يساير عنوان ديوان الشاعر زهير توفيق "سماء أوديتي رؤاي"(عمان: أزمنة، 2021) ما اكتنزته قصائده من فكر صوفي فلسفي في محاولة لاستكناه الوجود، وفهم العالم والحياة. واحتوى الديوان أربعة قصائد: "معراج جلجامش"، و" في شارع السبعين"، و" دمشق باب الرؤيا"، و"هجرة السنونو".
في القصيدة الأولى كما يبدو من عنوانها" معراج جلجامش" الإفادة من التراث الديني بالإشارة إلى قصة الإسراء والمعراج التي وردت في القرآن الكريم عندما أسري الرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعروجه إلى السماء، والإفادة من التراث السومري بالإشارة إلى جلجامش ملك مدينة الوركاء الذي طاف يبحث عن إكسير الخلود بعد موت صديقه إنكيدو.
وتبدأ القصيدة برؤيا حيث ينطلق السالك الصوفي الذي تتقمصه الذات الشاعرة في رحلة صوفية ميتافيزيقية إلى السماوات العلا، وفيها يتلاشى الزمن، وتتحرر الروح من سجنها البدني، للوصول إلى غايتها الفلسفية وهي فهم طبيعة الموت، ومعرفة طرق الخلاص منه، من أجل الحصول على إكسير الحياة.
رأيتُ نفسي في السَّديمِ، كأنَّ لي فرساً شموساً في الصُّعودِ وفي العُروج
على مَدار السَّالِكين
رأيتُ رؤيا لم أَعُدْ أدري بها في أيِّ نجمٍ قد أكونُ، لأعتليهِ على دُروبِ
العالمَينْ
فكَّرتُ بالماضي العتيدِ، فلم أجدْ بَدَني معي لأَمضيَ في السَّماء إلى
نهاياتِ السنينْ.
وها أنا أُدلي بدلوي للمُثولِ أمامَ روحي والخروجِ من بَدَني السجينْ(ص25)
وفي الرحلة يلتقي الشاعر كثيرًا من الشخصيات كخازن الجنة والخضر وجبريل وعزرائيل وإبليس، كما يرى الحلاج شهيدًا يطوف في الليل. ولا يأبه بنصيحة ملاك له بالعدول عن مغامرته والعودة إلى مدينته. إنه يبتغي الوصول إلى هدفه مثل جلجامش وهو الحصول على إكسير الحياة فلا يموت أبدًا. لهذا نراه يمتدح في حواره الطويل مع اليعسوب موافقته على مرافقته في رحلته البحثية عن الخلود. والمعروف أن اليعسوب رمز البعث والتجدد في الأساطير القديمة، وهي من أسرع الحشرات وأقدر المخلوقات على الرؤية.
لن نرجعَ يا مولايَ ولن نَتوانى، حتّى نَصِلَ إلى الإكْسيرِ
أو المَلَكوتِ أو اللّاهوتِ القائمِ بين يَديهِ(ص43)
وتنتهي الرحلة، لا كما انتهت رحلة جلجامش، بأن عاد إلى الوركاء المدينة التي بناها خالي الوفاض، بل إنه لم يعد في الأساس، فقد تحقق له الفناء بالذات العلية، كما تحقق لأبي يزيد البسطامي الذي كان يرى نفسه عدمًا محضًا، يقول عن ذلك:" خرجت من بايزيديتي كما تخرج الحية من جلدها، ونظرت فإذا العاشق والمعشوق والعشق واحد؛ لأن الكل واحد في عالم التوحيد".
وهناكَ في الأعلى مَقامي أو مَداري لِلمَساسِ
بِحَضْرَةِ الأشياءِ في الوادي المُقدَّسِ بين ذاتي والوجود
انا الوعود
أنا الرعود
أنا الصُّعودُ إلى السُّهى من برج بابل والمدى
أنا مِفتاحُ من جاءوا إلى وِديانِ بُسطامي:...
