أدب السجون ماجد سليمان - الفصل الأول من رواية: طيور العتمة

الكُرّاسةُ الأولى:
يَدُ الـموت تَتَحَسَّسُ الأحياء

I


أَفَقتُ فجراً، وجدتني قد تَوَسّدت حذائي وفانيلتي القطن، وكأنّ حشرةً أكلت أجفاني، ملامحي وكأنّني خارجٌ من قبرٍ قديم، فطنت للرفاق، وحديث أحدهم:
ـــ لم أنتسب لبلاط، وعلاوةً على نكد حظّي وحقي المبخوس، عِشتُ مُنتقصاً مَحروماً، لكن حاشا أن أكون كلباً للوزراء.
كان هذا قول بنيامين، بعد أن مسح شفتيه بظهر يده اليمنى المعروقة من حرارة المكان، وهم يتحلّقون حوله كنتف الثلج على جبلٍ أسمر، واليأس أشبه بمخدّرٍ عن الإحساس بالوحشة في هذا المكعّب المظلم، إلا من نافذةٍ تقارب دائرة وجه الآدمي، يُضيء منها النهار من الزاوية المقابلة للباب الفولاذيّ الرفيع، والذي دُقّت صفحته بدوائر حديديّة بحجم الكفّ، وأُوصلت ببعضها بأسياخ دقيقة.
زجّوا بنا هنا على أثر اتّهامنا بالانضمام إلى خليّةٍ صغيرة كادت أن تضبط مُخطّطاً انقلابيّاً في قاعدة الجيش، وذلك بدعمٍ ماليٍّ عالٍ، وأجندةٍ متعاونةٍ داخل السرايا والكتائب، وبعض القيادات الكبيرة... كنّا ثلاثة عشر ضمن جماعةٍ كبيرة من الذين رفعوا أيديهم للسماء استسلاماً بعد حصارٍ شديدٍ مفاجئٍ من الدولة لإنقاذ الحالة من الاستشراء والتوسّع. أوثقوا الأصفاد الثقيلة في معاصمنا، وأحكموا الحديد العريض على كعوبنا، وساقونا في إثر بعضنا، وصليل السلاسل يطنّ تحتنا، تقتفينا ألسنة السياط الطويلة، وَدَقُّ فوّهات بنادق طويلة الأعناق في ظهورنا ورقابنا.
كنت الثامن من الـمَسوقين، أُقصِّر خطوة وأتقدّم اثنتين، وبالعكس، كلّه بحسب الـمَسوق أمامي، ضرورة أن أتبعه كيفما أسرع وأبطأ، عكس الذي خلفي، الماضي في شتمي والبصق على رقبتي كلّما انجرفتُ مع سرعة مَنْ أمامي وجرفته خِلسةً:
ــ أيها العتيّ.
ــ ...
ــ أرعنٌ لئيم.
ــ ...
ــ علامَ تستعجل؟ ليس أمامك غير قفصٍ ينتظرك لتُحشر فيه كالكلب.
لم أُجبه ولم ألتفت إليه، فقط ألوي رقبتي من برودة بصاقه، وأُدير أذني عن زعيقه المحمّل بالبذاءات.


