عندما أشرع في النوم، تقفز إلى مخيلتي أشياء كثيرة، وطبعا أولها صراعاتي مع أعدائي، ثم بعد ذلك تأتني افكار يمكن تسميتها بدون سخرية، "أفكاراً فلسفية". تأتي تلك الأفكار كومضات، وبعد ومضة أو ومضتين تتطور الفكرة، ثم تضيع فجأة، حين أنام وأفتح عينيَّ بعد سويعات على ضوء الصباح، وبالتأكيد لا أتذكر منها شيئاً. البارحة مثلاً قفزت فكرة تتعلق بالحدث. الحدث كلمة مثيرة جداً، وهي تختلف عن كلمة الواقعة. الواقعة (مادية أو قانونية) شيء؛ أما الحدث فشيء آخر. تذكرت الآن فقط؛ كانت الفكرة تتعلق بالجريمة كحدث، لا كواقعة. كحدث مفصلي. حدث وليس مجرد سلوك محظور. القتل ليس واقعة، بل حدث، وهذا فرق مهم حينما يتعلق الأمر بفلسفة التجريم criminalisation وتكتب بحرف (Z) ايضاً criminalization أي حين يقرر المشرع تحويل فعل من فعل مباح إلى فعل معاقب عليه. عملية التجريم هذه ليست مسألة بسيطة، كما يظن الناس. فهناك حدود للتجريم، حدود لا أحد يعرفها في الواقع. عندما تقرر الدولة (السلطة التشريعية)، اعتبار فعل ما جريمة فأنا كمواطن يجب أن أطالبها بتسبيب قرارها هذا. فمثلاً الشيك بدون رصيد يعتبر جريمة في بعض الدول، ولا يعتبر كذلك في دول أخرى، الإجهاض جريمة في دول وجائز في دول أخرى، تعدد الزوجات جريمة في دول وليس جريمة في دول أخرى، الدعارة..الخ. هكذا تواردت الافكار في ذهني قبل النوم. ولا اعرف لماذا استيقظت هذه الفكرة بعد سنوات طويلة منذ ان كتبت عنها قبل عشر سنوات أو يزيد.
الأمريكان يطلقون على تلك المشكلة حدود القانون الجنائي the limits of criminal law. مع ملاحظة هامة وهي أننا هنا نتحدث عن ما قبل النص. أي قبل وجود قانون جنائي، أي ما هو معيار جعل عدم تنفيذ المقاول مجرد قضية مدنية، وليس جنائية، فلا يعاقب على عدم تنفيذه، بل يُجازى جزاءً مدنيا بالتعويض مثلاً إذا كان له مقتض.
تتداخل فلسفات عديدة هنا، أي الجوانب الأخلاقية في القانون الجنائي، بالإضافة إلى معايير أخرى كالوضع السياسي والاقتصادي للدولة، وآيدولوجيا الحكومة، والتطور التقني، والملاءة المالية للدولة..الخ.
إن هذه المعايير قد تخرج عن كون الجريمة حدث، بل واقعة ما. سلوك محظور، لكنه ليس حدثاً يعبِّر بذاته عن حالة مفصلية. فجريمة القتل حدث وليس مجرد واقعة، لكنها تصبح واقعة اثناء الحروب، وهي واقعة داخل حدث كبير وهو الحرب. إننا لن نستطيع أن نحاكم الجندي على القتل لأن هذه الواقعة بالتحديد هي التي أسبلت عليه وصف الجندي. وعندما تحدث جرائم حرب، فإنها طبيعية جداً في ظل الحروب، وتاريخ الحروب البشرية كله مؤسس على جرائم الحرب، من استعباد للمدنيين وسلب أموالهم واغتصاب النساء، وحتى لو راجعنا حروب امريكا سنجدها هي نفسها قامت بذلك ولكن من خلال أدوات مختلفة، فهي تستولى على البترول عبر عقود مجحفة، وتحاصر الشعب حتى الموت جوعاً او النفط مقابل الغذاء، إنها تدمر الشعوب وتجبرهم على العمل تحتها ولكن ليس باسم العبودية، لأنها لا تسترقهم مباشرة بل تضيق عليهم اقتصادياً فيضطرون للعمل معها كالسخرة. إن الأفغان الذين قفزوا من الطائرة وماتوا مجرد عبيد فهم ضحايا كغيرهم من ضحايا الحروب البشرية عبر التاريخ.