"فَسُبحاني على شاني
على فَيْضِ الأُلوهةِ والنُّبوّةِ في المَقامِ الثّاني"(ص46)
إذا كانت قصيدة "معراج جلجامش" تسعى لفهم الموت والخلود فإن قصيدة "في شارع السبعين" تسعى لفهم المأساة الفلسطينية في عامها السبعين العام الذي كتبت فيه القصيدة. وتبدأ القصيدة بحركة الزمن عندما يُقتلع الشاعر من وطنه، ويضيع مع جيله من الشباب بسبب هؤلاء الدعاة الذين تركوا الوطن للأجنبي بحجة التفرغ للعبادة.
مَضى زَمَني بِلا عَدَنٍ، تَكسَّر في المَرايا
وعادني الوسواسُ يا امرأتي إذا لمح الأجانبُ ساعديْكِ على المَصاطبْ
فتاهَ جيلي خلفَ عرّافٍ تَمادى في البَراري
وبارحَ الوطنَ السَّليبَ بِحُجَّةِ الإيمانِ أوْلى من سِجالِ الفاتحين (ص 50)
تعي الذات الشاعرة التي تتكلم باسم الذات الجمعية، مثلما كان يعي جلجامش، بأن الطريق إلى حلمه بحرية وطنه محفوفة بالخطر والموت، لكنه لن يستسلم لليأس من الوصول إلى هدفه. لهذا يخاطب الموت بأنه لن يخافه، ويدعوه إلى أن ينشغل بالآخرين الذين يحسبون له الحساب.
سَتعْلَمُ يا فتى أنَّ الرَّدى حَوْلَكْ، وراءَكَ في الدُّنا...
وينامُ فيك مُردِّدا: لو كنتَ وحدكَ لابتعدتُ عن المَدى
وما عليكَ سِوى الرَّحيلِ
متى وجدتُكَ نائماً أجْهزتُ فيك على الوجودِ...
فقلتُ وَيْحَكَ يا رَدى
لا لن تَمرَّ بِخاطري خوفاً ولا يَأساً من الدُّنيا
فَبارِكْ مَن أتاكَ مُهلِّلاً، أمّا أنا، فَعليْكَ بعضُ الانتظار(ص52)
ما تزال روحه قوية، وسيحقق النصر في النهاية، مع أنه الان يفتقد الهوية، وأمله ضعيف في الوصول إلى هدفه، لأن قومه تخلوا عنه حتى صار أعداؤه" سلطان القبائل أجمعين.(ص69)
لا صَوْتَ لي
لا وَجْهَ لي
حتّى التَّجلِّ صارَ في تُلمودِ جيراني الأوائل
" ورداً أقَلّ"
سأنْتَصِرُ، وأردُّ كَيْدَكَ بِالتَّعالي وأَعيشُ رغمَ الشَّاهِ والزَّمنِ الرَّديء.(ص61)
نلاحظ في هذه الأسطر توظيف الشاعر عنوان ديوان محمود درويش "ورد أقل" في الإشارة إلى صعوبة الطريق وقلة الأمل. كما نلاحظ عدم تخلي الشاعر عن استخدام المفردات الصوفية من التراث الإسلامي واليهودي. ونجده في خضم مأساته يتذكر الشاعر خليل حاوي من خلال التناص مع قصيدته المشهورة "يعبرون الجسر".
مولايَ!
بين إشارتي وعبارتي ضاقَ المدى، وبَنَيْتُ جِسْراً مثل (حاوي(
بين أضلاعي وأطرافِ السَّماءِ
وقلتُ: مُرّوا يا رفاقُ(ص78)
إنه مكتوب عليه وقدره ان يطارد من خطفوا وطنه الذي يرمز إليه بليلى.
أسَفي على أسَفي
على جسدي الَّذي بَدأ التَّصابي
وَالذَّهابَ وَراءَ ليلى من جديد(ص82)
وتتبدى روح جلجامش في القصيدة الثالثة" دمشق باب الرؤيا" وهي رحلة وسط الفوضى والدمار، والبحث عن دمشق القديمة، التي قال عنها ياقوت الحموي في معجم البلدان:" لم توصَف الجَنّة بشيءٍ إلاّ وفي دمشقَ مثله ". وفي سبيل الاقتراب من دمشق تستعيد الذات قوتها وتكشف أسرارها وتتحمل ما تحمله جلجامش، وهو يغذ الخطا نحو دلمون (قيل البحرين الآن) للبحث عن زهرة الخلود دون اهتمام بما يحدث له من انتصار أو انكسار.