II

اسـمي برهان، عمري خمسٌ وأربعون سنة، منفصلٌ عن زوجتي دون أبناء، وذلك نتيجة مرض السكريّ الذي عطّل حياتي بما فيها الاتصال الزوجي، وعُسرٍ عن شراء الدواء والمقوّيات بسبب ضيق اليد وغلاء المنتج.
رفيقي ميمون (38سنة) عائل لأسرة من أبوين مُقعدين، وأختين إحداهما نَكّلَ بها مرض الصَرَع وأتلف حياتها، وهو أعجز من أن يوفّر لهم حياةً أقلَّ من الفقيرة، وأيضاً: مغفور (53سنة)، إلياس (47سنة)، نضال (50سنة)، مَعْن (52سنة)، عابد (44سنة)، بنيامين (39سنة)، كريم (41سنة)، عبد السلام (49سنة)، سعد الدين (42سنة)، ربيع (40سنة)، حيّان (37سنة).
أثبتوا علينا نـحن الثلاثة عشر براهين القضيّة دون اتّباعٍ سليمٍ لخيوطها، فدفعونا في سجنٍ أنتن من الحظائر والزرائب مع جماعةٍ من المساجين والموقوفين، والذين نُفّذَ في بعضهم الإعدام ليلتها، والبعض الآخر نُقِلوا إلى سجنٍ آخر ظهيرة اليوم التالي.
سجنٌ رفيع السقف، يدلف منه ماءٌ ملوّثٌ ألحق الرطوبة بأرضيته المسوّاة من الإسمنت والحديد العريض، مع كلّ قطرة تقطر أنّةٌ ملتهبة من صدور الرفاق، وتتشعّب في أضلاعنا كلّ مصيبة، نجلس متقابلين كرهبانٍ مُسنّين: حدبات ظهورنا من وقع الوَجَع، وسُحُبُ المخاط المنحدر فوق شفاهنا، وظهور أيدينا التي لا تفارق أعيننا، ما كان ينقصنا غير عِصيٍّ وقلنسوات سوداء، ونكون صالحين لأن نتبوّأ المكانة الأرذل في الحياة. على باب السجن لافتةٌ صغيرة:
«رفقاً بالسجناء فهم آدميون»
ضوء مصباحٍ يُنيرُ نصف وجهي، مُرخياً سمعي للريح تهدهد في الخارج، وقعُ أقدام الجند المهيبة تُشعرنا وكأنّها تدفع الموت بسرعة إلينا، صوت انزلاق المفتاح الأسود ذي السنّين الطويلتين في ترباس الباب يبثُّ الرعب تحت جلودنا الـمتّسخة.
دخل جنديان: الأول قصيرٌ بدين، حليق الشاربين كثيف الذقن، صغير الأنف والعينين، بيمينه سلسلة تنتهي آخر حلقاتها بحلقة كبيرة أُديرت حول عنق كلبٍ أسودٍ كثّ الشعر، أحمر العينين، طويل النابين، مُتدلّي اللسان الشديد الحُمرة، وقعُ لُعابه على الأرض أشبه بصوت بيضٍ يتكسّر، يدور بسرعة بين قدمَي الجندي؛ بينما الجنديّ الثاني جسيم مربّع الوجه، أسمر البشرة، واسع الفم، عيناه جاحظتان، ينادي الكلب:
ــ هه هه يا سريح، هه هه سريح.
تزيد سرعة الكلب من بين أرجلهم، وخبط قوائمه ينبئ بأجلٍ يقترب. نظرا إلينا ليقول الجندي الطويل هازئاً:
ــ أتحبّون الحياة؟
أتبعه صاحبه بضحكةٍ ارتدّ صداها عن سقف السجن المليء بخرائط الماء الملوّث، ثمّ أمرانا بالوقوف دون حراكٍ جميعاً كالأحجار... مغفور كان السجين الأول الواقف في رأس الطابور. أطلق الجنديّ السلسلة من يده ليهجم الكلب وَلُعابه يَخْلُفه خيطٌ طويلٌ متعرّج على حوافه قِطعٌ بيضاء صغيرة، تجاوز مغفور ودفعني من بطني لأسقط على ظهري، وأخذ يدفعني بمنخريه الواسعين ولعابه يُلطّخ وجهي وأكتافي، أسمع أصوات رفاقي استغاثاتٍ لا تنقطع، انتظرت أن يعضّني عضّة الفناء لأستريح من المكوث في هذا السجن الصندوق، لكنه تركني فجأةً أتخبّط في بِرْكة لعابه، واتجه نحو ربيع وعضّه في ساقه عضّةً جارحة، وأخذ يجرّه منها حتّى ارتطم بالزاوية ذات الأسمنت المتكسّر، التي ينام فيها ربيع متكوّراً كالعجوز، صراخه باعثٌ على الشفقة بشكلٍ مبكٍ، وهو يضغط ساقه من حرارة الأنياب وألم الجروح.
ضَحِكُ الجنديين بالكاد يُسمع من قرقرة بلعوم الكلب الصاخبة. أفلت ربيع ساقه من فكّه، ليستدير نحو الباقين المتراصّين كالخراف، عظامهم تركل بعضها من الخوف. اندفع إليهم ليصطدم بميمون صدمةً قذفته إلى السقف وأعادته إلى الأرض بجرحين شديدين، الأول في فخذه اليمنى، والثاني في ذراعه اليسرى، ليجثم عليه وكأنّه ثورٌ إسبانيّ داكّاً عظامه بثقله، ومنخراه يضغطان على رأسه من جهة أذنه اليمنى.
تفرّق البقيّة في السجن كالقطط الـمطاردة في صندوقٍ كرتونيّ. رفع الكلب رأسه مُـخلّفاً زبداً من لُعابه تسرّب فوق عنق ورأس ميمون منحدراً إلى الأرض، وراح يطرح البقيّة واحداً واحداً، داعكاً الأعناق بمنخريه وَدَفْق لُعابه.
أنين ربيع يعلو ويخفت حتّى غدا مُتقطّعاً مُنبئاً عن غيبوبته. وقبل الصباح أضجعاني وأطفأا بين عينيّ سيجارتين بيضاوين لهما جمرتان قابستان، وصوت ضحكهما يلتحم بصراخي من ألم الكَيّ... وكذلك فعلوا بالباقين.


