وكر السلمان من أسوار الجامعة إلى مطحنة الأحياء
قراءة في رواية وكر السلمان للكاتب العراقي شلال عنوز
بقلم الأديبة: وداد معروف
"إلى ضحايا الحروب, رجالا ونساء وأطفالا, إلى الذين تناثرت أشلاؤهم وأحلامهم معا, إلى المفقودين والأسرى, إلى الذين خسروا أمانيهم وأكلوا أعمارهم, إلى كل الذين اكتووا بنارها, إلى الإنسانية المعذبة بسبب حماقات مشعليها, أهديهم روايتي هذه" .
بهذه المقدمة بدأ الأديب والشاعر العراقي شلال عنوز روايته وكر السلمان, الرواية تقع في 220 صفحة وقد أرسلها لي PDF كي أقرأها وأكتب رأيي فيها, ولكني أخّرتها طويلا حتى أنتهي من أعمال كانت تشغلني, فعاد كاتبنا وذكرني بها, فبدأت قراءتها وانتهيت منها في ثلاثة أيام, فكانت بالنسبة لي رحلة لعالم لم أعتده؛ عالم الحرب، عالم الجريمة, تدور أحداث الرواية في عام 1985م, أثناء الحرب العراقية الإيرانية, التي بدأت 1980 وانتهت 1988 دون انتصار لأي من الدولتين المتحاربتين, قال عنها الكاتب: "سنة الحصاد البشري المريع, في حرب ضروس بين جارتين نِدَّين, إحداهما تود أن تحسم النصر لصالحها على حساب دماء البائسين" ص23. الحرب التي استمدت وقودها من دماء مواطني الدولتين, وحطمت آمالا وأحلاما وقضت على آلاف البشر دون هدف يستحق, أسفرت هذه الحرب عن جرائم بشعة, وعن أحقاد وثارات حملها بعض المشاركين فيها, فكما استعرض الكاتب أراء علماء الجريمة كامبروزو ونظريته غير العادلة التي وضعت ملامح للمجرم وعلى أساس هذه الملامح تصنفه كمجرم وتسجنه وتحاكمه, قال كاتبنا إن نعمان بطل الرواية لم تكن ملامحه ولا سلوكه يوحيان بالإجرام كما قالت نظرية لامبروزو الذي أودعها كتابه (الإنسان المجرم) حينما قال: "المجرمون معروفون بأشكالهم وصفاتهم" فهي نظرية تخلو من العدل, فنعمان صاحب ملامح عادية وعلاقات اجتماعية طيبة, فلم يقتل أحب الناس إليه؟ لم يقتل لغاية؛ فلم تكن غايته إلا القتل؟
تدور الرواية حول البطل نعمان الشاب الذي تخرج من الجامعة بعد دراسة القانون, وجاءت الحرب العراقية الإيرانية فذهب لأداء واجب الوطن عليه, فأصيب في تفجير ففقد على إثره ذكوريته, فتحطمت أحلامه التي عقدها على الزواج من زميلته وخطيبته ثناء, تلك الفتاة الجميلة التي ملكت عليه قلبه وعقله, بدأت أزمته مع الحياة والأحياء, وتحول بفضل الحرب ودمويتها إلى مجرم مصاص للدماء يستمتع باستدراج ضحاياه إلى وكره _ وكر السلمان _ فيقتلهم واحدا واحدا, ولكن بعد أن يعري نفسه أمامهم ويحكي لهم عن مأساته, وعن الذي فعلته به الحرب الظالمة, اختار الكاتب اسم نعمان استلهاما لحادثة الملك النعمان بن المنذر الذي قتل نديميه وأقرب الناس إليه في ليلة سكر, ثم أقام لهما مقاما ودعا الناس لزيارتهما وتقديم النذور لهما.
وكثيرا ما نجد استدعاء التاريخ بين سطور الرواية, فنجد الكاتب يستدعي مقتل الخليفة المتوكل على يد ابنه وتمثيله بجثته, ويستدعي خلاف الأمين والمأمون ابنا هارون الرشيد, كما تتسم هذه الرواية بسمة أخرى وهي تطعيمها بأقوال الحكماء والفلاسفة وقادة الجيوش التاريخيين, كنابليون وهتلر, فنجد من هذه الأقوال قول هتلر: "الحرب هي كبابِ غرفةٍ مظلمةٍ, لن تعرف أبدا ما الذي سيحصل عند فتح هذا الباب" وقول نابليون: "الحرب همجية منظمة, مهما حاولت التنكر".