إذاً؛ فالجريمة لا تملك معياراً أخلاقياً، لأن الأخلاق نسبية، فهي تختلف من مجموعة بشرية إلى أخرى، بل من كل فرد إلى آخر. إن الجريمة يجب أن تكون سلوكاً حدثياً لا مجرد واقعة. وإلا فإننا لن نعرف لماذا لا يعتبر عدم رد دين بمليون دولار ليس جريمة، في حين أن سرقة كرسي بمائة جنيه جريمة معاقباً عليها. ولن نعرف لماذا يعاقب قاتل بالإعدام وقاتل آخر بالسجن. لقد كان القتل واقعة بالنسبة للأخير وحدثاً بالنسبة للأول.
مع ذلك فالحدث والواقعة ليسا معياراً حاسماً لسبب بسيط هو أن من يحدد إذا كان سلوكاً ما حدثاً أم واقعة، هو رؤيتنا الشخصية. إن ثقافتنا هي التي ستحدد ما إذا كان فعلاً ما يجب أن يجرم أم لا. فالبُطان عند قبائل الجعليين وشبيهه عند الشيعة (جلد أنفسهم حتى سيلان الدم) يمكن أن يكون جريمة في مجتمعات أكثر رقياً. لذلك فهو جريمة عند هؤلاء الأخيرين وليس كذلك عند الأولين.
تعاطفنا مع آلام الآخرين، قد يدفعنا إلى مطالبة الدولة بتجريم فعل معين. توجهاتنا السياسية. فعندما تم اغتيال الخضرجي في أمدرمان لأنه ضد حمدوك، والفتى الذي خرج ضد الكورونا، كان الشعب كله يقف مع حمدوك، حينها كتبنا بأن دم هذين الشابين سيتمدد ليطال الشعب كله عندما صمت هذا الشعب وقبل بالقتل، لمجرد اختلاف سياسي. وقد حدث ذلك بالفعل. فتوجهاتنا النفسية والآيدولوجية قد تدفعنا إلى تجريم فعل عندما يكون هذا الفعل ضد مصالحنا أو هوانا، وقد نرفض تجريمه عندما يتفق مع أهوائنا، ونحن نتحدث هنا عن صوت الشعوب أو صراخها المزعج في الحقيقة.
فعملية التجريم ليست قضية بسيطة، إنما هي فلسفة ضخمة، فلسفة راودتني قبل النوم، ونسيتها، وما كنت لأتذكرها سوى لأنها ارتبطت بكلمتين هما الواقعة والحدث.
الأمريكان يطلقون على تلك المشكلة حدود القانون الجنائي the limits of criminal law. مع ملاحظة هامة وهي أننا هنا نتحدث عن ما قبل النص. أي قبل وجود قانون جنائي، أي ما هو معيار جعل عدم تنفيذ المقاول مجرد قضية مدنية، وليس جنائية، فلا يعاقب على عدم تنفيذه، بل يُجازى جزاءً مدنيا بالتعويض مثلاً إذا كان له مقتض.
تتداخل فلسفات عديدة هنا، أي الجوانب الأخلاقية في القانون الجنائي، بالإضافة إلى معايير أخرى كالوضع السياسي والاقتصادي للدولة، وآيدولوجيا الحكومة، والتطور التقني، والملاءة المالية للدولة..الخ.
