دخان السنوات الطوال متكاثف على سقف الردهة الوسطى الفرن البارد يقبع في جمود كبير....الحزن يعرش في فناء الدار يحلق في السماء من خلال ثقوب صغيرة.. كوة ضيقة ينام فيها على الدوام قطعتا خشب متقاطعتان.. الأبواب المنهكة متهتكة من حرارة الشمس تتثاءب ذرات التراب المتصاعدة بين حين وآخر .. موقد طيني في الجانب المقابل يجاوره حزمة حطب ثلاث دور تدير ظهرها إلى هذه الدار التي تتوسطها أنين نحلة وشهقات جعلته يبحث عن مسكنه تشعره بثقل السكون وبلادته :
(( لم أدخل هذه الدار منذ أحد عشر عاما كنت في العاشرة يومها كل شيء قد أزداد قدما )) . نظر إلى شرخ في الحائط المواجه تسرب داخله وأحس بأن الماضي يقف في جانب والمستقبل في جانب آخر، و أن الأبواب الموصدة تناصبه العداء.. نقر إحداها سقط عليه فغزت جسده قشعريرة السلم الخشبي، تحطمت بعض أجزائه. قفز فوق أدراجه المحطمة بسهولة رأى ذبابة خضراء لامعة أعجبته، قرأ في رأسه حكاية قديمة روتها له أمه عن هذه الذبابة.. أرهبته قراءة السطور الأخيرة ، كانت مهتزة الحروف غير واضحة، لم يستبين فيها غير جثث الموتى ورؤية القبور وهذه الذبابة اللعينة تلتهم أجسادهم، فكر في أن يهاجمها فينزع أباه من بين أمعائها أدمعت عيناه ... ابتسمت شفتاه .. طاردها، وقف شعر رأسه وجسده.. كف عن مطاردتها، التصق بالجدار القريب غاصت عيناه في دائرة ضيقة نسجها عنكبوت، لمسها برز من الداخل بسرعة محاولا اصطياد أصبعه.. شعر بخوف مضاعف بينما عاد العنكبوت الى الداخل مخذولا، ابتسم هازئا من نفسه :
(( كنت أعبث بكل شيء من قبل .. حتى هذا العنكبوت كنت أوهمه أنني ذبابة وأضحك في بلاهة )) . كل شيء يكتم أنفاسه حتى الأبواب العتيقة التي كانت تجأر بالشكوى عندما تستقبل أو تستدير شخصا أو حتى عندما يزفر النسيم زفرة ارتياح هادئة وكل ما يحيط به قد كف عن الحركة إلا قطعة شاهدها على سطح دار عبد الهادي .. تجري بسرعة ثم تقف بعد قفزة كبيرة.. تقدم قليلا مما جعله يرى جارتهم القصيرة والحاجة أم صابر تجلس أمام بابها دونما حركة، طرد ابتسامة كانت تأخذ طريقها إلى ثغره وزوى ما بين حاجبيه (( كثيرا ما استشرناها ونحن نسكب لها الماء بجانب أحد جدران بيتها الطينى )) .
وهم بأن يصدق صوتها وهميا ((ماذا أقول ؟ .. وأين أذهب ؟ .... الماء حول الحائط إلى معجنة من الطين )). وأصوات واغلة تلج أذنيه لأطفال يصيحون طربا .. شاهد نفسه يتزعم شقاوتهم ويزهو لدى سماعه صوت الحاجة أم صابر : (( وأنت يا مقصوف الرقبة .. يا حمو أنا أنا سأقول كل ذلك إلى أبيك )). أعاد حشر هذه الذكريات الى رأسه عبر شريط خزنه في عقله وصاح (( كيف الحال يا خالة أم صابر )) . ترددت فترة حتى تأملته : الحمد الله يا بني..كيف حال والدتك ؟ أحسن من ذى قبل سمعت أنها مريضة ربنا يشفيها المفروض تلفوها فى حرير ترملت في سن باكرة وبقيت عليكم وتمسكت بكم ولم تهملكم . فهم كلماتها وأحس بالروابط الوثيقة التي تربطها بوالدته . . نهر السكون كل الأصوات المحيطة.. البيوت جميعها شبه خالية ... الحقول تستأثر حتى بالصبية في موسم جني القطن، توغلت عيناه على السطح القريب كانت قطة صغيرة تشاهد فى اهتمام بالغ قطة كبيرة وهى تحاول إمساك شيء وهمى بين مخالبها ثم تلتقطه بفمها ببراعة : (( هذه قطة تعلم ابنتها كيف تصطاد الفئران )).. انسكب صوت أبيه في أذنيه وأحس بأن ذراعا حنونا تحمله وبأنه طفل .. حدق في القطة وابنتها ..