أيا دمشقُ:
وقد أبانَتْ عن خُطايَ السَّوسناتُ
وفي الرِّياحِ، كَشفت سرّي للنَّبيذ
لأنْتَصِر
أو أنْكَسِر
في آخِرِ الدُّنيا؛ لأدنوَ من دمشق(ص84)
والدليل إلى هدفه ينبع من ذاته نفسها؛ فحدوسه هي التي ستقوده إلى تحقيق الهدف، وهذه الأجواء الصوفية الحسية التي تحيط به: الزمرد والدفلى والمرجان والرياح ما هي إلا وسائل يتوسل بها لكشف أسرار رحلته الدمشقية.
وَشاعَ عنّي في السَّديمِ أنا الدَّليلُ إلى دمشقَ.
وفي الكَرى هَيَّجْتُ قلبي، وَهمستُ للدُّفْلى، وقلتُ لها مِراراً:
أنّي أشَدُّ تَمرُّساً منها ومن سُفُني التي تَسْعى إلى دلمون
وعند قِراءةِ المَرْجانِ مَرَّتْ ذِكْرياتي كالرِّياحِ على الزُّمُرُّدِ(ص86)
إنه أسير كشوفه وحدوسه، التي تقوم على أن ما يراه من ظواهر طبيعية، واضطراب في الكواكب والجبال والطوفان والجحيم كلها لا تقدر أن تخفي ما تحتها من نور يوصله إلى هدفه.
أنا رؤاي
وقد أرى حتَّى الكَواكب تَصْطَخبْ
وَأرى الجبالَ كَعَهدِها تَصْطكُّ في الطُّوفانِ
وَالمَعنى الجَحيمُ بِلا معادنَ وَالحِجارةُ تَلتَهبْ
وَأرى رُؤايَ بِلا حِزامٍ أو مدارٍ أو كَرى
وَلِحُسْنِ حَظّي أو لِظَنّي بِالرُّعودِ أرى النَّدى تحت
الرَّمادْ(ص92)
إنه المتصوف ورجل الفكر الذي أعد كتابه وتعهد فيه بأنه سوف يتغلب على كل الصعوبات، ويحقق المعجزات حتى تستعيد دمشق تاريخها وأهميتها العتيدة.
هذا كِتابي في يَدي، لا يَحْتوي إلّ على بَيْتِ القَصيدِ
وقد يُشيرُ لِمَوْعِدي طِبْقاً لميعاد الخُروجِ من الرَّقيمِ
وفي غَدي لا بُدَّ لي أنْ أسْتَرِدَّ المُعجزات.(ص93)
في القصيدة الرابعة "هجرة السنونو" لا تبتعد الذات عن روح جلجامش التي تسعى إلى التعايش مع المنفى وفقدان الهوية فإذا كانت الصهيونية قد انتصرت عليه فإنه لا ينشد الخلاص لنفسه فحسب، كما فعل جلجامش، بل لجماعته أيضًا بوصفه حامل همومها:
هذا نِسْغُنا
وَهشيمُ أيدينا
ونحن المُتْعَبونَ
فمَن أنا حتّى أرى دلمونَ في جُرحي وَأنْتَمي لِسُلالَتي وَمِشكاةِ
الطُّيور؟(ص97)
وفي مقطع غنائي جميل يتغنى الشاعر بوطنه، وهو المقطع الوحيد الذي يتمتع بكلمات مألوفة، وإيقاع عذب وخاصة بما يضفيه تكرار حرف الكاف.
