الإيمان بالله سبحانه مسألة روحانية بحتة، مسألة إيمانية مجالها القلب والعاطفة والوجدان، إما أن تؤمن أو لا تؤمن.. وليس بمقدور العلم التجريبي، ولا الفلسفة إثبات المسألة بشكل نهائي، ولا نفيها بشكل نهائي.. إنما بوسعهما تقديم أدلة وبراهين وتبريرات لمن أراد أن يؤمن، وأيضاً لمن لا يريد أن يؤمن..
الاستناد لمقولات علماء كبار قد تزيد من الحيرة، «نيوتن» كان مؤمناً، «ستيفن هوكنغ» كان ملحداً.. وفي الحالتين لدينا علماء مؤمنون، وآخرون ملحدون، أو لا أدريون.. وكلٌ لديه أدلته وبراهينه.. لذا اتبع قلبك، وفكر بعقلك.
عندما سُئل «أينشتاين» هل تؤمن بوجود خالق؟ أجاب: «لست ملحدًا، فالمسألة المطروحة أكبر من أن تستوعبها عقولنا المحدودة، نحن مثل طفل صغير دخل مكتبة ضخمة مملوءة بكتب بـلُغات عديدة، يعرف أنه لابد أنّ شخصاً ما كتبها.. ولكنه لا يعرف من هو، ولا كيف، وقد يظن بوجود نظام غامض أُستخدم في ترتيب الكتب، غير أنه يجهل كنه هذا النظام، وليس متأكداً أن الكتب والرفوف منظمة بطريقة صحيحة.. وهذا هو موقف البشر من الله، حتى أكثرهم ذكاءً وعلماً، فنحن نرى الكون منظماً على نحو يثير الدهشة، ويخضع لقوانين معينة، ولكننا لا نفهم القوانين إلا بقدر ضئيل».
النقطة المركزية في هذه المعضلة تكمن في لحظة بداية الكون.. هي اللغز الأعظم، التي ستقدم الإجابات الشافية.. فبينما يستند العلماء المؤيدون لنظرية الانفجار العظيم على نظرية تمدد الكون، وعلى الإشعاعات الأحفورية، يشكك بها العالم «جيمس بيبل»، الحائز جائزة نوبل للفيزياء سنة 2019 والمختص بطفولة الكون المرئي، مؤكداً بأننا لا نمتلك نظرية صلبة ومثبتة عما حدث بشأن بداية الكون. في حين يطرح علم الكونيات الكثير من النظريات الجيدة والمقنعة عن تطور الكون المرئي منذ اللحظات الأولى قبل حوالى 13.7 مليار سنة، وقد تم التحقق من صحة الكثير منها، في حين تحتاج نظريات أخرى للتأكيد القاطع.
المؤمنون يبنون موقفهم من الاعتقاد الجازم بوجود خالق للكون على مبادئ كثيرة، من أهمها قانون السببية؛ أي أن لكل حادثٍ مُحدِثاً، ولكل سبب مسبّباً، وبالتالي لكل شيء خالقاً، فلا شيء يأتي من العدم.. من لا يعتقدون بوجود خالق يفندون هذه الحجة، بقولهم إنها مبنية على مغالطة الاستثناء الخاص غير المبرر؛ فطالما لكل شيء موجود مسبب، فمن المسبب لوجود الله؟ فهذا الاستثناء مرفوض من قبل الملحدين، خاصة وأنه يعطي إجابة غامضة لسؤال إشكالي، فالعلم يفسر الشيء الغامض والمجهول بشيء معلوم، ولا يفسره بما هو أكثر غموضاً.
والمؤمنون يبنون موقفهم أيضاً على حجة السببية، من خلال منهج الاستقراء، وهو منهج علمي صحيح، ففي نطاق الكون يؤكد العلماء أن لكل شيء مسبباً، بناء على استقراء وتحليل كل الظواهر العلمية وأشكال الوجود. بينما يقول غير المؤمنين إن حجة الاستقراء ليست مطلقة، فإن كانت تصلح لما هو داخل الكون، فهي لا تصلح على الكون نفسه، وتحديداً عند لحظة تشكله الأولى، حيث الظروف شديدة الغموض، ولا تنطبق عليها قوانين الفيزياء.