عاد إلى عمره الطبيعي وراح ينظر بإمعان إليهما معا ..كانت ابنة الأمس أم اليوم. أحس بأن السلام شيء مادي يتأبط ذراع قريته الناعمة وبأن الهدوء سمة مميزة طفق يلعن أشياء كثيرة مغمغما . نطح ذبابة مشاكسة برأسه وتشاجر بعصبية مع ذبابة أخرى كانت تقف على وجهه . حيا بعض النساء القليلات الجالسات أمام بيوتهن ... أندفع الدم إلى رأسه حقنا من نظراتهن المركزة (( ابن المرحوم عطيه ؟ )) . يظهر ..اللهم صلى على النبي ..كبر .. أصبح رجلا .. تلاشت أصواتهن بينما راحت أذنه تتحسس كلمة . لم يعد في الطريق الرئيس المؤدي الى الحقل غير صوت قدميه يلاحق أذنيه .. تلاشى كل ما يحيط به وتضاءل تحول الصهريج الضخم إلى شئ أصم أمام مشروع مياه الشرب الجديد .. عرج الى اليمين قاده ظله ..اضطرب .. تذكر سيارات |الأتوبيس» التي تهاجمه مرارا في شوارع المدينة المزدحمة، أنس إلى ظله ثم عاتبه بنظرة.. لاحظ وجود بعض الأعمدة الكهربائية اتسعت عيناه،، ركز نظراته على الأسلاك التي تخرج من غرفة صغيرة، صوت اندفاع المياه من حنفية .. يجذب حواسه التفت فكانت شابة رقيقة حلوة الملامح عارية القدمين .. تملأ جرة .. وامرأة واقفة: تسمح يا أستاذ؟ نعم ؟ تشيلني؟. تقدم إليها، وساعدها ثم تأخر منتظرا الشابة حتى تفرغ من ملء جرتها ، تسرب صوت، اندفاع المياه إلى نفسه عزبا أطلت روح الشابة من عينيها الجميلتين وبرز من مقلتيه يلتهم ملامحها الباهرة .. أقفلت الحنفية .. ضغط على عنق الجرة بقوة وشعر بلذة خفية تغمر كيانه، استقرت الجرة على رأسها في أسى بالغ .
هدى حجاجي أحمد - كاتبة من مصر
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(( المكانية في الفن ليست هذي التي في الواقع فقط
انما هنالك لها امتدادُ في اللامتناهي ايضاً))
/ نص نقدي مقابل لنص اشواك باكية //
تأكيداً انّ الهاجس التذكّري هنا ، هو المسبار الراصد ، او هو النشور الاول للمسح الفني في بحثنا هذا ، والذي يحتاط به القاص المبدع ، ويستمد منه في كشف المكانية الاعتبارية للقصة بالضبط ، وترصين
نقاط حدودها الملموسة عياناً ، مضافاً لها مكانيةً اخرى وهي النتيجة الحاصلة على مستوى
بلوغ الكمال المرجو ، فلعلَّ بالفن والادب مكانيّتيْنِ ، نقصد لكل نتاج تحفّه او تحمله مكانان ملموسان ، مكان وجوده الحقيقي المادي.وهو الطبيعة المكتظّة بالمخلوقات ذات الترابط الوجودي القائم ، ونحن منها ، والمكان الاخر هو المكان الاعتباري للقصة
وهنا ريع الفنية والادبية عند الكاتب ، بل هي الحرية المكانية
ولربَّ سؤال ،،اين يقف المبدع القاص في لحظة السحب الاستدعائي للخامة ، او استجلاب الطينة الاولى،،،؟
الكاتبة هدى بالضبط لو تحرّينا من باب النقد هذا ، فنُعيّن ايْنيّتَها المكانية ، قد تكون داخل سيارتها ، او على حافة بحر تنظر تلاطم امواجه وبواخره ، وقد تكون بعيدةً عن المشهد نفسه ، فلعلّ الجسد يرتحل ، نعم