ذهبٌ هواكَ يا أحْلى مَلاكْ
سُبحانَ من سوّاكَ يا وطني
وفي دَرْبي رَماكْ(ص97)
ويلوم الشاعر العالم لأنه تخلى عن مساندته، لكنه مع ذلك سيظل صامدًا ليثبت تجذره في وطنه، ومن المستحيل خلعه منه. إنه لن ينثني أمام عدوه الذي يواصل بناء المستعمرات على أرضه.
فهل بَقيتْ بِلادٌ لم تَخُنّا وَتُخْرِجُ من ضُلوعي الهِنْدِباء
لأَسْتَرِدَّ بها سَمائي وَأحومُ حولَ مَسيرتي وَبَراثِني
وَأكتبُ للعدوِّ هُويَّتي أرْضي وَنِسياني مُحالْ(ص98)
بعد هذه المغامرة في بيان التصوف والفلسفة في ديوان "سماء أوديتي رؤاي" نقول إن القصائد الأربع التي احتواها الديوان قصائد ملحمية تشترك في أنها تستفيد من التراث العربي والعالمي، ويمتزج فيها التصوف بالفلسفة من أجل التعبير عن رؤية للوجود والعالم والحياة، فلا توجد قصيدة خالية من الإشارة إلى تجربة جلجامش وهو يسافر إلى دلمون ليبحث عن عشبة الخلود. وهي وإن كانت تتبنى ضمير المتكلم، فإنها تعبر عن الإنسان عامة وهو يواجه قلق الوجود، والبحث عن الحرية، ومعرفة موقعه في حركة الحياة.
هي قصائد تغرق في الميتافيزيقيا؛ فهي طافحة بالمفردات الصوفية والفلسفية، وأسماء الشخصيات التراثية والصوفية والتاريخية والأدبية. وتتميز بلغتها المشبعة بالمعاني الصوفية والفلسفية، ومجازها الصعب التأويل، وإيقاعها الخافت. إنها غير معنية بالقارئ العادي؛ لأن قراءتها تحتاج حتى من المتخصص أن يكون ذا ثقافة واسعة خاصة بالتصوف والفلسفة.
هي قصائد معقلنة تدعو الإنسان إلى استخدام العقل، ومواجهة الواقع الذي يعايشه دون إغراق في العواطف والمباشرة والخطابية، وفي هذا تكمن أهميتها وجدتها.
في القصيدة الأولى كما يبدو من عنوانها" معراج جلجامش" الإفادة من التراث الديني بالإشارة إلى قصة الإسراء والمعراج التي وردت في القرآن الكريم عندما أسري الرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعروجه إلى السماء، والإفادة من التراث السومري بالإشارة إلى جلجامش ملك مدينة الوركاء الذي طاف يبحث عن إكسير الخلود بعد موت صديقه إنكيدو.
وتبدأ القصيدة برؤيا حيث ينطلق السالك الصوفي الذي تتقمصه الذات الشاعرة في رحلة صوفية ميتافيزيقية إلى السماوات العلا، وفيها يتلاشى الزمن، وتتحرر الروح من سجنها البدني، للوصول إلى غايتها الفلسفية وهي فهم طبيعة الموت، ومعرفة طرق الخلاص منه، من أجل الحصول على إكسير الحياة.
رأيتُ نفسي في السَّديمِ، كأنَّ لي فرساً شموساً في الصُّعودِ وفي العُروج
على مَدار السَّالِكين
رأيتُ رؤيا لم أَعُدْ أدري بها في أيِّ نجمٍ قد أكونُ، لأعتليهِ على دُروبِ
العالمَينْ
فكَّرتُ بالماضي العتيدِ، فلم أجدْ بَدَني معي لأَمضيَ في السَّماء إلى
نهاياتِ السنينْ.