في الرواية تجد أقوالا لتموز وعشتار ومحمد حسنين هيكل وفلاديمير بارتول, والعقاد وتوفيق الحكيم.
أرجع الكاتب هذه القسوة التي اتصف بها قادة الحرب إلى الصحراء والبداوة التي أتوا منها, فطبعتهم بضيق الرؤية والمبالغة في الكره والمبالغة في الحب, ويصف الصحراء فيقول: "يراقب ريح طواحين التراب التي خلفتها ريح لا تعرف إلا توزيع الأعاصير في كثبان الرمل المتجذرة في قاحل صحراء الجدب, حيث مدن العطش تنمو في قلب الحقول, تأكل خضرتها وتشرب ربيع براعمها, " ص9.
كان نعمان شاعرا, وكان محبا مخلصا, نقل لنا الكاتب كثيرا من قصائده التي قالها في حبيبته سناء. كما أنه كان يرسلها لها من على جبهة القتال يصف لها المطحنة الذين هم بعض وقودها.
هنا حيث أزيز الرصاص
ودوي أصوات المدافع
وهذه النار الملتهبة التي
تأكل بقايانا
تلوكنا بأضراس مسمومة
لا أمل في النجاة منها
مريعة هذه المطحنة
وهي تحتفل بابتلاعنا
وكانت سناء تقول له: "في أي وقت يصلك هذا المرسال. فاعلم أني أروض النفس على أن لا تفارق طيفك" ثم كتبت له هذه الأبيات:
ثمل هذا القلب بحبك
يحسب السويعات والثواني للقاء مرتقب
متى يا ترى ترقص الأماني ويورق التوت؟
أنهض كل صباح
أطل من شباك غرفتي لعلك تقف هناك
كيف لهذين الحبيبين أن يتحولا إلى قاتل ومقتولة, إنها الحرب التي ابتلعت الأمن، ابتلعت الحياة وبهجتها, ولفظت بدلا منها الجحيم المشتعل.
جاءت المرأة في رواية وكر السلمان هي الأمان والدفء، المناصرة لرجلها سواء كان أبا أم أخا أم زوجا, المرأة التي تحملت غيابَ الرجل وفي أحيان كثيرة فقدَه, المرأة التي علقت كونها لا تعرف هل زوجها أسير حرب أم قتيل؟ فهذه أوضاع اجتماعية أوجدتها الحرب, المرأة هي سناء الحبيبة ورحمة القاضية مناصرة للعدل, وأم نعمان نخلة أصيلة من نخلات العراق, التي ربته على القيم، لكن الحرب أفسدت كل شيء وجرفت كل جميل كان يمشي على الأرض. هذه هي رواية وكر السلمان باختصار, صرخة عالية مدوية يطلقها شلال عنوز ذلك الجندي الذي أخبرني إنه ظل على جبهة القتال عشر سنوات, رأي فيها أهوال الحرب بعينيه, أخذت من عمره عشر سنوات وفي النهاية لم ينتصر أحد, من المسؤول عن هذا, إنه التطرف الذي يميز الشخصية الصحراوية والذي يحمد للكاتب أنه ناقش القضية بكل تجرد وأقر بطبيعة التطرف التي يتميز بها أهل هذه البلاد, وأنها هي هذه الطبيعة التي كانت خلف كل هذه الأهوال التي عانى منها الشعب ودفع ثمنها غاليا.
ولأن الكاتب شلال عنوز دارس للقانون فقد اتسمت الرواية بالمعلومات القانونية وبمعالجة ارتكاب الجريمة بدقة, أيضا كاتبنا شاعر وقد حصل على جوائز في الشعر فأتت لغة الرواية شاعرية كما إن كل الأشعار التي أنشدها نعمان هي أشعار شلال عنوز.
في النهاية مدينة للكاتب بالشكر لهذه المتعة العقلية والوجدانية التي حصلت عليها من هذه الرواية, وأمنياتي له بإبداع متجدد وإشراق أدبي وشعري دائم.