هنالك من يزعم أن الحياة انبثقت من رحم الفوضى، وهي ماضية بلا هدف وبدون غاية، وتسيّرها قوانين مادية، وأن الطبيعة لم تفرض خياراً وحيداً وحتمياً في أثناء مسيرة تطورها، بل إنها جرّبت ما لا حصر له من الحلول والبدايات، وأن نظام الكون غير دقيق وغير محكم، بحُكم الاصطدامات الهائلة التي تجري فيه باستمرار، وأن نظام الطبيعة والذي يشمل حياة الإنسان، غير عادل وغير رحيم وغير منطقي.
وفي المقابل يؤكد المؤمنون بمختلف دياناتهم وتوجهاتهم أن الله سبحانه هو من خلق القوانين التي تسيّر نظام الكون، فجعلته منتظماً في غاية الروعة والدقة، دون الحاجة للتطور، وأن لوجود الإنسان (الذي خلقه الله بقبس من روحه) غاية عليا، وحكمة إلهية، تتمثل في تعظيمه وعبادته، وعمارة الأرض، وإقامة العدل.
لكن التعقيدات في جوهر القضية أكثر مما تبدو عليه في ظاهرها، والموضوع يحتمل النقاش بعيداً عن حملات التكفير أو التجهيل.
القاسم المشترك بين المؤمنين واللاأدريين والملاحدة وجود قوانين للكون والطبيعة، وأنه يتوجب فهمها وتسخيرها لخدمة الإنسان والبيئة. وبغض النظر عن غائيّة وجود الكون، والهدف من خلق الإنسان، فالإنسان يستطيع بل ويجب عليه أن يوجِد هذه الغاية، وأن يحدد لحياته هدفاً، حتى يكون لوجوده معنى ولكيانه قيمة، وعلى أمل أن يفهم كُنْه الحياة، ويتوصل إلى سر السعادة، وكيف له أن يخلّص نفسه من شروره، ومن شقائه وعذاباته التي لازمته كجِلده طوال رحلته الطويلة.
فالإنسان لن يتحرر من أسئلته ولن يتخلص من معاناته، طالما هو إنسان ويفكر، لكنه قد يجد ضالته في أبسط الأشياء، وقد يعثر على سعادته حيث لا يتوقع، فالسعادة توجد حينما نعمل على خلقها، ولكنها قياساً بعذابات البشرية تظل قارباً في بحر من المعاناة والألم.
ولذلك فإننا نحتاج أن ننعزل مع ذواتنا، وأن نسبر أغوارها لنفهم أنفسنا أكثر.. لنغسلها من آثامها.. ونحررها من قيودها.. وننطلق بها في فضاءات رحبة.. في عوالم لا تعرف إلا الحب والموسيقى والجمال.. لنعيش بسلام وانسجام.. حيث السعادة الحقيقية.
قيم الخير والعدل والجمال هي هاجس الإنسان في الحياة ومعنى وجوده، فالجمال والاحتفال به هو السر الذي أنطق لسان الشاعر، وشحذ عقل العالِم، وأطلق ريشة الفنان، فهو نبض القلب، وموسيقى الحياة، وإيقاع الكون المثير.
جوهر الحياة واحد.. فالحياة هي ذكرياتنا التي نجت من النسيان، هي توقنا ليومٍ لم يأتِ بعد.. وخوفنا منه، هي شغفنا باللحظة الراهنة، هي نظرتنا تجاه ذاتنا وعلاقتنا بالآخرين، هي دمنا المسفوح على تراب الوطن، هي سجودنا أمام الخالق وتضرعنا إليه، هي موسيقى القلب وهو يخفق شوقا لمن نحب، هي ما نحمله في دواخلنا من جمال ونعيد إنتاجه للعالم، هي دمعة الأم التي زفّت ابنها، هي وجع البُعاد، هي ضحكات الصغار عند مدخل البيت، هي بيتنا وخُبزنا وقهوتنا الصباحية، هي «الآن وهنا».. علينا أن نحياها بكل تفاصيلها.. كما نشاء.
لا شك أن الإيمان يمنح اليقين، واليقين يمنح السكينة، وهذا مبتغى الإنسان وغايته، فلماذا نعقّد ما يمكن تبسيطه؟! وإذا كان الإيمان شعوراً وجدانياً يحقق منفعة مادية للإنسان، فإن هذا لا ينتقص من قيمته شيء، خاصة إذا اقترن هذا الإيمان بالحب، وتخلص من أدران الانتماء العصبوي والطائفي، واتجه كلياً نحو غايته الإنسانية بكل سموها ورفعتها.
