي وامرأة كالجبل الذي نقف أمامه يستهلكها المرض ويلتهم منها ما يشاء في نعومة ووحشية معني الالتهام، امرأة بثدي واحد في منتصف الخميس وشاب في بداية الثلاثين من عمره، وشمس غاربة في نهاية الأرض، حتى الآن أراها هناك وألتقي بها واقرأ الفاتحة على روحها، ولا زالت اخشي أن اذهب إليه الآن وحيداً، وكأنه أصبح مُوحش ومرتفع وكأنه عائق لا أستطيع اجتيازه أو عبوره، لكنني أعرف أنها هناك صامدة وتحيي، وأفكر أنه عندما يتم أزاحه أو تدمير هذا الجبل، سوف أعلم حينئذ أن نعمات ماتت.
بعد ذلك كنا نترك أو نهبط من على – جبل نعمات – ونتجه – بفله – إلى أي مكان، فقد كانت الأماكن الأساسية لنا ( اتحاد الكتّاب ومستشفي معهد ناصر أو المفاعل الذري كما كنت أراه أو مكتبات وسط البلد والأتيلية )، كانت نعمات ترتبك في البداية عندما تلتقي بها إحدي الأديبات بسبب وجودي معها، فلا يكون أمام نعمات وهي تعرفني بالأصدقاء : ده ابن مستجاب بس بالإفرنجي.. مودرن يعني.. بس كله روح مستجاب.. اللي خلف ممتش، وبعد أن نترك من نقابل، تهمس في أذني كأنها ابنه الجيران التي أخرج معها خلسة: أنت عارف يا واد.. محدش سايب حد في حاله، بس عينها كانت هاتطلع عليك، نضحك ونعود ونركب فله ونتجه إلى المول الشهير على الطريق الصحراوي، نشتري أشياءنا، ونضحك لأننا استطعنا أن نأكل من بعض قطع الشيكولاته، كانت أعينا هاتطلع عليها، وخارج المول يقف بائع بطاطا نشتري منه ثم نذهب إلى شقتها، تغلق باب الشقة وتقول لي: لو قال الناس إنه حب: موافقة، زواج، أيضا موافقة، أضحك وأقول لها: لماذا لا تقولي ابنك، تضحك وتخبطني في صدري، أنا لسه صغيرة وحلوه ..
ثم تجلس وقد شعرت بالتعب وتحكي نعمات: الوسط الأدبي كان يطلق عليّ أنثي مستجاب أو بمعني أدق ( نتاية مستجاب ) عشان كنت بخربش واعض وأهاجم، أضحك، ثم تكمل: أبوك كان صادم، شرس قوي، بس كان على حق، والحياة دي عايزة واحد زيه، وكان زعلان ويزعق أن الجميع يريد أن يخرج من عباءة نجيب محفوظ فقط، ثم تتنهد وتشرب رشفة من الماء، لان الألم بدأ ينتابها ويعاود ضرب جسدها النحيل، أدخلها غرفتها، وأضعها في الفراش، وأضبط لها الوسائد، وأفتح لها التليفزيون الذي اشتريناه من عرض للتخفيضات من المول وقد صعدت به على كتفي لشقتها، تمسك يدي ، أربت على كتفها وادعوا لها أن تنام، تضحك وتقول لي: لو قابلتك من تلاتين سنة كنت تزوجتك، أحاول أن أهرب من نظراتها، ثم تنبهني إلى أنه في الغد يجب أن نذهب إلى المستشفي، وأنه يجب أن ننتهي من روايتها ( يوميات امرأة مشعة)، وإنها تريد أن تكلم والدتها، أقول لها بعد أن نعود من المستشفي نعمل كل حاجة.
