محمد الشودري - الموشحات الأندلسية 2/1

2/1


لقد كتب الكثير حول الموشحات الأندلسية. فالقارئ العربي الذي يريد أن يعرف شيئا عنها وعن شكلها الفني والمواضيع التي عالجتها ووجوه الشبه أو الاختلاف بينها وبين الشعر العربي التقليدي ما عليه إلا أن يقلب صفحات كتاب من هذه الكتب التي تصدرها المطابع العربية بسخاء حول الأدب العربي لكي يجد فيها ما يريد أو فضلا عما يريد. ولذلك فلن أتطرق بقليل أو كثير في هذا البحث إلى قوالب الموشحات الشعرية أو الأجزاء المختلفة التي يتألف منها الموشح وأي هذه الأجزاء يسمى بالأغصان وأيها يسمى بالقفل أو السمط، وكيف أن القافية تتنوع في الأغصان وتبقى واحدة في الأقفال أو الأسماط بما في ذلك القفل الأخير في الموشح الذي يسمى عادة بالخرجة أو المركز. كل هذه النواحي من دراسة الموشح تذكر ويعاد ذكرها في سياق الدراسات الأدبية مثلما تذكر الحروف الشمسية والقمرية أو الفروق بين همزة الوصل وهمزة القطع في الكراريس الصرفية والنحوية.

ولذلك سأصرف جل اهتمامي إلى تلك النواحي التي مازال يكتنفها الكثير من الغموض في نشأة الموشحات ومعها الأزجال في الأندلس وإلى تلك النظريات المتطرفة التي تبناها بعض المستشرقين في العصر الحاضر والتي ترد أصول الموشحات إلى جذور شعرية إسبانية أو رومانسية سابقة لظهور الموشح والزجل في الأندلس.

فمن هذه النواحي التي سأحاول بسطها بشيء من التفصيل وإزالة ما يحيط بها من الغوامض دور الخرجة أو القفل الأخير في الموشح. هل هو دور أساسي كما صوره لنا ابن بسام في كتاب الذخيرة وابن سناء الملك في دار الطراز؟ القصيدة العربية كما نعرف تبدأ بالمطلع وذلك أمر بديهي بسيط فكيف نفسر ما يقوله ابن بسام وابن سناء الملك عن أن كاتب الموشح كان يبدأ بالقفل الأخير وليس بالمطلع وأن القفل الأخير هذا أو الخرجة هو الأساس الذي يبنى عليه الموشح. هل كان كاتب الموشح بهلوانا يبهرنا بالألاعيب لكي يبدأ الموشح بالبيت الأخير بدل أن يبدأه بالبيت الأول؟ وإذا سلمنا دون اعتراض أو سؤال بما يقوله لنا ابن سناء الملك وابن بسام عن أن الخرجة هي أساس الموشح فكيف يمكن أن تكون الخرجة هذه أعجمية أو بلغة أعجمية وهي أساس الموشح ولا يكون الموشح أيضا كما يدعي بعض المستشرقين من أصل أعجمي؟

والسؤال الآخر الذي يسأله حتى الآن كل قارئ للموشحات وكل واقف على تفاصيلها – لماذا يتحتم على الخرجة أن تكون بلغة عامية أو عجمية؟ وابن سناء الملك يقول لنا فيما يقول أن الشرط في الخرجة أن تكون حجاجية من قبل السخف أي أن تكتب بلغة فيها من فاحش الكلام ما في قصائد الحسين بن الحجاج من فحش ومن بذاءة. فلماذا تحتم أن يكون بين الخرجة وبين البذاءة قرابة ؟ وإذا كانت الخرجة كما يقول ابن بسام وابن سناء الملك هي أساس الموشح وهي في لغة عامية فكيف يبنى الموشح وهو في لغة عربية تتوخى منتهى البلاغة والفصاحة على أساس من لغة عامية مبتذلة يستحسن فيها السخف وتستملح فيها حتى البذاءة ؟