يهاجر كالطير في كل لحظة ، وهذي حرية الفن والادب المفتوحة الحلقات ، ومنها تاتي مطالبة المبدع بالحرية ، والتي ينوي انتاجها وفرضها ، المبدع حرٌّ غير مقيد حتماً ، والا ماكان مبدعاً ، فقط المبدعون هم الذين يعرفون نُظُمَ الحرية وحجمها ومردود اسبابها ، ومن بعدهم يأتي دور السياسين، ليحدّوا المكانية لها بالطبشور على اللوح او على الارض اكثر شي ، ويقولوا فوتوا من هنا واهدموا هذا او وسّعوا الممرات ،
الفنانون قبلُ اكيدٌ قبلُ ، يرون ما في العمق ، وهو تعاطٍ ادراكيٌّ ، وهذا مرتهن بالموهبة وطاقتها ، او هو قربك وبعدك من العدمي والغيبي ، فنحن مهما شطّت بنا الجادةُ تجدْنا إيمانيين ،
نؤمن ان (الايمان قبل المعرفة ) بالفطرة ، وهذا ينبوع الحقيقة التي تفيض منها الذات وتدلع سواقيها ،،
الاشواك الباكية ،، عنوان تشكيلي جامع لروح المكانية التي بحثنا وركّزنا عليها الان ، اذ وجدنا
بالمتعارف مكانيّتيْن ، وكان قد عيّناها اعلاه ، وقد نتوسّع ونقول ان المكانية نطاق مفتوح ومتعدد الخانات ، من السماء كجهة عليا الى وجه الارض كحياة دنيا ،. اي منها الغيبي هناك ومنه ينفتق الجين البِكْر ، و كما يقولون عنه ، انه عالم القوة نعم او عالم الذر ، والعدمي كذلك و بانواعه ، المظلم منه والمستنير ، وبه يترعرع الكائن مصافيَ ما له من حتوم وفترة ، والمكانية الوجودية والتي تلبسُنا ونلبسُها في المادي عياناً ،
وابلغ المكانيات هنا هي المكانية المقتبسة ابداعاً وهي المرجوة ، فالابداع جدل مشتمل على روح الخلود والبقاء عنوةً ، وله سر وشيفرة لايفقهها الا فنانٌ حاذق ،،
نعم كلنا نُفنى ونتبدّل الى غير صورة لولا الفن الضامن لوجودنا حتمياًً مادمنا قائمين وكل حسب
مصنّفه وهويته ، اذن لو عددنا المكانيّات التي تولد المخلوق الحيوي ايّما مخلوق قصة اشواك باكية او وردة اوغزال او نجمة وغيرها من المخلوقات نقول ،،
١-المكانية المطلقة وهي الرحم الصفري ،، ٢- المكانية العدمية ، وهذي طبيعة مناخية ملائمة ، ديماسية ومُسْفِرة ،، ٣- المكانية الوجودية مادية الاركان والجهات والكتل ،، ٤- المكانية الاعتبارية وهي الحاصل الحركي للصورة ايما صورة حتى اللامرئي منها ، وهذي نعني بها الحرية المرجوة ، والحرية اقتباس ابداع الذات الموهوب وصياغاتها حسب الصفات والنظم ،،
( اشواك باكية ) مرت من هنا من هذا السلم التدرجي وحسب عوامل التصيّر الجمالي فيها و كان قد اخذت دورة استحالتها في الحرية والمنال ،،
هدى القاصّة تترصّد غايتها باللاشعور وهو العمق الذاتي باتجاه المكانيات العميقة ، وبشعورها وهو العمق الاستيعابي من خلال حركة الدارج المترابط في الواقع ، تلفُّ وتلتفُّ جدلياً من حيث دوران الاشياء وتفاعلها معها ، فهناك غامض يحمل روح التكوين ، ليكون ويسهم بدورة الحياة ، ولكن عن طريق ذات باهرة ، هي الذات المؤهلة التي تملك
رياضة التخلّق والابتكار. والجمع الفيزيائي الكوني والقيمي للصورة النصّيّة،
فكل صورة ما لها من كمال تشكيلي الا وبها من روح الوجود المكانيّة وصفات اللدنيات المستترة قبلها ، العدمية والغيبية الى الفهرس الاعتباري الذي نرى جاهزية الجمال به ،،
فالوصفية التي اعلنها الراوي مثلاً كانت قياساً معلناً للحصر الاول لهيكلة المكانية المباشرة ولكنها في