قراءة في رواية وكر السلمان للكاتب العراقي شلال عنوز
بقلم الأديبة: وداد معروف
"إلى ضحايا الحروب, رجالا ونساء وأطفالا, إلى الذين تناثرت أشلاؤهم وأحلامهم معا, إلى المفقودين والأسرى, إلى الذين خسروا أمانيهم وأكلوا أعمارهم, إلى كل الذين اكتووا بنارها, إلى الإنسانية المعذبة بسبب حماقات مشعليها, أهديهم روايتي هذه" .
بهذه المقدمة بدأ الأديب والشاعر العراقي شلال عنوز روايته وكر السلمان, الرواية تقع في 220 صفحة وقد أرسلها لي PDF كي أقرأها وأكتب رأيي فيها, ولكني أخّرتها طويلا حتى أنتهي من أعمال كانت تشغلني, فعاد كاتبنا وذكرني بها, فبدأت قراءتها وانتهيت منها في ثلاثة أيام, فكانت بالنسبة لي رحلة لعالم لم أعتده؛ عالم الحرب، عالم الجريمة, تدور أحداث الرواية في عام 1985م, أثناء الحرب العراقية الإيرانية, التي بدأت 1980 وانتهت 1988 دون انتصار لأي من الدولتين المتحاربتين, قال عنها الكاتب: "سنة الحصاد البشري المريع, في حرب ضروس بين جارتين نِدَّين, إحداهما تود أن تحسم النصر لصالحها على حساب دماء البائسين" ص23. الحرب التي استمدت وقودها من دماء مواطني الدولتين, وحطمت آمالا وأحلاما وقضت على آلاف البشر دون هدف يستحق, أسفرت هذه الحرب عن جرائم بشعة, وعن أحقاد وثارات حملها بعض المشاركين فيها, فكما استعرض الكاتب أراء علماء الجريمة كامبروزو ونظريته غير العادلة التي وضعت ملامح للمجرم وعلى أساس هذه الملامح تصنفه كمجرم وتسجنه وتحاكمه, قال كاتبنا إن نعمان بطل الرواية لم تكن ملامحه ولا سلوكه يوحيان بالإجرام كما قالت نظرية لامبروزو الذي أودعها كتابه (الإنسان المجرم) حينما قال: "المجرمون معروفون بأشكالهم وصفاتهم" فهي نظرية تخلو من العدل, فنعمان صاحب ملامح عادية وعلاقات اجتماعية طيبة, فلم يقتل أحب الناس إليه؟ لم يقتل لغاية؛ فلم تكن غايته إلا القتل؟
تدور الرواية حول البطل نعمان الشاب الذي تخرج من الجامعة بعد دراسة القانون, وجاءت الحرب العراقية الإيرانية فذهب لأداء واجب الوطن عليه, فأصيب في تفجير ففقد على إثره ذكوريته, فتحطمت أحلامه التي عقدها على الزواج من زميلته وخطيبته ثناء, تلك الفتاة الجميلة التي ملكت عليه قلبه وعقله, بدأت أزمته مع الحياة والأحياء, وتحول بفضل الحرب ودمويتها إلى مجرم مصاص للدماء يستمتع باستدراج ضحاياه إلى وكره _ وكر السلمان _ فيقتلهم واحدا واحدا, ولكن بعد أن يعري نفسه أمامهم ويحكي لهم عن مأساته, وعن الذي فعلته به الحرب الظالمة, اختار الكاتب اسم نعمان استلهاما لحادثة الملك النعمان بن المنذر الذي قتل نديميه وأقرب الناس إليه في ليلة سكر, ثم أقام لهما مقاما ودعا الناس لزيارتهما وتقديم النذور لهما.
وكثيرا ما نجد استدعاء التاريخ بين سطور الرواية, فنجد الكاتب يستدعي مقتل الخليفة المتوكل على يد ابنه وتمثيله بجثته, ويستدعي خلاف الأمين والمأمون ابنا هارون الرشيد, كما تتسم هذه الرواية بسمة أخرى وهي تطعيمها بأقوال الحكماء والفلاسفة وقادة الجيوش التاريخيين, كنابليون وهتلر, فنجد من هذه الأقوال قول هتلر: "الحرب هي كبابِ غرفةٍ مظلمةٍ, لن تعرف أبدا ما الذي سيحصل عند فتح هذا الباب" وقول نابليون: "الحرب همجية منظمة, مهما حاولت التنكر".
