أبووردة السعدني - الشريف الحسين بن علي يجتر ذكرياته

... أتخيل الشريف الحسين بن علي في منفاه الإجباري في مدينة نيقوسيا بجزيرة قبرص ، بعد أن زال عنه جاهه وملكه ، وقد اتكأ على وسادته وحيدا حزينا ، يجتر ذكرياته ، فيسترجع ذلك اليوم الذي جاءه فيه ولده عبدالله - أمير إمارة شرق الأردن - يطلب منه ضرورة الرحيل من مدينة العقبة الأردنية استجابة لرغبة بريطانيا ، في الوقت نفسه يتلقى إنذارا بريطانيا بوجوب رحيله ، ثم تصل بوارج انجليزية تحمله إلى حيث لا يدري ، فيجد نفسه في جزيرة قبرص شريدا طريدا ، طالت مدة نفيه ست سنوات تقريبا ، تضيق بريطانيا عليه الخناق ، لا يزوره زائر إلا بتصريح بريطاني حتى ولو كان الزائر أحد أبنائه ، كما ضيقت عليه في وصول المساعدات المالية إليه حتى اضطر - وهو سليل العترة النبوية ، صاحب الجلالة الهاشمية ، ملك البلاد العربية ، وأمير المؤمنين "سابقا " - إلى الاقتيات بالدين !!..
... قارن الحسين بن علي بين منفاه في قبرص وإقامته في العاصمة العثمانية ، حين استدعاه السلطان عبدالحميد الثاني للإقامة فيها سنة 1893 م - بسبب خلاف بينه وبين عمه الشريف عون الرفيق أمير مكة المكرمة - إذ عاش - في قصر على مضيق البسفور -
حياة مترفة طوال خمسة عشر عاما ، ينعم بعيش رغيد ، وثيق القربى من سلطان المسلمين وخليفتهم ، أنعم عليه برتبة الوزارة وعضوية مجلس الشورى ، أمر السلطان بتعليم أبنائه في مدرسة أبناء السلاطين ، رغم أن عبدالحميد الثاني كان واثقا أن الحسين بن علي سيهدد عرشه يوما ما ، لاتصلاته السرية مع سفراء الدول الأوربية ، والتي رصدتها المخابرات العثمانية !!...
... تذكر الحسين بن علي أنه عين أميرا على مكة سنة 1908م بعد الانقلاب على السلطان عبدالحميد الثاني ، الذي مالبث أن عزله الاتحاديون سنة 1909 م ، وأن ثورته سنة 1916 م - بعد مراسلاته الشهيرة مع مكماهون البريطاني - كانت ضد الاتحاديين الطورانيين الماسونيين وليست ضد الدولة العثمانية ، وأنه بويع ملكا على الحجاز في السنة نفسها ، ولقب ب" ملك العرب " ، وأن بريطانيا أوعزت إليه عن طريق ولده الأمير عبدالله أن يعلن نفسه " أميرا للمؤمنين " ، الأمر الذي رفضه المسلمون في معظم بلاد العالم الإسلامي !!..
... تناول الشريف الحسين قدحا من القهوة ، مع شهيق وزفير يقطران حسرة وندما ، مسترجعا خذلان بريطانيا له ، بإعلانها الحياد في الحروب التي اشتعلت بينه وبين ابن سعود ، وخداعها له في اتفاقية سايكس بيكو سنة 1916م ، وتصريح بالفور سنة 1917م بتمكين اليهود من فلسطين !! ...
... لكنه ربما نسي أو تناسي - في خضم ذكرياته - استعانته برجال المخابرات البريطانية في تخريب وتدمير سكة حديد الحجاز بالمتفجرات والطائرات الإنجليزية ، وتعهد ابنه الأمير فيصل لحاييم وايزمان - الزعيم الصهيوني وأول رئيس لإسرائيل - بتوفير كل الضمانات لتنفيذ وعد بالفور سنة 1917م ، وتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين !!...
.... ولعله نسي - أيضا - أن بريطانيا اقتطعت شرق الأردن وجعلته إمارة سنة 1921م ، وعينت ابنه عبدالله أميرا عليها ، ليكون حارس حدود للدولة اليهودية المرتقبة !! ...
.. ولعله نسي - ضمن ما نسي - أن بريطانيا عينت ابنه الأمير فيصلا ملكا على سوريا سنة 1920م ، ثم طردته فرنسا شر طردة ، ولم يمض أربعة أشهر على تتويجه !! ...
... ولعله نسي - أخيرا -- أن بريطانيا حين أخفقت في إخماد ثورة العشرين العراقية ، وضاقت بها السبل ، لم تجد إلا فيصلا بن الحسين وسيلة لتهدئة العراقيين ، فعينته ملكا على العراق سنة 1921م ، لقبول العراقيين - على اختلاف طوائفهم وأعراقهم - له ، لانحداره من سلالة آل البيت !!...
.... حين اشتد المرض بالشريف الحسين بن علي أذنت بريطانيا لابنيه فيصل وعبدالله بزيارته ، كما سمحت لهما بنقله إلى مدينة عمان ، لكنه قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى أوصى ولديه بعدم الوقوع في شرك الإنجليز مرة أخرى ، وأن ابن سعود أقرب إليهما لحمة وسدى من الإنجليز ومن غيرهم !!...
...وقد وافاه أجله سنة 1931م ودفن في مدينة القدس الفلسطينية. ...


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...