مستوى الوجود المشحون باطياف الصور وحركة الرموز وتفاعلها ، نعم وجد ضالته فيها ، وجدها على شاكلة القصّ الفني معرفة ، باعتبار ان المبنى النصي مكاشفة المرئي والمحسوس
في الموقف التصيُّري و ما تلاه ، موقف ملازمة المبدع مع عناصره وامكاناته ،،
( دخان السنوات الطوال ، سقف الردهة الوسطى ، الفرن البارد ، ثقوب صغيرة ، كوة ضيقة ينام فيها على الدوام قطعتا خشب متقاطعتان ، الابواب المنهكة ، موقد طيني ، حزمة حطب ، ثلاث دور تدير ظهرها لهذي الدار ، أنين نحلة )
هذي العناصر المذكورة خطوط اشّرت لنا حدود المكانية الاخيرة وهي التي نستشف من خلال ترابطها حاصل القص الحركي جدلاً ديناميكياً ومكاشفةً للذات ،
فالقاص بحكم ذهنيته وملكاته التعبيرية يرسم نسبيةً مبهرةً من الفن والادب يستدرج بها معلوم الجمال والمعرفة جراء ماتعكس عناصر الخلق عنده من معان عميقة ورؤى،
يعرف تماماً الى اي الجهات يدفع ، ولاي الصفات والمضامين يصنع ، ليخدم غرضه الفني ،
( لم ادخل هذه الدار منذ احد عشر عامًا ، كنت في العاشرة يومها كل شي ازداد قدماً )
الهاجس التذكري كان اول وخزة نفذت بجسد الوقت واول لمسة على جسد مكان في طور الحصر ، لذا نجد تسمية الجنس الادبي هذا بالقصة ، والمشتق من حركة سلوكية واقعية ، قص
يقصُّ قصّاً اقصوصةً ، وكأنَّ شيئاً جاهزا من قبل ، ويدٌ اخذت بالقصِّ والتقطيع والتتابع اللَّحْمَوي للبنية حتى اعطاء المراد كاملاً الى الاخير ، وهكذا هو نزول الماهيات الحتمي ، وكان قد ذكرنا في بحوث سبقت ان القصة واقع سبق المبدع ، المبدع مُخْتزِل
او عالم احفوريٌّ ينبش عن الهيئات الصورية واللُّقى المكنونة في تلول الزمان والمعرفة ،، كاشفٌ عنها الغطاءَ والغبار ، ليقدمها بديعةً منيعةً من الرثاثة والكمّي ، كذلك الرواية وهي المساحة الاكبر جداً ، والمستوعبةُ لحياة اشمل واكثر ،
هذا كله موجود في طبق مكانية وجودية سبقت وحفظت عوالماً من حركة الكون ونواميسه وبحكم وجود الانسان نفسه ، وكانت مسرحاً وعَرْضاً يوماً ما ،
فجاء الفنان انقاذاً يعيد روحَ وجودٍ مكاني آخر َ يراه موائماً ، ليغرس بذور الضوء به ، ويقدم لنا صيغاً باهرة محدثةً تزينُ المجال وتزيده بهاءًا ،،
( كانت قطة صغيرة تشاهد باهتمام بالغ قطةً كبيرةً ، وهي تحاول امساك شي وهمي بين مخالبها
ثم تلتقطه بفمها ببراعة ، هذي قطة تعلم ابنتها كيف تصطاد الفئران ،
انسكب صوت ابيه باذنيه ، واحس انّ ذراعاً حنوناً تحمله وبأنّه طفل ، حدّق بالقطة وابنتَها ،
عاد الى عمره الطبيعي ، وراح ينظر بامعان اليهما ، )
ومن هنا بدأ ديالكتيك خاص للمعاني بشكل مؤثّر ، وبدأ تفاعل اقتراني ، وهذا يؤدي بنا الى
توالد واتساع المشهد ، وتنامي روح جديدة في القص الفني ، و في منهج اصحابي نطلق عليه الاعتبار المتعالي ، فيما لو كان
عبقرياً ، كفنون كبار كتابنا العرب او عند كتابات المبدعين العالميين ،
وفي نفس الوقت نعيّن نسغ المكانية الاخيرة عادةً وهي الاعتبار الوجودي الصبغة ويكون اقرب للحواس والشعورية بل هو الذي نعتبره المتبنى الذهني للخيال والفكرة المحدثة ، بل تكمن به منطقة ترابط الموجودات ،،فضلاً عن مرورنا نقدياً بتوضيح مضمون مكانية اشواك باكية ، بل نقول لها الفضل في ولادة الحوار والجدل التنظيري هذا ،،