III

شيءٌ من ألـمي غسلَهُ الضوء الشحيح الـمتّصل بعينَيّ من نافذة السجن الصغيرة، دعكت بأصابعي الـمُتّسخة أسفل عينَيّ، فتداعى إليّ أنين ربيع وهو يضغط على أعلى ساقه ليُهدّئ ألم العضّة التي ألحقت بها تسعة جروحٍ غائرة ليلة البارحة. أشفقت عليه كثيراً وهو يركل الأرض بكعبه الأيمن ويصرخ ألـماً.
رائحةٌ كريهةٌ جداً شممتها حول عنقي وكتفي، لُعاب الكلب قد أصبح أكثر التصاقاً بجلدي، وكأنّه منه وَفِيه. اتّكأت على مرفقَيَّ وبالكاد جلست، آلامٌ فظيعة تربض على عظام ظهري وفقرات عنقي، وإحساسٌ مؤلمٌ بالوخز يركض تحت جلدي.
على الأرض بقايا اللعاب ما برحت رطبة، وبعض خيوطه الصغيرة تمكّن منها الجفاف. رفعت ثقل أجفاني فرأيت رفاقي كالجذوع المسنّدة على الطين؛ أجسادٌ أوهنها الخوف. ناديت بصوتٍ جافٍّ مرتعد:
ــ ربيع!
لـم يجب، فما هو إلا قطعةٌ استحالت صراخاً يعلو ويخفت، وعَظمةٌ تركل كلّ صلبٍ حولها. انبثق الضوء أكثر في المكان، فصحا الرفاق على خيوطه الدقيقة وهي تحكّ أجفانهم الـمتهدّلة. نظر ميمون إليّ: يداه مجعّدتان سـمراوان عليهما آثار ضرب، وجروحٌ صغيرة على رؤوس أصابعه، وخدوشٌ على وجهه وخاصةً على خدّه الأيمن، ومشرومٌ أعلى شفته، آثارُ دمٍ على جبهته وقِطَع لعاب الكلب تلوّث عنقه وصدره. ناداني بلكنةٍ يُتخمها القنوط:
ــ أين الـموت؟!
ابتسمت بشفتين يابستين فيهما انسلاخٌ جافّ، وأجبت:
ــ ليس ببعيد.
بلعتُ ريقي الـمرّ وأردفت:
ــ دعنا ننتظر.
اقتفت إجابتي صرخة ربيع التي أنبأتنا أنها أطفأت آخر جذوةٍ للحياة فيه، فتقاذف الجميع النظرات المتأسّفة وأحنوا رؤوسهم.