وها أنا أُدلي بدلوي للمُثولِ أمامَ روحي والخروجِ من بَدَني السجينْ(ص25)
وفي الرحلة يلتقي الشاعر كثيرًا من الشخصيات كخازن الجنة والخضر وجبريل وعزرائيل وإبليس، كما يرى الحلاج شهيدًا يطوف في الليل. ولا يأبه بنصيحة ملاك له بالعدول عن مغامرته والعودة إلى مدينته. إنه يبتغي الوصول إلى هدفه مثل جلجامش وهو الحصول على إكسير الحياة فلا يموت أبدًا. لهذا نراه يمتدح في حواره الطويل مع اليعسوب موافقته على مرافقته في رحلته البحثية عن الخلود. والمعروف أن اليعسوب رمز البعث والتجدد في الأساطير القديمة، وهي من أسرع الحشرات وأقدر المخلوقات على الرؤية.
لن نرجعَ يا مولايَ ولن نَتوانى، حتّى نَصِلَ إلى الإكْسيرِ
أو المَلَكوتِ أو اللّاهوتِ القائمِ بين يَديهِ(ص43)
وتنتهي الرحلة، لا كما انتهت رحلة جلجامش، بأن عاد إلى الوركاء المدينة التي بناها خالي الوفاض، بل إنه لم يعد في الأساس، فقد تحقق له الفناء بالذات العلية، كما تحقق لأبي يزيد البسطامي الذي كان يرى نفسه عدمًا محضًا، يقول عن ذلك:" خرجت من بايزيديتي كما تخرج الحية من جلدها، ونظرت فإذا العاشق والمعشوق والعشق واحد؛ لأن الكل واحد في عالم التوحيد".
وهناكَ في الأعلى مَقامي أو مَداري لِلمَساسِ
بِحَضْرَةِ الأشياءِ في الوادي المُقدَّسِ بين ذاتي والوجود
انا الوعود
أنا الرعود
أنا الصُّعودُ إلى السُّهى من برج بابل والمدى
أنا مِفتاحُ من جاءوا إلى وِديانِ بُسطامي:...
"فَسُبحاني على شاني
على فَيْضِ الأُلوهةِ والنُّبوّةِ في المَقامِ الثّاني"(ص46)
إذا كانت قصيدة "معراج جلجامش" تسعى لفهم الموت والخلود فإن قصيدة "في شارع السبعين" تسعى لفهم المأساة الفلسطينية في عامها السبعين العام الذي كتبت فيه القصيدة. وتبدأ القصيدة بحركة الزمن عندما يُقتلع الشاعر من وطنه، ويضيع مع جيله من الشباب بسبب هؤلاء الدعاة الذين تركوا الوطن للأجنبي بحجة التفرغ للعبادة.
مَضى زَمَني بِلا عَدَنٍ، تَكسَّر في المَرايا
وعادني الوسواسُ يا امرأتي إذا لمح الأجانبُ ساعديْكِ على المَصاطبْ
فتاهَ جيلي خلفَ عرّافٍ تَمادى في البَراري
وبارحَ الوطنَ السَّليبَ بِحُجَّةِ الإيمانِ أوْلى من سِجالِ الفاتحين (ص 50)
تعي الذات الشاعرة التي تتكلم باسم الذات الجمعية، مثلما كان يعي جلجامش، بأن الطريق إلى حلمه بحرية وطنه محفوفة بالخطر والموت، لكنه لن يستسلم لليأس من الوصول إلى هدفه. لهذا يخاطب الموت بأنه لن يخافه، ويدعوه إلى أن ينشغل بالآخرين الذين يحسبون له الحساب.
سَتعْلَمُ يا فتى أنَّ الرَّدى حَوْلَكْ، وراءَكَ في الدُّنا...
وينامُ فيك مُردِّدا: لو كنتَ وحدكَ لابتعدتُ عن المَدى
وما عليكَ سِوى الرَّحيلِ
متى وجدتُكَ نائماً أجْهزتُ فيك على الوجودِ...