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الناقد الاعتباري
ا٠حميد العنبر الخويلدي ،، العراق
(( لم أدخل هذه الدار منذ أحد عشر عاما كنت في العاشرة يومها كل شيء قد أزداد قدما )) . نظر إلى شرخ في الحائط المواجه تسرب داخله وأحس بأن الماضي يقف في جانب والمستقبل في جانب آخر، و أن الأبواب الموصدة تناصبه العداء.. نقر إحداها سقط عليه فغزت جسده قشعريرة السلم الخشبي، تحطمت بعض أجزائه. قفز فوق أدراجه المحطمة بسهولة رأى ذبابة خضراء لامعة أعجبته، قرأ في رأسه حكاية قديمة روتها له أمه عن هذه الذبابة.. أرهبته قراءة السطور الأخيرة ، كانت مهتزة الحروف غير واضحة، لم يستبين فيها غير جثث الموتى ورؤية القبور وهذه الذبابة اللعينة تلتهم أجسادهم، فكر في أن يهاجمها فينزع أباه من بين أمعائها أدمعت عيناه ... ابتسمت شفتاه .. طاردها، وقف شعر رأسه وجسده.. كف عن مطاردتها، التصق بالجدار القريب غاصت عيناه في دائرة ضيقة نسجها عنكبوت، لمسها برز من الداخل بسرعة محاولا اصطياد أصبعه.. شعر بخوف مضاعف بينما عاد العنكبوت الى الداخل مخذولا، ابتسم هازئا من نفسه :
(( كنت أعبث بكل شيء من قبل .. حتى هذا العنكبوت كنت أوهمه أنني ذبابة وأضحك في بلاهة )) . كل شيء يكتم أنفاسه حتى الأبواب العتيقة التي كانت تجأر بالشكوى عندما تستقبل أو تستدير شخصا أو حتى عندما يزفر النسيم زفرة ارتياح هادئة وكل ما يحيط به قد كف عن الحركة إلا قطعة شاهدها على سطح دار عبد الهادي .. تجري بسرعة ثم تقف بعد قفزة كبيرة.. تقدم قليلا مما جعله يرى جارتهم القصيرة والحاجة أم صابر تجلس أمام بابها دونما حركة، طرد ابتسامة كانت تأخذ طريقها إلى ثغره وزوى ما بين حاجبيه (( كثيرا ما استشرناها ونحن نسكب لها الماء بجانب أحد جدران بيتها الطينى )) .
وهم بأن يصدق صوتها وهميا ((ماذا أقول ؟ .. وأين أذهب ؟ .... الماء حول الحائط إلى معجنة من الطين )). وأصوات واغلة تلج أذنيه لأطفال يصيحون طربا .. شاهد نفسه يتزعم شقاوتهم ويزهو لدى سماعه صوت الحاجة أم صابر : (( وأنت يا مقصوف الرقبة .. يا حمو أنا أنا سأقول كل ذلك إلى أبيك )). أعاد حشر هذه الذكريات الى رأسه عبر شريط خزنه في عقله وصاح (( كيف الحال يا خالة أم صابر )) . ترددت فترة حتى تأملته : الحمد الله يا بني..كيف حال والدتك ؟ أحسن من ذى قبل سمعت أنها مريضة ربنا يشفيها المفروض تلفوها فى حرير ترملت في سن باكرة وبقيت عليكم وتمسكت بكم ولم تهملكم . فهم كلماتها وأحس بالروابط الوثيقة التي تربطها بوالدته . . نهر السكون كل الأصوات المحيطة.. البيوت جميعها شبه خالية ... الحقول تستأثر حتى بالصبية في موسم جني القطن، توغلت عيناه على السطح القريب كانت قطة صغيرة تشاهد فى اهتمام بالغ قطة كبيرة وهى تحاول إمساك شيء وهمى بين مخالبها ثم تلتقطه بفمها ببراعة : (( هذه قطة تعلم ابنتها كيف تصطاد الفئران )).. انسكب صوت أبيه في أذنيه وأحس بأن ذراعا حنونا تحمله وبأنه طفل .. حدق في القطة وابنتها ..