عبد الغني سلامة
2021-11-17
الاستناد لمقولات علماء كبار قد تزيد من الحيرة، «نيوتن» كان مؤمناً، «ستيفن هوكنغ» كان ملحداً.. وفي الحالتين لدينا علماء مؤمنون، وآخرون ملحدون، أو لا أدريون.. وكلٌ لديه أدلته وبراهينه.. لذا اتبع قلبك، وفكر بعقلك.
عندما سُئل «أينشتاين» هل تؤمن بوجود خالق؟ أجاب: «لست ملحدًا، فالمسألة المطروحة أكبر من أن تستوعبها عقولنا المحدودة، نحن مثل طفل صغير دخل مكتبة ضخمة مملوءة بكتب بـلُغات عديدة، يعرف أنه لابد أنّ شخصاً ما كتبها.. ولكنه لا يعرف من هو، ولا كيف، وقد يظن بوجود نظام غامض أُستخدم في ترتيب الكتب، غير أنه يجهل كنه هذا النظام، وليس متأكداً أن الكتب والرفوف منظمة بطريقة صحيحة.. وهذا هو موقف البشر من الله، حتى أكثرهم ذكاءً وعلماً، فنحن نرى الكون منظماً على نحو يثير الدهشة، ويخضع لقوانين معينة، ولكننا لا نفهم القوانين إلا بقدر ضئيل».
النقطة المركزية في هذه المعضلة تكمن في لحظة بداية الكون.. هي اللغز الأعظم، التي ستقدم الإجابات الشافية.. فبينما يستند العلماء المؤيدون لنظرية الانفجار العظيم على نظرية تمدد الكون، وعلى الإشعاعات الأحفورية، يشكك بها العالم «جيمس بيبل»، الحائز جائزة نوبل للفيزياء سنة 2019 والمختص بطفولة الكون المرئي، مؤكداً بأننا لا نمتلك نظرية صلبة ومثبتة عما حدث بشأن بداية الكون. في حين يطرح علم الكونيات الكثير من النظريات الجيدة والمقنعة عن تطور الكون المرئي منذ اللحظات الأولى قبل حوالى 13.7 مليار سنة، وقد تم التحقق من صحة الكثير منها، في حين تحتاج نظريات أخرى للتأكيد القاطع.
المؤمنون يبنون موقفهم من الاعتقاد الجازم بوجود خالق للكون على مبادئ كثيرة، من أهمها قانون السببية؛ أي أن لكل حادثٍ مُحدِثاً، ولكل سبب مسبّباً، وبالتالي لكل شيء خالقاً، فلا شيء يأتي من العدم.. من لا يعتقدون بوجود خالق يفندون هذه الحجة، بقولهم إنها مبنية على مغالطة الاستثناء الخاص غير المبرر؛ فطالما لكل شيء موجود مسبب، فمن المسبب لوجود الله؟ فهذا الاستثناء مرفوض من قبل الملحدين، خاصة وأنه يعطي إجابة غامضة لسؤال إشكالي، فالعلم يفسر الشيء الغامض والمجهول بشيء معلوم، ولا يفسره بما هو أكثر غموضاً.
والمؤمنون يبنون موقفهم أيضاً على حجة السببية، من خلال منهج الاستقراء، وهو منهج علمي صحيح، ففي نطاق الكون يؤكد العلماء أن لكل شيء مسبباً، بناء على استقراء وتحليل كل الظواهر العلمية وأشكال الوجود. بينما يقول غير المؤمنين إن حجة الاستقراء ليست مطلقة، فإن كانت تصلح لما هو داخل الكون، فهي لا تصلح على الكون نفسه، وتحديداً عند لحظة تشكله الأولى، حيث الظروف شديدة الغموض، ولا تنطبق عليها قوانين الفيزياء.
هنالك من يزعم أن الحياة انبثقت من رحم الفوضى، وهي ماضية بلا هدف وبدون غاية، وتسيّرها قوانين مادية، وأن الطبيعة لم تفرض خياراً وحيداً وحتمياً في أثناء مسيرة تطورها، بل إنها جرّبت ما لا حصر له من الحلول والبدايات، وأن نظام الكون غير دقيق وغير محكم، بحُكم الاصطدامات الهائلة التي تجري فيه باستمرار، وأن نظام الطبيعة والذي يشمل حياة الإنسان، غير عادل وغير رحيم وغير منطقي.