في الغد نذهب للمستشفي التي تماثل المفاعل الذرية التي نراها في الأفلام الأجنبية، بغطائها الفضي وطوابقها المتعددة الباردة، نتجول ونصعد ونهبط نوقع الأوراق والدفتر ونقف في الصفوف حتى يتم النداء عليها لدخولها الغرفة الذرية، أو الإشعاع الذري، جلسة الكيماوي، تمسك يدي، تقول لي نصف ساعة وسوف أعود، المرضي متناثرين في كل مكان، والألم رهيب على الوجوه والأجسام التي أصابها المرض، في حربه ضد الجسد البشري واضحة غزواته وفتوحاته، ودائماً منتظر هذا الملعون، لم أرىِ في أي وجه ذات يوم أي اثر للانتصار إلا وجه نعمات، وكأنها تدخل الجولة، مسبقا وتعلم إنها حاولت، مهزومة لكنها تضحك وتبتسم وتقول: اخذ ابن الكلب من جسدي أغلى جزء في المرأة .. لكني استطيع أن أحيا واعمل وأحب بالجزء الباقي، أحاول أن ادخل مع هذا المرض في حلقة مصارعة وجهاً لوجه، لكنني لا أراه مطلقاً وكأنني أحارب دخان ابيض مثل الذي كان يغلفني أيام الثورة من كثرة القنابل المسيلة للدموع، أخرج من المبني للحديقة، أشعل سيجارة ، وأشاهد الممرضات وهم يعبثن مع بعضهن، وتبدأ الأسئلة الغبية تداهم عقلي ولا أجد لها إجابة: لماذا تركت نعمات وحيدة في الحلقة، كيف يتحول الإنسان لوقود ذري لمرض اسمه السرطان، ألم يلاحظ كل أطباء العالم ذلك، أنه يأكل في أجساد البشرية، فلماذا لا نسلم الرب كل أمانته سليمة، لماذا نسلم الأجساد ناقصة ثم نقول أن الختم هو السرطان، نعمات بالداخل في حربها وحيدة، تخرج مشعة كما كانت تقول، إنها تستطيع بما أخذته من إشعاع أن تضئ مدينة 6 أكتوبر كلها، أراها الآن واقفة على جبلها تشع نوراً أمامي وأمام كل الظلام الذي يحاول أن يحيط بأرواحنا وحياتنا، وفي النهاية أجري مسرعاً وهي خارجه من الغرفة متهالكة، اضبط لها ملابسها وتستند علىّ حتى نعود للمنزل، أغلق باب الشقة، وتضحك نعمات وتقول لي: لم أعد استطيع، لن اذهب مرة أخري، تعالى نصلي ركعتين.. يمكن ربنا يخليني أخف، أبكي ونصلي ونقرأ القرآن، ثم تضحك وتقول: إيه البرجماتية دي، هو إحنا هانضحك على ربنا أضحك معها وترتعش الآيات والأدعية ويختلطا مع ضحكاتنا الساخرة الخارجة من أفواهنا الصغيرة.
تجلس نعمات في أحد الأركان وتقول ليّ : أمك اعترضت طريق علاقتي بأبيك مستجاب، أضحك، تكمل نعمات وتقول هذه حقيقة، أمك جميلة لذا لم يتزوج عليها، انه يحبها، تكمل في بعض الخجل: كنت أحدث مستجاب في المنزل كل يوم بالساعات، وذات يوم جاءني مكالمة من امرأة وقالت لي: مستجاب متجوز وعنده عيال، ابعدي عنه، زعلت جداً، تذكرت هذا الموقف، وتذكرت رد فعل أبي مع البيت كله، لكني كنت اندهش من أمي – واعلم إنها سلطت احدي الجارات أو القريبات لفعل هذا – هذه هي المرأة التي تخاف على بيتها وتعرف كيف تصونه، وإنني أندهش من كثرة حالات الطلاق الآن في المجتمع مع إنهم لم يروا أي شيء في الحياة من صعوبة مثل أمي.
أول بدايات كتابتي عرضتها على نعمات، كانت سعيدة بذلك وقامت بنفسها بتعديل وحذف أجزاء من القصة، كانت القصة بعنوان ” مناورة “، عن شاب يذهب لخطبة حبيبته فيجدها تزوجت، وقالت: ده درس تعلمته من مستجاب نفسه، لازم تحذف كل الترهلات من قصتك، لازم تكون مشدودة وصالبه طولها، قوة الحذف يجب أن تكون أكبر من قوة الإضافة لأنها أصعب في الكتابة، ثم تضحك وتقول: أبوك كان لديه طريقة في كتابة قصة لا تقل ولا تنقص، لذا أصبح علامة فارقة وجزء هام في تاريخ القصة العربية، وكان يهاجم النقاد والأدباء ويقول: إن قصصهم قصص عواجيز كلها ترهلات.
ذات يوم أثناء ذهابنا للمول، وجدنا رجل شرطة يقف في الطريق يشير لأي سيارة كي تقله، أشرت لها أن نقف ونساعده، بعد أن ركب السيارة وجدته يحاول سرقه حقيبة نعمات والموبيل والنقود، ألا إنني لحقنت الموقف وقمت بطرده، كتبت هذا الموقف في قصة أسميتها ( التتار ) من أول قصصي وأهديتها إلى روح نعمات بعد رحيلها والقصة فازت بجائزة إحسان عبد القدوس، ولم تنشر حتى الآن نظراً للموقف الأمني قبل الثورة بالإضافة لحذفها من مجموعتي القصصية الأولي.