عاد إلى عمره الطبيعي وراح ينظر بإمعان إليهما معا ..كانت ابنة الأمس أم اليوم. أحس بأن السلام شيء مادي يتأبط ذراع قريته الناعمة وبأن الهدوء سمة مميزة طفق يلعن أشياء كثيرة مغمغما . نطح ذبابة مشاكسة برأسه وتشاجر بعصبية مع ذبابة أخرى كانت تقف على وجهه . حيا بعض النساء القليلات الجالسات أمام بيوتهن ... أندفع الدم إلى رأسه حقنا من نظراتهن المركزة (( ابن المرحوم عطيه ؟ )) . يظهر ..اللهم صلى على النبي ..كبر .. أصبح رجلا .. تلاشت أصواتهن بينما راحت أذنه تتحسس كلمة . لم يعد في الطريق الرئيس المؤدي الى الحقل غير صوت قدميه يلاحق أذنيه .. تلاشى كل ما يحيط به وتضاءل تحول الصهريج الضخم إلى شئ أصم أمام مشروع مياه الشرب الجديد .. عرج الى اليمين قاده ظله ..اضطرب .. تذكر سيارات |الأتوبيس» التي تهاجمه مرارا في شوارع المدينة المزدحمة، أنس إلى ظله ثم عاتبه بنظرة.. لاحظ وجود بعض الأعمدة الكهربائية اتسعت عيناه،، ركز نظراته على الأسلاك التي تخرج من غرفة صغيرة، صوت اندفاع المياه من حنفية .. يجذب حواسه التفت فكانت شابة رقيقة حلوة الملامح عارية القدمين .. تملأ جرة .. وامرأة واقفة: تسمح يا أستاذ؟ نعم ؟ تشيلني؟. تقدم إليها، وساعدها ثم تأخر منتظرا الشابة حتى تفرغ من ملء جرتها ، تسرب صوت، اندفاع المياه إلى نفسه عزبا أطلت روح الشابة من عينيها الجميلتين وبرز من مقلتيه يلتهم ملامحها الباهرة .. أقفلت الحنفية .. ضغط على عنق الجرة بقوة وشعر بلذة خفية تغمر كيانه، استقرت الجرة على رأسها في أسى بالغ .
هدى حجاجي أحمد - كاتبة من مصر
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(( المكانية في الفن ليست هذي التي في الواقع فقط
انما هنالك لها امتدادُ في اللامتناهي ايضاً))
/ نص نقدي مقابل لنص اشواك باكية //
تأكيداً انّ الهاجس التذكّري هنا ، هو المسبار الراصد ، او هو النشور الاول للمسح الفني في بحثنا هذا ، والذي يحتاط به القاص المبدع ، ويستمد منه في كشف المكانية الاعتبارية للقصة بالضبط ، وترصين
نقاط حدودها الملموسة عياناً ، مضافاً لها مكانيةً اخرى وهي النتيجة الحاصلة على مستوى
بلوغ الكمال المرجو ، فلعلَّ بالفن والادب مكانيّتيْنِ ، نقصد لكل نتاج تحفّه او تحمله مكانان ملموسان ، مكان وجوده الحقيقي المادي.وهو الطبيعة المكتظّة بالمخلوقات ذات الترابط الوجودي القائم ، ونحن منها ، والمكان الاخر هو المكان الاعتباري للقصة
وهنا ريع الفنية والادبية عند الكاتب ، بل هي الحرية المكانية
ولربَّ سؤال ،،اين يقف المبدع القاص في لحظة السحب الاستدعائي للخامة ، او استجلاب الطينة الاولى،،،؟
الكاتبة هدى بالضبط لو تحرّينا من باب النقد هذا ، فنُعيّن ايْنيّتَها المكانية ، قد تكون داخل سيارتها ، او على حافة بحر تنظر تلاطم امواجه وبواخره ، وقد تكون بعيدةً عن المشهد نفسه ، فلعلّ الجسد يرتحل ، نعم
يهاجر كالطير في كل لحظة ، وهذي حرية الفن والادب المفتوحة الحلقات ، ومنها تاتي مطالبة المبدع بالحرية ، والتي ينوي انتاجها وفرضها ، المبدع حرٌّ غير مقيد حتماً ، والا ماكان مبدعاً ، فقط المبدعون هم الذين يعرفون نُظُمَ الحرية وحجمها ومردود اسبابها ، ومن بعدهم يأتي دور السياسين، ليحدّوا المكانية لها بالطبشور على اللوح او على الارض اكثر شي ، ويقولوا فوتوا من هنا واهدموا هذا او وسّعوا الممرات ،