وفي المقابل يؤكد المؤمنون بمختلف دياناتهم وتوجهاتهم أن الله سبحانه هو من خلق القوانين التي تسيّر نظام الكون، فجعلته منتظماً في غاية الروعة والدقة، دون الحاجة للتطور، وأن لوجود الإنسان (الذي خلقه الله بقبس من روحه) غاية عليا، وحكمة إلهية، تتمثل في تعظيمه وعبادته، وعمارة الأرض، وإقامة العدل.
لكن التعقيدات في جوهر القضية أكثر مما تبدو عليه في ظاهرها، والموضوع يحتمل النقاش بعيداً عن حملات التكفير أو التجهيل.
القاسم المشترك بين المؤمنين واللاأدريين والملاحدة وجود قوانين للكون والطبيعة، وأنه يتوجب فهمها وتسخيرها لخدمة الإنسان والبيئة. وبغض النظر عن غائيّة وجود الكون، والهدف من خلق الإنسان، فالإنسان يستطيع بل ويجب عليه أن يوجِد هذه الغاية، وأن يحدد لحياته هدفاً، حتى يكون لوجوده معنى ولكيانه قيمة، وعلى أمل أن يفهم كُنْه الحياة، ويتوصل إلى سر السعادة، وكيف له أن يخلّص نفسه من شروره، ومن شقائه وعذاباته التي لازمته كجِلده طوال رحلته الطويلة.
فالإنسان لن يتحرر من أسئلته ولن يتخلص من معاناته، طالما هو إنسان ويفكر، لكنه قد يجد ضالته في أبسط الأشياء، وقد يعثر على سعادته حيث لا يتوقع، فالسعادة توجد حينما نعمل على خلقها، ولكنها قياساً بعذابات البشرية تظل قارباً في بحر من المعاناة والألم.
ولذلك فإننا نحتاج أن ننعزل مع ذواتنا، وأن نسبر أغوارها لنفهم أنفسنا أكثر.. لنغسلها من آثامها.. ونحررها من قيودها.. وننطلق بها في فضاءات رحبة.. في عوالم لا تعرف إلا الحب والموسيقى والجمال.. لنعيش بسلام وانسجام.. حيث السعادة الحقيقية.
قيم الخير والعدل والجمال هي هاجس الإنسان في الحياة ومعنى وجوده، فالجمال والاحتفال به هو السر الذي أنطق لسان الشاعر، وشحذ عقل العالِم، وأطلق ريشة الفنان، فهو نبض القلب، وموسيقى الحياة، وإيقاع الكون المثير.
جوهر الحياة واحد.. فالحياة هي ذكرياتنا التي نجت من النسيان، هي توقنا ليومٍ لم يأتِ بعد.. وخوفنا منه، هي شغفنا باللحظة الراهنة، هي نظرتنا تجاه ذاتنا وعلاقتنا بالآخرين، هي دمنا المسفوح على تراب الوطن، هي سجودنا أمام الخالق وتضرعنا إليه، هي موسيقى القلب وهو يخفق شوقا لمن نحب، هي ما نحمله في دواخلنا من جمال ونعيد إنتاجه للعالم، هي دمعة الأم التي زفّت ابنها، هي وجع البُعاد، هي ضحكات الصغار عند مدخل البيت، هي بيتنا وخُبزنا وقهوتنا الصباحية، هي «الآن وهنا».. علينا أن نحياها بكل تفاصيلها.. كما نشاء.
لا شك أن الإيمان يمنح اليقين، واليقين يمنح السكينة، وهذا مبتغى الإنسان وغايته، فلماذا نعقّد ما يمكن تبسيطه؟! وإذا كان الإيمان شعوراً وجدانياً يحقق منفعة مادية للإنسان، فإن هذا لا ينتقص من قيمته شيء، خاصة إذا اقترن هذا الإيمان بالحب، وتخلص من أدران الانتماء العصبوي والطائفي، واتجه كلياً نحو غايته الإنسانية بكل سموها ورفعتها.
عبد الغني سلامة
2021-11-17