في الرواية تجد أقوالا لتموز وعشتار ومحمد حسنين هيكل وفلاديمير بارتول, والعقاد وتوفيق الحكيم.
أرجع الكاتب هذه القسوة التي اتصف بها قادة الحرب إلى الصحراء والبداوة التي أتوا منها, فطبعتهم بضيق الرؤية والمبالغة في الكره والمبالغة في الحب, ويصف الصحراء فيقول: "يراقب ريح طواحين التراب التي خلفتها ريح لا تعرف إلا توزيع الأعاصير في كثبان الرمل المتجذرة في قاحل صحراء الجدب, حيث مدن العطش تنمو في قلب الحقول, تأكل خضرتها وتشرب ربيع براعمها, " ص9.
كان نعمان شاعرا, وكان محبا مخلصا, نقل لنا الكاتب كثيرا من قصائده التي قالها في حبيبته سناء. كما أنه كان يرسلها لها من على جبهة القتال يصف لها المطحنة الذين هم بعض وقودها.
هنا حيث أزيز الرصاص
ودوي أصوات المدافع
وهذه النار الملتهبة التي
تأكل بقايانا
تلوكنا بأضراس مسمومة
لا أمل في النجاة منها
مريعة هذه المطحنة
وهي تحتفل بابتلاعنا
وكانت سناء تقول له: "في أي وقت يصلك هذا المرسال. فاعلم أني أروض النفس على أن لا تفارق طيفك" ثم كتبت له هذه الأبيات:
ثمل هذا القلب بحبك
يحسب السويعات والثواني للقاء مرتقب
متى يا ترى ترقص الأماني ويورق التوت؟
أنهض كل صباح
أطل من شباك غرفتي لعلك تقف هناك
كيف لهذين الحبيبين أن يتحولا إلى قاتل ومقتولة, إنها الحرب التي ابتلعت الأمن، ابتلعت الحياة وبهجتها, ولفظت بدلا منها الجحيم المشتعل.
جاءت المرأة في رواية وكر السلمان هي الأمان والدفء، المناصرة لرجلها سواء كان أبا أم أخا أم زوجا, المرأة التي تحملت غيابَ الرجل وفي أحيان كثيرة فقدَه, المرأة التي علقت كونها لا تعرف هل زوجها أسير حرب أم قتيل؟ فهذه أوضاع اجتماعية أوجدتها الحرب, المرأة هي سناء الحبيبة ورحمة القاضية مناصرة للعدل, وأم نعمان نخلة أصيلة من نخلات العراق, التي ربته على القيم، لكن الحرب أفسدت كل شيء وجرفت كل جميل كان يمشي على الأرض. هذه هي رواية وكر السلمان باختصار, صرخة عالية مدوية يطلقها شلال عنوز ذلك الجندي الذي أخبرني إنه ظل على جبهة القتال عشر سنوات, رأي فيها أهوال الحرب بعينيه, أخذت من عمره عشر سنوات وفي النهاية لم ينتصر أحد, من المسؤول عن هذا, إنه التطرف الذي يميز الشخصية الصحراوية والذي يحمد للكاتب أنه ناقش القضية بكل تجرد وأقر بطبيعة التطرف التي يتميز بها أهل هذه البلاد, وأنها هي هذه الطبيعة التي كانت خلف كل هذه الأهوال التي عانى منها الشعب ودفع ثمنها غاليا.
ولأن الكاتب شلال عنوز دارس للقانون فقد اتسمت الرواية بالمعلومات القانونية وبمعالجة ارتكاب الجريمة بدقة, أيضا كاتبنا شاعر وقد حصل على جوائز في الشعر فأتت لغة الرواية شاعرية كما إن كل الأشعار التي أنشدها نعمان هي أشعار شلال عنوز.
في النهاية مدينة للكاتب بالشكر لهذه المتعة العقلية والوجدانية التي حصلت عليها من هذه الرواية, وأمنياتي له بإبداع متجدد وإشراق أدبي وشعري دائم.