الفنانون قبلُ اكيدٌ قبلُ ، يرون ما في العمق ، وهو تعاطٍ ادراكيٌّ ، وهذا مرتهن بالموهبة وطاقتها ، او هو قربك وبعدك من العدمي والغيبي ، فنحن مهما شطّت بنا الجادةُ تجدْنا إيمانيين ،
نؤمن ان (الايمان قبل المعرفة ) بالفطرة ، وهذا ينبوع الحقيقة التي تفيض منها الذات وتدلع سواقيها ،،
الاشواك الباكية ،، عنوان تشكيلي جامع لروح المكانية التي بحثنا وركّزنا عليها الان ، اذ وجدنا
بالمتعارف مكانيّتيْن ، وكان قد عيّناها اعلاه ، وقد نتوسّع ونقول ان المكانية نطاق مفتوح ومتعدد الخانات ، من السماء كجهة عليا الى وجه الارض كحياة دنيا ،. اي منها الغيبي هناك ومنه ينفتق الجين البِكْر ، و كما يقولون عنه ، انه عالم القوة نعم او عالم الذر ، والعدمي كذلك و بانواعه ، المظلم منه والمستنير ، وبه يترعرع الكائن مصافيَ ما له من حتوم وفترة ، والمكانية الوجودية والتي تلبسُنا ونلبسُها في المادي عياناً ،
وابلغ المكانيات هنا هي المكانية المقتبسة ابداعاً وهي المرجوة ، فالابداع جدل مشتمل على روح الخلود والبقاء عنوةً ، وله سر وشيفرة لايفقهها الا فنانٌ حاذق ،،
نعم كلنا نُفنى ونتبدّل الى غير صورة لولا الفن الضامن لوجودنا حتمياًً مادمنا قائمين وكل حسب
مصنّفه وهويته ، اذن لو عددنا المكانيّات التي تولد المخلوق الحيوي ايّما مخلوق قصة اشواك باكية او وردة اوغزال او نجمة وغيرها من المخلوقات نقول ،،
١-المكانية المطلقة وهي الرحم الصفري ،، ٢- المكانية العدمية ، وهذي طبيعة مناخية ملائمة ، ديماسية ومُسْفِرة ،، ٣- المكانية الوجودية مادية الاركان والجهات والكتل ،، ٤- المكانية الاعتبارية وهي الحاصل الحركي للصورة ايما صورة حتى اللامرئي منها ، وهذي نعني بها الحرية المرجوة ، والحرية اقتباس ابداع الذات الموهوب وصياغاتها حسب الصفات والنظم ،،
( اشواك باكية ) مرت من هنا من هذا السلم التدرجي وحسب عوامل التصيّر الجمالي فيها و كان قد اخذت دورة استحالتها في الحرية والمنال ،،
هدى القاصّة تترصّد غايتها باللاشعور وهو العمق الذاتي باتجاه المكانيات العميقة ، وبشعورها وهو العمق الاستيعابي من خلال حركة الدارج المترابط في الواقع ، تلفُّ وتلتفُّ جدلياً من حيث دوران الاشياء وتفاعلها معها ، فهناك غامض يحمل روح التكوين ، ليكون ويسهم بدورة الحياة ، ولكن عن طريق ذات باهرة ، هي الذات المؤهلة التي تملك
رياضة التخلّق والابتكار. والجمع الفيزيائي الكوني والقيمي للصورة النصّيّة،
فكل صورة ما لها من كمال تشكيلي الا وبها من روح الوجود المكانيّة وصفات اللدنيات المستترة قبلها ، العدمية والغيبية الى الفهرس الاعتباري الذي نرى جاهزية الجمال به ،،
فالوصفية التي اعلنها الراوي مثلاً كانت قياساً معلناً للحصر الاول لهيكلة المكانية المباشرة ولكنها في
مستوى الوجود المشحون باطياف الصور وحركة الرموز وتفاعلها ، نعم وجد ضالته فيها ، وجدها على شاكلة القصّ الفني معرفة ، باعتبار ان المبنى النصي مكاشفة المرئي والمحسوس