أثناء تلك الفترة كانت أمورنا مثل كل الأشياء حولنا: لقاء، فراق، صراخ، دماء، رائحة أدوية كريهة تملأ الشقة، لكن الرحلة ذاتها كانت جميلة، وكان هذا يجعل مواقفنا وتعاملنا يأخذ مواقف ومنحنيات غريبة جدا، كانت تتعامل معي كأنها ابنه الجيران التي أسير معها في الخفاء في كل الشوارع المظلمة، وكأنها تخشي أن يعلم احد بما نفعله، ثم تتحول إلى حبيبه جالسة جوار التليفون منتظرة اتصال حبيبها أو أم تبحث لابنها عن وظيفة أو عمل أو فتاه رقيقة واقفة في شرفتها منتظره أن يمر – فتاها – في ليلة باردة، وكنت خلال ذلك، أول من يشتري لها الجرائد والمجالات ولو وجدت لها قصة أو مقال لا اخشي أن أوقظها سواء ليلاً أو صباحاً، لأنني أعرف أن هذا يسعدها جدا، ويشعرها إنها تحيا وتعيش وتكتب، كنا نجلس بالساعات في الشرفة، نشرب شاي ونثرثر ونأكل بسكويت كنا نشتريه من أحد مصانع أكتوبر، ثم ننتقل ونجلس أمام الكمبيوتر وهي تكتب روايتها ” يوميات امرأة مشعة “، وذات مرة كانت تحاول أن تتذكر اسم فيلم أجنبي، قلت لها اسمه ( وداعا شوشنك ) عن رجل دخل السجن ظلماً ولكنه بعد عشرين عاماً استطاع الهرب لدرجة انه يسخر من جدران السجن بصورة ” لريتا هاورث ” في فيلم مليون سنة قبل الميلاد، تصرخ نعمات بالفرح لأنها تستطيع أن تتابع الكتابة وهي تقول: أبوك كان مخبيك فين .. أنت داهية.. شكلك مسبتش سيما ألا لما عطيت فيها، نضحك ويأتي تليفون وترد نعمات، تبرق عينيها، تنهي المكالمة وتصرخ في وجهي: أبويا جاي، لازم تمشي دلوقتي، لو جه وأنت هنا هاتبقي مصيبة وفضيحة، أضحك واترك الشقة بعد أن أأتي لها ببعض المثلجات، لكني كنت أحيانا أتضايق من هذه التصرفات، إلا انه في الليل تتصل بي وتقول: أوعي تكون زعلت.. أنا بحبك.. بس أبويا عمره ما هايفهم راجل مع واحدة ست غير لما يكون ثالثهم الشيطان، اضحك بشدة وأقول لها: ما أنت بتحكي لامك كل حاجة وهي أكيد بتقوله، تكمل: معلهش هو فاكرني لسه عيلة صغيرة، ولا استطيع أن أقول لها أنت زى أمي.
في إحدي المرات اتصلت بي نهاراً، وكنا في حالة من حالات الخصام وزعلانين مع بعض، وجدتها تصرخ في التليفون، تعالي بسرعة، ألحقني، قلت لها: في أيه؟، تصورت أن صاحب الشقة قد جاء وقام بتهديدها أو الاعتداء عليها، فقد كنت أعرف إنها مهددة من صاحب الشقة – أي من الخارج، وكان التهديد الداخلي لها من ذلك اللعين الذي ينهش في جسدها، كنت بملابس النوم، هبطت وجريت إلى منزلها، فلم يكن يبعد عن منزلي أكثر من 600 متر، صعدت السلم وكأنني سوف أجد جريمة أو مصيبة كبيرة، لكني وجدتها فاتحة باب الشقة وواقفة في انتظاري – كان معها الكاتبة ابتهال سالم، قلت لها: في إيه؟ قالت: أنبوبة البوتاجاز خلصت، وأنا حاطه المكرونة في الماء، وخايفة تعجن، تعرف تغير الأنبوبة، ضحكت، مجنونة، ولم استطيع أن أقول لها هذا، وهل أنا بتاع أنابيب، أخذت منها المفتاح وقمت بتغير أنبوبة السخان مكان أنبوبة البوتاجاز، وقمت بأشعار النار تحت حلة المكرونة، كانت تتقافز من الفرحة هي وابتهال، قلت لها: عايزة حاجة تاني يا مدام، ضحكت ودعتني للغداء معهم، قلت لها: معلهش.. ورأيا أنابيب تانية، وتركتهم.