IV

دَنَت الظلمة من الأرض، ونـحن في ظلمتنا الـمستمرّة. جثّة ربيع يبست وانكمشت أطرافها، عيناه نصف مغمضتين، ومخاطٌ يقف عى منخره الأيمن مُتصلٌ بخيطٍ من الدم كان قد نطّ من شفته قبل موته. أرتجفُ من البرد واهتزاز رأسي وجذعي مضحكٌ مبكٍ، وميمون لا يعرف من الحديث إليّ غير:
ــ أين الموت؟
طمأنته بإجابةٍ غير مُتحمّسة:
ــ سنموت يا ميمون اطمئن ما عدنا بعيدين عنه.
ضغطتُ على نفسي ناهضاً بتثاقل، وكأنني عجوزٌ يجرّ قفاه عشرات العقود، نطقتُ بلسانٍ أعوج:
ــــ ربيع... ما طعم الـموت الآن؟
شعرت وأنا أرى بياض أهدابه وكأنّه يـجيب:
«أَحَنّ مـمّا أنتم فيه».
التهب صوته في سـمعي وكأنّه لم يمت:
«أَحَنّ مـمّا أنتم فيه».
ليجذب ألـمي أكثر سؤال ميمون:
ــ أين الـموت؟
يعيدها، لكن الموت لا يجيء، فاحتْ من جثّة ربيع رائحةٌ خانقة، عَفَنٌ يَخنق المكان، فدفعت وجهي في سياج الباب منادياً:
ــ يا جندي، يا جندي.
لـم أسـمع غير قطرات الماء التي تسقط من سقف الممرّ الفاصل بين السجون، لا أثر لوقع أقدام، صمتٌ يخالط رائحة الجثّة وينطق بالموت الذي لا يـجيء:
ــ أين الـموت؟
ردّدها ميمون فصحت به:
ــ ألا تكفّ عن مناداته... هو لن يجيء قبل أن يُشبعونا عذاباً...
البرد يزحف أكثر في المكان، وقطرات الماء أحدثت نَقعاً حَامَ حوله البعوض وتكاثر. التقطتُ الجثّة من القدمين وسحبتها نحو الباب، وميمون ينظر إليّ بـحزن، ثم صرخت بالـممرّ:
ــ يا جندي، يا جندي.
فسمعت ربيعاً من وراء الموت يقول: «الموت حنووون»، لحظات حتّى سمعت صوت أقفال ومفاتيح تُـخشخش في الـممرّ، تباريها أقدامٌ تمشي على أقلّ من مهلها، وصوت مضغٍ مزعجٍ ينطلق من شفةٍ يملأُها اللعاب. جذبت صوتي من عمقي منادياً:
ــ يا ا ا ا ا ا ا جندي.
ضاع صوتي في طول الـممرّ وعرضه، لكنه وصل إليه، حيث تسارعت خطوات الأقدام وازدادت خشخشة المفاتيح والأقفال، وكلّما اقتربت زاد تسارع الخطوات وتضاعفت الخشخشة، حتّى فاجأني بوجهه الكبير المربّع يضغط على وجهي الصغير المطلّ من بين السياج سائلاً بغضب:
ــ ما بك؟
أبعدتُ وجهي عن أنفاس فمه الكريهة التي تَبِعَت سؤاله، مشيراً إلى الجثّة بصوت مُتقطّع:
ــ ر ر بـ بـ يع... مات!
وبـهدوء أخذ يُدير الـمفاتيح في يديه باحثاً عن مفتاح الباب، وبأقلّ من الاهتمام أولج المفتاح ودخل ليرتّد الباب عن كتف الجثّة. دار حوله وهو ينخزه بعصاه منادياً:
ــ ربيع، ربيع.
قلت له بـحرارة:
ــ تنادي ميتاً يا هذا؟!
دقّ صدري برأس العصا:
ــ أغلق فمك.
ثم سحب جهاز النداء من مـخبئه في جانب بنطاله طالباً:
ــ ابعثوا لنا بالطبيب.
أطال النظر في المكان وفي السجناء الذين استحالوا حشراتٍ بغيضة، ثم نـهرني:
ــ عُد إلى الوراء واجلس كما كنت؛ كالفأر، أَسَمِعت؟
تراجعت خطوات إلى الوراء حتى أوقفني الحائط المظلم فانزلقت بظهري عليه واستويت القرفصاء. وبعد عشرين دقيقة تقريباً حضر طبيبٌ طويل، حنطي البشرة، واسع العينين، طويل الأنف، يمشّط شعره إلى الوراء بطريقةٍ ساحرة، وخلفه أربعةٌ من عاملي النظافة. أدار سمّاعته على صدر الجثّة وأعادها، ليقول بانزعاج:
ــ لقد مات من ساعات.
أشار الـجندي لعمّال النظافة بأن يحملوا الجثّة، فأحاطوا بها وأولجوها في كيسٍ بلاستيكيٍّ سميك، ورَشّوا مكانها بالماء، ومضوا مغلقين الباب خلفهم بقوّة، وصوت المفتاح يقرقع في الترباس بسرعة، ثمّ ابتعدت أصواتهم وهم يتجاذبون كيف مات.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طيور العتمة،
رواية - دار الساقي 2014م
ماجد سليمان، أديب سعودي
صدر له حتى الآن أكثر من 19 عملاً أدبيَّاً تنوّعت بين الشعر والرواية والمسرحية والقصة وأدب الطفل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...