إن هذه المعايير قد تخرج عن كون الجريمة حدث، بل واقعة ما. سلوك محظور، لكنه ليس حدثاً يعبِّر بذاته عن حالة مفصلية. فجريمة القتل حدث وليس مجرد واقعة، لكنها تصبح واقعة اثناء الحروب، وهي واقعة داخل حدث كبير وهو الحرب. إننا لن نستطيع أن نحاكم الجندي على القتل لأن هذه الواقعة بالتحديد هي التي أسبلت عليه وصف الجندي. وعندما تحدث جرائم حرب، فإنها طبيعية جداً في ظل الحروب، وتاريخ الحروب البشرية كله مؤسس على جرائم الحرب، من استعباد للمدنيين وسلب أموالهم واغتصاب النساء، وحتى لو راجعنا حروب امريكا سنجدها هي نفسها قامت بذلك ولكن من خلال أدوات مختلفة، فهي تستولى على البترول عبر عقود مجحفة، وتحاصر الشعب حتى الموت جوعاً او النفط مقابل الغذاء، إنها تدمر الشعوب وتجبرهم على العمل تحتها ولكن ليس باسم العبودية، لأنها لا تسترقهم مباشرة بل تضيق عليهم اقتصادياً فيضطرون للعمل معها كالسخرة. إن الأفغان الذين قفزوا من الطائرة وماتوا مجرد عبيد فهم ضحايا كغيرهم من ضحايا الحروب البشرية عبر التاريخ.
إذاً؛ فالجريمة لا تملك معياراً أخلاقياً، لأن الأخلاق نسبية، فهي تختلف من مجموعة بشرية إلى أخرى، بل من كل فرد إلى آخر. إن الجريمة يجب أن تكون سلوكاً حدثياً لا مجرد واقعة. وإلا فإننا لن نعرف لماذا لا يعتبر عدم رد دين بمليون دولار ليس جريمة، في حين أن سرقة كرسي بمائة جنيه جريمة معاقباً عليها. ولن نعرف لماذا يعاقب قاتل بالإعدام وقاتل آخر بالسجن. لقد كان القتل واقعة بالنسبة للأخير وحدثاً بالنسبة للأول.
مع ذلك فالحدث والواقعة ليسا معياراً حاسماً لسبب بسيط هو أن من يحدد إذا كان سلوكاً ما حدثاً أم واقعة، هو رؤيتنا الشخصية. إن ثقافتنا هي التي ستحدد ما إذا كان فعلاً ما يجب أن يجرم أم لا. فالبُطان عند قبائل الجعليين وشبيهه عند الشيعة (جلد أنفسهم حتى سيلان الدم) يمكن أن يكون جريمة في مجتمعات أكثر رقياً. لذلك فهو جريمة عند هؤلاء الأخيرين وليس كذلك عند الأولين.
تعاطفنا مع آلام الآخرين، قد يدفعنا إلى مطالبة الدولة بتجريم فعل معين. توجهاتنا السياسية. فعندما تم اغتيال الخضرجي في أمدرمان لأنه ضد حمدوك، والفتى الذي خرج ضد الكورونا، كان الشعب كله يقف مع حمدوك، حينها كتبنا بأن دم هذين الشابين سيتمدد ليطال الشعب كله عندما صمت هذا الشعب وقبل بالقتل، لمجرد اختلاف سياسي. وقد حدث ذلك بالفعل. فتوجهاتنا النفسية والآيدولوجية قد تدفعنا إلى تجريم فعل عندما يكون هذا الفعل ضد مصالحنا أو هوانا، وقد نرفض تجريمه عندما يتفق مع أهوائنا، ونحن نتحدث هنا عن صوت الشعوب أو صراخها المزعج في الحقيقة.
فعملية التجريم ليست قضية بسيطة، إنما هي فلسفة ضخمة، فلسفة راودتني قبل النوم، ونسيتها، وما كنت لأتذكرها سوى لأنها ارتبطت بكلمتين هما الواقعة والحدث.