فقلتُ وَيْحَكَ يا رَدى
لا لن تَمرَّ بِخاطري خوفاً ولا يَأساً من الدُّنيا
فَبارِكْ مَن أتاكَ مُهلِّلاً، أمّا أنا، فَعليْكَ بعضُ الانتظار(ص52)
ما تزال روحه قوية، وسيحقق النصر في النهاية، مع أنه الان يفتقد الهوية، وأمله ضعيف في الوصول إلى هدفه، لأن قومه تخلوا عنه حتى صار أعداؤه" سلطان القبائل أجمعين.(ص69)
لا صَوْتَ لي
لا وَجْهَ لي
حتّى التَّجلِّ صارَ في تُلمودِ جيراني الأوائل
" ورداً أقَلّ"
سأنْتَصِرُ، وأردُّ كَيْدَكَ بِالتَّعالي وأَعيشُ رغمَ الشَّاهِ والزَّمنِ الرَّديء.(ص61)
نلاحظ في هذه الأسطر توظيف الشاعر عنوان ديوان محمود درويش "ورد أقل" في الإشارة إلى صعوبة الطريق وقلة الأمل. كما نلاحظ عدم تخلي الشاعر عن استخدام المفردات الصوفية من التراث الإسلامي واليهودي. ونجده في خضم مأساته يتذكر الشاعر خليل حاوي من خلال التناص مع قصيدته المشهورة "يعبرون الجسر".
مولايَ!
بين إشارتي وعبارتي ضاقَ المدى، وبَنَيْتُ جِسْراً مثل (حاوي(
بين أضلاعي وأطرافِ السَّماءِ
وقلتُ: مُرّوا يا رفاقُ(ص78)
إنه مكتوب عليه وقدره ان يطارد من خطفوا وطنه الذي يرمز إليه بليلى.
أسَفي على أسَفي
على جسدي الَّذي بَدأ التَّصابي
وَالذَّهابَ وَراءَ ليلى من جديد(ص82)
وتتبدى روح جلجامش في القصيدة الثالثة" دمشق باب الرؤيا" وهي رحلة وسط الفوضى والدمار، والبحث عن دمشق القديمة، التي قال عنها ياقوت الحموي في معجم البلدان:" لم توصَف الجَنّة بشيءٍ إلاّ وفي دمشقَ مثله ". وفي سبيل الاقتراب من دمشق تستعيد الذات قوتها وتكشف أسرارها وتتحمل ما تحمله جلجامش، وهو يغذ الخطا نحو دلمون (قيل البحرين الآن) للبحث عن زهرة الخلود دون اهتمام بما يحدث له من انتصار أو انكسار.
أيا دمشقُ:
وقد أبانَتْ عن خُطايَ السَّوسناتُ
وفي الرِّياحِ، كَشفت سرّي للنَّبيذ
لأنْتَصِر
أو أنْكَسِر
في آخِرِ الدُّنيا؛ لأدنوَ من دمشق(ص84)
والدليل إلى هدفه ينبع من ذاته نفسها؛ فحدوسه هي التي ستقوده إلى تحقيق الهدف، وهذه الأجواء الصوفية الحسية التي تحيط به: الزمرد والدفلى والمرجان والرياح ما هي إلا وسائل يتوسل بها لكشف أسرار رحلته الدمشقية.
وَشاعَ عنّي في السَّديمِ أنا الدَّليلُ إلى دمشقَ.
وفي الكَرى هَيَّجْتُ قلبي، وَهمستُ للدُّفْلى، وقلتُ لها مِراراً:
أنّي أشَدُّ تَمرُّساً منها ومن سُفُني التي تَسْعى إلى دلمون
وعند قِراءةِ المَرْجانِ مَرَّتْ ذِكْرياتي كالرِّياحِ على الزُّمُرُّدِ(ص86)
إنه أسير كشوفه وحدوسه، التي تقوم على أن ما يراه من ظواهر طبيعية، واضطراب في الكواكب والجبال والطوفان والجحيم كلها لا تقدر أن تخفي ما تحتها من نور يوصله إلى هدفه.
