أ. د. لطفي مصور - قَصيدَةُ النَّفسِ أوِ الرُّوح الْفَلْسَفِيَّةِ:

لِلرَّئيسِ الْحُسينِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سينا زَعيمِ أَطِبَّاءِ الْعالَمِ في عَصْرِهِ (ت ١٠٣٧م) منْ بَحْرِ الْكامِلِ
- هَبَطَتْ إلَيْكَ مِنَ الْمَحَلِّ الأَرْفَعِ
وَرْقاءُ ذاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّعِ
(يُؤْمِنُ ابْنُ سينا بانْفِصالِ الْجَسَدِ عَنِ الرُّوحِ أوِ النَّفْسِ الْعاقِلَةِ النّاطِقَةِ. وَحَسْبَ الرِّوايَةِ الإسلامِيَّةِ فَإنَّ آدَمَ أبا الْبَشَرِ مَكَثَ أَرْبَعينَ عامًا وَهو مُجَنْدَلٌ عَلَى الْجُدالَةِ وَهِيَ الأَرْضُ، حَتَّى نَفَخَ اللَّهُ فيهِ الرُّوحَ، فَصَوَّرَ الفيلسوفُ النَّفْسَ الإنْسانِيَّةَ، لا نَفْسًا أُخْرَى، حَمامَةً غبراءَ قَدْ هَبَطَتْ مِنْ عالمِ الْقُدسِ الْإلَهي عَلَى مَضَضٍ وَتَعَزُّزٍ مِنْها، لَا تُريدُ الانتِقالَ إلَى الأرْضِ الْجَسَدِ لِتُحْبَسَ فيه.
- مَحْجوبَةٌ عَنْ مُقْلَةِ كُلِّ عارِفٍ
وَهِيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمّا تَتَبَرْقَعِِ
( النَّفْسُ فينا لا تُرَى فَهِيَ مَحْجوبَةٌعنا، لَكِنَّها سافِرَةٌ مَكْشوفَةٌ لِلْعارِفينَ باللَّهِ أصْحابِ الْعَقْلِ الكامِل، وهمْ قِلَّةٌ قَليلَةٌ، ويعني بهم الْمُتَصَوِّفَةَ، والبُرْقُعُ كالْخِمارِ فيهِ فَتْحَتانِ لِلْعَيْنَيْنِ)
- وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إلَيْكَ وَرُبَّما
كَرِهَتْ فِراقَكَ وَهِيَ ذاتُ تَفَجُّعِ
( الضَّميرُ المُسْتَتِرُ في وَصَلَتْ يعود إلَى النَّفْسِ، شِبْهُ الْجُمْلَةِ عَلَى كُرْهٍ مُتَعَلِّقَةٌ بِحالٍ مَحْذوفَةٍ تَقْديرُها كارِهَةً. لَكِنَّ النَّفْسَ تُشْفِقُ عَلَى جَسَدِها عِنْدَ فِراقِها لَهُ لِأَنَّهُ يَجْزَعُ مِنَ الْمَوْتِ)
- أَنِفَتْ وَما أَلِفَتْ فَلَمّا واصَلَتْ
أَنِسَتْ مُجاوَرَةَ الْخَرابَ الْبَلْقَعِ
( أَنِفَ الشَّيْءَ كَرِهَهُ، وَألِفَهُ اعْتادَ عَلَيْهِ؛ وَقَدْ طابَقَ ابْنُ سينا بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ. هَذِهِ النفسُ اعتادَتْ عَلَى الْجَسَدِ الذي هو كَالْخَرابِ لِأنَّهُ فانٍ)
- وَأَظُنُّها نَسِيَتْ عُهودًا بِالْحِمَى
وَمَنازِلًا بِفِراقِها لَمْ تَقْنَعِ
( يَظُنَُ الشّاعِرُ أنَّ النَّفْسَ قَدْ نَسِيَتْ لِطولِ الأُلْفَةِ بِالْجَسَدِ مرابِعَها الأولَى في المَقاماتِ الْعَلِيَّةِ، عِنْدَ الْحَضْرَةِ الإلَهِيَّةِ، فَهِيَ نَزّاعَةٌ دائِمًا لِلْخُروجِ مِنَ الأسْرِ، وَكَنَّى بالْحِمَى عن تِلْكُمُ المرابِعِ الْقُدْسِيَّةِ.