في الموقف التصيُّري و ما تلاه ، موقف ملازمة المبدع مع عناصره وامكاناته ،،
( دخان السنوات الطوال ، سقف الردهة الوسطى ، الفرن البارد ، ثقوب صغيرة ، كوة ضيقة ينام فيها على الدوام قطعتا خشب متقاطعتان ، الابواب المنهكة ، موقد طيني ، حزمة حطب ، ثلاث دور تدير ظهرها لهذي الدار ، أنين نحلة )
هذي العناصر المذكورة خطوط اشّرت لنا حدود المكانية الاخيرة وهي التي نستشف من خلال ترابطها حاصل القص الحركي جدلاً ديناميكياً ومكاشفةً للذات ،
فالقاص بحكم ذهنيته وملكاته التعبيرية يرسم نسبيةً مبهرةً من الفن والادب يستدرج بها معلوم الجمال والمعرفة جراء ماتعكس عناصر الخلق عنده من معان عميقة ورؤى،
يعرف تماماً الى اي الجهات يدفع ، ولاي الصفات والمضامين يصنع ، ليخدم غرضه الفني ،
( لم ادخل هذه الدار منذ احد عشر عامًا ، كنت في العاشرة يومها كل شي ازداد قدماً )
الهاجس التذكري كان اول وخزة نفذت بجسد الوقت واول لمسة على جسد مكان في طور الحصر ، لذا نجد تسمية الجنس الادبي هذا بالقصة ، والمشتق من حركة سلوكية واقعية ، قص
يقصُّ قصّاً اقصوصةً ، وكأنَّ شيئاً جاهزا من قبل ، ويدٌ اخذت بالقصِّ والتقطيع والتتابع اللَّحْمَوي للبنية حتى اعطاء المراد كاملاً الى الاخير ، وهكذا هو نزول الماهيات الحتمي ، وكان قد ذكرنا في بحوث سبقت ان القصة واقع سبق المبدع ، المبدع مُخْتزِل
او عالم احفوريٌّ ينبش عن الهيئات الصورية واللُّقى المكنونة في تلول الزمان والمعرفة ،، كاشفٌ عنها الغطاءَ والغبار ، ليقدمها بديعةً منيعةً من الرثاثة والكمّي ، كذلك الرواية وهي المساحة الاكبر جداً ، والمستوعبةُ لحياة اشمل واكثر ،
هذا كله موجود في طبق مكانية وجودية سبقت وحفظت عوالماً من حركة الكون ونواميسه وبحكم وجود الانسان نفسه ، وكانت مسرحاً وعَرْضاً يوماً ما ،
فجاء الفنان انقاذاً يعيد روحَ وجودٍ مكاني آخر َ يراه موائماً ، ليغرس بذور الضوء به ، ويقدم لنا صيغاً باهرة محدثةً تزينُ المجال وتزيده بهاءًا ،،
( كانت قطة صغيرة تشاهد باهتمام بالغ قطةً كبيرةً ، وهي تحاول امساك شي وهمي بين مخالبها
ثم تلتقطه بفمها ببراعة ، هذي قطة تعلم ابنتها كيف تصطاد الفئران ،
انسكب صوت ابيه باذنيه ، واحس انّ ذراعاً حنوناً تحمله وبأنّه طفل ، حدّق بالقطة وابنتَها ،
عاد الى عمره الطبيعي ، وراح ينظر بامعان اليهما ، )
ومن هنا بدأ ديالكتيك خاص للمعاني بشكل مؤثّر ، وبدأ تفاعل اقتراني ، وهذا يؤدي بنا الى
توالد واتساع المشهد ، وتنامي روح جديدة في القص الفني ، و في منهج اصحابي نطلق عليه الاعتبار المتعالي ، فيما لو كان
عبقرياً ، كفنون كبار كتابنا العرب او عند كتابات المبدعين العالميين ،
وفي نفس الوقت نعيّن نسغ المكانية الاخيرة عادةً وهي الاعتبار الوجودي الصبغة ويكون اقرب للحواس والشعورية بل هو الذي نعتبره المتبنى الذهني للخيال والفكرة المحدثة ، بل تكمن به منطقة ترابط الموجودات ،،فضلاً عن مرورنا نقدياً بتوضيح مضمون مكانية اشواك باكية ، بل نقول لها الفضل في ولادة الحوار والجدل التنظيري هذا ،،
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الناقد الاعتباري
ا٠حميد العنبر الخويلدي ،، العراق