أنا رؤاي
وقد أرى حتَّى الكَواكب تَصْطَخبْ
وَأرى الجبالَ كَعَهدِها تَصْطكُّ في الطُّوفانِ
وَالمَعنى الجَحيمُ بِلا معادنَ وَالحِجارةُ تَلتَهبْ
وَأرى رُؤايَ بِلا حِزامٍ أو مدارٍ أو كَرى
وَلِحُسْنِ حَظّي أو لِظَنّي بِالرُّعودِ أرى النَّدى تحت
الرَّمادْ(ص92)
إنه المتصوف ورجل الفكر الذي أعد كتابه وتعهد فيه بأنه سوف يتغلب على كل الصعوبات، ويحقق المعجزات حتى تستعيد دمشق تاريخها وأهميتها العتيدة.
هذا كِتابي في يَدي، لا يَحْتوي إلّ على بَيْتِ القَصيدِ
وقد يُشيرُ لِمَوْعِدي طِبْقاً لميعاد الخُروجِ من الرَّقيمِ
وفي غَدي لا بُدَّ لي أنْ أسْتَرِدَّ المُعجزات.(ص93)
في القصيدة الرابعة "هجرة السنونو" لا تبتعد الذات عن روح جلجامش التي تسعى إلى التعايش مع المنفى وفقدان الهوية فإذا كانت الصهيونية قد انتصرت عليه فإنه لا ينشد الخلاص لنفسه فحسب، كما فعل جلجامش، بل لجماعته أيضًا بوصفه حامل همومها:
هذا نِسْغُنا
وَهشيمُ أيدينا
ونحن المُتْعَبونَ
فمَن أنا حتّى أرى دلمونَ في جُرحي وَأنْتَمي لِسُلالَتي وَمِشكاةِ
الطُّيور؟(ص97)
وفي مقطع غنائي جميل يتغنى الشاعر بوطنه، وهو المقطع الوحيد الذي يتمتع بكلمات مألوفة، وإيقاع عذب وخاصة بما يضفيه تكرار حرف الكاف.
ذهبٌ هواكَ يا أحْلى مَلاكْ
سُبحانَ من سوّاكَ يا وطني
وفي دَرْبي رَماكْ(ص97)
ويلوم الشاعر العالم لأنه تخلى عن مساندته، لكنه مع ذلك سيظل صامدًا ليثبت تجذره في وطنه، ومن المستحيل خلعه منه. إنه لن ينثني أمام عدوه الذي يواصل بناء المستعمرات على أرضه.
فهل بَقيتْ بِلادٌ لم تَخُنّا وَتُخْرِجُ من ضُلوعي الهِنْدِباء
لأَسْتَرِدَّ بها سَمائي وَأحومُ حولَ مَسيرتي وَبَراثِني
وَأكتبُ للعدوِّ هُويَّتي أرْضي وَنِسياني مُحالْ(ص98)
بعد هذه المغامرة في بيان التصوف والفلسفة في ديوان "سماء أوديتي رؤاي" نقول إن القصائد الأربع التي احتواها الديوان قصائد ملحمية تشترك في أنها تستفيد من التراث العربي والعالمي، ويمتزج فيها التصوف بالفلسفة من أجل التعبير عن رؤية للوجود والعالم والحياة، فلا توجد قصيدة خالية من الإشارة إلى تجربة جلجامش وهو يسافر إلى دلمون ليبحث عن عشبة الخلود. وهي وإن كانت تتبنى ضمير المتكلم، فإنها تعبر عن الإنسان عامة وهو يواجه قلق الوجود، والبحث عن الحرية، ومعرفة موقعه في حركة الحياة.
هي قصائد تغرق في الميتافيزيقيا؛ فهي طافحة بالمفردات الصوفية والفلسفية، وأسماء الشخصيات التراثية والصوفية والتاريخية والأدبية. وتتميز بلغتها المشبعة بالمعاني الصوفية والفلسفية، ومجازها الصعب التأويل، وإيقاعها الخافت. إنها غير معنية بالقارئ العادي؛ لأن قراءتها تحتاج حتى من المتخصص أن يكون ذا ثقافة واسعة خاصة بالتصوف والفلسفة.
هي قصائد معقلنة تدعو الإنسان إلى استخدام العقل، ومواجهة الواقع الذي يعايشه دون إغراق في العواطف والمباشرة والخطابية، وفي هذا تكمن أهميتها وجدتها.