كلما تذكرت هذه المواقف، أضحك، وأتذكر مسودة بعض رواياتها التي طبعتها في بيتي، وأنني شجعتها للتقدم لجائزة التفوق كحل لمشكلة تهديد صاحب الشقة لها، وكان ذلك يغضبها، لان الكاتب لا يجد ما يأويه في هذا الوطن، كانت قيمة الجائزة خمسين ألف عندما قدمنا لها أول مرة، وفي ثالث مرة كنا نقول الثالثة تابتة، وأخذتها نعمات وكانت قيمة الجائزة قد ارتفعت إلى مائة ألف، وقد اشترت بها الشقة أو دفعت مقدم شقة قبل وفاتها بشهرين فقط، وعندما ذهبت لأبارك لها، دعت لي بأن امتلك شقها مثلها، وقالت لي وكنا نجلس في الشرفة: لازم تتجوز.. ارحم نفسك شوية يا محمد.. واخد النسوان عواجيز وشابات، حرام عليك.
آه.. هذا القلم الحرون لماذا يتحرك الآن ويتذكرك يا نعمات، يا حبيبتي، كنت أقلب الصور على جهاز الكمبيوتر عندما وجدت صورتك، آخر صوره لها وقبل وفاتها بأيام قليلة، وكأنني كنت أخشي أن تصعد وأشاهدها، حتى نبأ وفاتها كنت اعلمه مسبقاً، وكنت لا أريد أن يقوله لي أحد، ألا إنني لا استطيع نسيان هذا اليوم، كان صباح يوم جمعة، والقرآن يغرق كل الأماكن تمهيداً للصلاة، عندما اتصل بي الشاعر سعدني السلاموني يسألني عنها: قلت له لو اتصلت الآن، لن ترد نعمات، أهلها هم الذين سيردون عليك، ولم تمضي ألا دقائق، واتصل مرة أخري وقال: نعمات تعيش أنت.
آه يا بنت الموت.. كنا نذهب ثلاث مرات في الأسبوع للعلاج والجري خلف مكاتب لإصدار أوراق ونفقات العلاج، لم أكن أعرف أن جسدك النحيل بسبب هذه العنة وإننا كنا ننهشك من الخارج، كما كان الملعون ينهشك من الداخل، تصرخ نعمات وتقول: عايزني أبطل كتابة، اتصلت بي الكاتبة الفلانية ( لا داعي لذكر الاسم ) وقالت: أنت لسه بتكتبي وبتطلعي روايات، أضحك وأواسيها.
لم يفهم أحد معني الكتابة حتى الآن إلا الذي يمارسها، السحر والعشق والطموح والانكسار والمرض والحياة، لكن عمرها ما تكون الموت.. أن تمارس عبادتك وابتهالاتك كل ليلة وعلى كل سطر وعلى نواصي أحرف الكلمات.. أن تقوم بالجري والغرق والسباحة والقفز والصعود على الورقة البيضاء، أن تقوم بتحبيّل الورقة بالكلمات والأنفاس والشخصيات النابضة، أن تصنع الألم والمجد والسمو والخلود، أن تعاشر كل المواقف بكل حب، أن تكون جهاز استقبال وأرض تسقي بالكلمات، أن لا تقول آه إلا على ورقتك، سريرك، سجادة صلاتك، محرابك، قبلتك، أنت فيه المتعبد والعبد وأنت الإله وأنت المؤمن والعاصي الذي يبحث عن كلمة نجاه.
كل هذا كنا نفعله، أغنية نعناع الجنينة لمحمد منير التي رافقتنا في مشاويرنا للمستشفي وأروقتها الباردة المميتة، نجاة الصغيرة في سكة العاشقين ونحن نبحث عن جنيهات قليلة في أي جريدة أو مجلة كي نلتقط بها ساندويتش فول أو لتر بنزين لفله، محمد عبد المطلب في يا حاسدين الناس، ونحن نلف على دواء نادر نبحث عنه وكأنه شمه هيروين، مقابلاتنا، حضور الندوات، الكوافير واستعداها للتصوير في التليفزيون، ملابسها وهي تداري الجزء المنهوش من جسدها.
ذات يوم قالت لي عايزة أقولك كلام نسوان، قلت لها خير، قالت نعمات: قراشانات الوسط الأدبي بيحسدوني عليك، واحدة قالت: خدت الأب والابن، وواحدة قالت: لو كانت خلفت كان ابنها قدك دلوقتي، أضحك وأقول لها: المفروض أن يحسدوني أنا، فقد أعطاني الله أميّن، أم حقيقة وأم اسمها نعمات البحيري.. رحمه الله عليك يا نعمات.
محمد مستجاب يكتب /أيام قليلة مع نعمات البحيري
نحن نكتب أنفسنا، نضع على الورق كل الأوجاع، وتصبح الورقة البيضاء هي واحة الراحة بعد غربتنا الصحراوية داخل أنفسنا أو على أرض البشر، تصبح الورقة ذلك البساط السحري، تنقلك لكل مكان وفي أي زمان، ترتد وتج…