هذا جانب من الأسئلة التي سأحاول الإجابة عليها أو التي أرجو أن أتوصل إلى أجوبة مرضية عليها بادئا بعرض لأسباب الغموض حول نشأة الموشحات.
من المعروف أن معظم الذين كتبوا عن الموشحات حتى اليوم يتخذون نقطة الانطلاق فيما يكتبون ما ذكره ابن بسام في كتاب الذخيرة وما ذكره ابن سناء الملك في كتابه "دار الطراز في عمل الموشحات". ثم يستشهد الباحثون بالإضافة إلى ذلك بما ذكره ابن خلدون في الفصل الأخير من مقدمته المعروفة عن كل من الزجل والموشح. فابن بسام يقول لنا في الذخيرة أن أول من أتقن صيغة التوشيح وقوم ميلها أو اعوجاجها كان عبادة بن ماء السماء الذي توفى في منتصف القرن الحادي عشر للميلاد. لكنه عندما يتكلم عن الطريقة التي اتبعها عبادة المذكور في نظم الموشح يضيف إلى ذلك قوله "إنه كان يأخذ اللفظ العامي والعجمي ويسميه المركز ويضع عليه الموشحة". وهذه العبارة كما هو معروف قد بقيت حتى اليوم أحجية من الأحاجي لأن ابن بسام لم يفسر لنا بقليل أو كثير كيف يستطيع الوشاح أن يبني موشحة تكتب بلغة عربية فصيحة وبأوزان الشعر العربي على أساس من اللفظ العجمي أو العامي.
ولعل ابن بسام كان قد بدد بعض الغموض الذي يكتنف هذه العبارة لو أنه قدم للقارئ مثالا واحدا فقط من الموشح الذي يقوم على خرجة أعجمية أو عامية. لكن ابن بسام لم يقدم مثالا واحدا للموشحات سواء ما ينتهي منها بخرجة أعجمية أو عامية أو ما ينتهي منها بخرجة عربية فصيحة. وقد كانت حجته في ذلك أن بعض الموشحات كما تبين له لا تتفق في أوزانها مع أوزان الشعر العربي. فنظر إليها نظرة تنطوي على الكثير من الازدراء وقال بشيء من الصراحة انها غير جديرة بأن تجد محلا لها في كتاب الذخيرة. ولعل موقف ابن بسام من الموشحات شبيه إلى حد بعيد بموقف شاعر تقليدي محافظ في عصرنا الحاضر من الشعر العربي الحديث واتجاهاته وأوزانه. فنحن لو أوكلنا إلى شاعر لم يألف غير الأوزان والقافية التقليدية مهمة وضع مجموعة من المختارات الشعرية العربية المعاصرة فلا يبعد أن يعتبر قصائد السياب أو الماغوط أو عبد الصبور قصائد غير مناسبة لمجموعته لأنها لا تتبع نظام الشعر التقليدي أو لأنها تعتمد استعارات أسطورية غريبة عن التراث العربي.

وإذا كان ابن بسام قد أفرد صفحات معدودة فقط في كتاب الذخيرة فإن ابن سناء الملك قد خصص كتابه "دار الطراز" للإفاضة في الكلام عنها والتمثيل للقوالب الفنية المتعددة التي يمكن أن يتخذها الموشح مع تعدد أجزاء أبياته وأقفاله. لكن ابن سناء الملك يختتم مقدمة كتابه باعتذار للقارئ لأنه كما يقول "لم يولد بالأندلس ولا سكن إشبيلية ولا أرسى على مُرسية" ولا لحق دولة المعتمد بن عباد أو لقى مشاهير الوشاحين مثل ابن بقي أو الأعمى القطيلي. والحقيقة أن ابن سناء الملك الذي ولد وعاش في مصر يكتب عن الموشحات وقد وصلت إليه بعد أن بلغت منتهى الكمال في صيغتها الفنية. ولذلك فإن ما يقوله ابن سناء الملك عن نشأة الموشحات وعن تطورها لا يعدو أن يكون شيئا من الاستقراء والتكهن. فهو بدوره يردد ما يقوله ابن بسام عن ان الخرجة وهي القفل الأخير في الموشح هي الأساس الذي يبنى عليه الموشح وهو بدوره قد واجه الباحثين في العصر الحديث بأحجية من الأحاجي عندما قال ان الخرجة هي "السابقة وإن كانت الأخيرة" وأن من ينظم الموشح ينظم الأبيات الأخيرة فيه وهي الخرجة قبل أن ينظم الأبيات الأولى أو المطلع. لذلك نرى أن ابن سناء الملك بدوره قد زاد في هذا الغموض الذي يحيط بنشأة الموشحات لأنه لم يفسر لنا السبب الذي كان يحمل الوشاحين على عمل بهلواني من هذا النوع. وهو الابتداء بنظم الموشح من الذنب بدل الابتداء بنظمه من الرأس.
يتبع...
*-..*-..*-..*
والله الموفق
2017-08-03
محمد الشودري


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...