- حَتََى إذا اتَّصَلَتْ بِهاءِ هُبوطِها
عَنْ مِيمِ مَرْكَزِها بِذاتِ الأجْرُعِ
الهاءُ رمزُ الْهُبوط، الْميم رمزُ الْمَرْكز الذي خَرَجَتْ مِنْهُ النَّفْس. ذاتُ الأجْرُع: هي الأرضُ الْمُجْدِبَةُ. قالَ ذُو الرُّمَّةِ: مِنَ الطَّويلِ
أَلا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيٍّ عَلَى الْبِلَى
وَلا زالَ مُنْهَلّا بِجَرْعائِكِ الْقَطْرُ)
- عَلِقَتْ بِها ثاءُ الثَّقيلِ فَأصْبَحَتْ
بَيْنَ الْمَعالِمِ وَالطُّلُولِ الْخُضَّعِ
(الثَّاءُ كِنايَةٌ عَنِ الثًِّقل. شَعَرَتِ النَّفْسُ العاقِلَةُ بِثِقَلِها عَلَى الأرْضِ وهي تدورُ بَيْنَ المواقِعِ والآثار الْجامدَة كَأنّها خاشِعَةٌ لِخالِقِها) هُنا إظهارٌ لِلْحَياةِ القاسِيَةِ عَلَى الأرْضِ)
- تَبْكِي إذا ذَكَرَتْ عُهودًا بِالْحِمَى
بِمَدامِعٍ تَهْمِي وَلَمّا تُقْلِعِ
( كَيْفَ لا تبكي هَذِهِ النَّفْسُ بِدُموعٍ غَزيرَةٍ مُتَواصِلَةٍ، وَقَدْ تَرَكَتْ مَوْطِنَها الْقُدْسِيَّ. أظُنُّ أنَّ الشَّاعِرَ يَرْمُزُ إلَى هَديلِ الْحَمامِ، فَقَدْ شَبَّهَ النَّفْسَ بالْوَرْقاءِ)
- وتَظَلُّ ساجِعَةً عَلَى الدِّمَنِ الَّتِي
دَرَسَتْ بِتَكْرارِ الرِّياحِ الْأَرْبَعِ
( السَّجْعُ: تَرْديدُ صَوْتِ الحَمامَةِ، الدِّمَنُ: جَمْعُ دِمْنَةٍ وهوَ الْعْشْبُ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَى رَوْثِ الْحَيَوان، دَرَسَتْ: اِمَّحَتْ وَبَقِيَتْ آثارُها.
يَقولُ إنَّ النَّفْسَ تَظَلُّ تَبْكِي بَقايا الجَسَدِ الَّذِي تَرَكَتْهُ)
- حَتَّى إذا قَرُبَ الرَّحيلُ إلَى الْحِمَى
وَدَنا الرَّحيلُ إلَى الْفَضاءِ الأوْسَعِ
( الرَّحيل: تَرْكُ النَّفْسِ الْجَسَدَ وَصُعودِها إلَى الْأَقْداسِ الْإلَهِيَّةُ)
- وَغَدَتْ مُفارِقَةً لِكُلِّ مُخَلَّفٍ
عَنْها أليفِ التُّرْبِ غَيْرِ مُشَيَّعِ
- هَجَعَتْ وَقَدْ كُشِفَ الْغِطاءُ وَأبْصَرَتْ
ما لَيْسَ يُدْرَكً بِالْعُيُونِ الْهُجَّعِ
(بَعْدَ أنْ تَقْطَعَ النَّفْسُ كُلََ عَلاقَةٍ لَها مَعَ الْجَسَدِ تَسْتَقِرُّ وَتُدْرِكُ ما لَمْ تُدْرِكُهُ وَهِيَ سَجينَةٌ في الْجَسَدِ، وَتُبْصِرُ مالَمْ تَكُنْ تُبْصِرُ، وفي هذا يَقولُ سُبْحانَهُ: “فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَديدٌ”، وَيَقُولُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ “النّاسُ نِيامٌ فَإذا ماتوا انتَبَهُوا”)
- وَغَدَتْ تُغَرِّدُ فَوْقَ ذُرْوَةِ شاهِقٍ
وَالْعِلْمُ يَرْفَعُ كُلَّ مَنْ لَمْ يُرْفَعِ
(تَفْرَحُ النََفْسُ بَعْدَ تَحَرُّرِها مِنَ الْجَسَدِ فَتُغَرِّدُ طَرَبًا لِأَنَّها أصْبَحَتْ تُدْرِكُ ما لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ)
- فَلِأَيِّ شَيْءٍ أُهْبِطَتْ مِنْ شاهِقٍ
عالٍ إلَى فَعْرِ الْحَضِيضِ الْأَوْضَعِ
- إنْ كانَ أَهْبَطَها الْإلَهُ لِحِكْمَةٍ
طُوِيَتْ عَلَى الْفّذِّ اللَّبيبِ الْأَرْوَعِ
- فَهُبوطُها لا شَكَّ ضَرْبَةُ لازِبٍ
لِتَكونَ عالِمَةً بِما لَمْ تَسْمَعِ
- وَتَعُودُ عالِمَةً بِكُلِّ خَفِيَّةٍ
في الْعالَمينَ فَخَرْقُها لَمْ يُرْقَعِ
(يتَساءَلُ الرَّئيسُ ابْنُ سينا عِنْ عِلَّةِ وجودِ الَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَما هيَ الْحِكْمَةُ الْإلَهِيَّةُ في هذا، وَيُقَرِّرُ أنَّ هُبُوطَ مِنَ الْمَكانِ الْقُدْسِيِّ الْأَعْلَى هو ضَرْبُةُ لازِبٍ، أَيْ شَيْءٌ حَتْمٍيٌّ مِنَ الْخالِقِ لِتَطَّلِعَ النَّفْسُ عَلَى الأسرارِ الْأرْضِيَّةُ عن طريق سَجْنِها بِالْجَسدِ، ثُمَّ انْفِلاتُها عَنْهُ بالْمَوْتِ لِتَعودَ إلَى العالَمِ الْعُلٍوِي، وَتُدْرِكَ ما لَمْ تُدْرِكْهُ وَهِيَ في الْعالَمِ الأرْضِيِّ فَيَسْتَوِي عِلْمُها. خَرْقُها لَمْ يُرْقَعْ مثَلٌ معناه لَيْسَ لها خَرْقٌ يُرْقَعُ لِأَنَّ معرفتّها اعتَدَلَتْ. وَمِنْهُ اتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرّاقِعُ. لِمَنْ فَشِلَ.
إلَى هُنا.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...