(1من 2)
فشلَ برنامج الغذاء العالمي في تحقيق أهم أهدافه، وهي القضاء على الجوع. وهذا ما أكّده تقرير الأمم المتحدة حول مستوى انعدام الأمن الغذائي لعام 2021، والذي أكد وجود نحو 811 مليون شخص حول العالم يعانون من انعدام الأمن الغذائي. وبمعيار آخر، هنالك مليار ومئة مليون نسمة، أي سُدس البشرية، يعانون الجوع وسوء التغذية، منهم سبعة ملايين طفل يموتون من الجوع سنويًا، أي 17 ألف طفل في اليوم، بما معدّله طفل واحد كل خمس ثوان. إنه رقم مرعب، ولكنه حقيقي، ويصفع كل ضمير حي.
كيف، ولماذا تحدث المجاعات؟ رغم أننا (يُفترض) تجاوزنا زمن المجاعات!
سابقا، كانت المجاعات تقترن بانتشار الأوبئة أو بالكوارث الطبيعية وسنوات القحط، إلى أن جاء "مالتوس" (1766-1834) بنظريته حول الانفجار السكاني، والتي اعتبرت أن مشكلة الجوع ترتبط بالمشكلة الديموغرافية، حيث أن نموّ السكّان يجري بوتيرة أسرع بكثير من وتيرة نموّ إنتاج المواد الغذائية. وقد شكّلت هذه النظرية ذريعة للممارسات اللاإنسانية والعنصرية للدول الاستعمارية، وكانت إحدى مبررات الإبادة الجماعية لكثير من الشعوب الأصلية، كالهنود الحمر في أميركا، ولإجراء التعقيم القسري للأقليات العرقية.
وما زالت الرأسمالية المتوحشة تروج لهذه النظرية كلّما واجهت أزمات جديدة؛ فيسعى أرباب المال لإثبات أن البؤس والجوع ليسا وليدي النظام غير العادل، وإنما هما نتيجة لظهور أفواه جديدة وبأعداد كبيرة ومتزايدة، على نحو يعجز الكوكب بموارده المحدودة والمتناقصة باستمرار عن إطعامهم.
نظرياً، بسبب الثورة الصناعية، وتطور العلوم الزراعية صار ممكناً التوفيق بين تزايد عدد السكان، وبين توافر الغذاء، فقد بات الاقتصاد العالمي قادرًا على إنتاج كميات من السلع والغذاء والثروات كافية لتأمين الحاجات الأولية لجميع سكان العالم، وإبعاد خطر المجاعة عنهم. ومع ذلك، مناطق كثيرة في العالم تعاني الجوع، وتفتقر للأمن الغذائي! وفي الواقع أسباب ذلك كثيرة، أبرزها سوء التوزيع وافتقار النظام العالمي للعدالة، واحتكار الموارد والمياه والأرض من قبل الشركات النيوليبرالية العابرة للقارات، وتحكّمها في سلسلة التوريد، وفي بورصات السلع الأساسية.
فالمشكلة، لا تقع في دائرة الإنتاج، بل في التوزيع المتفاوت للموارد والثروات والإمكانات. فمثلا، تنتج الولايات المتحدة مواد غذائية تفيض عن حاجة سكانها، ومع ذلك تعاني شرائح واسعة من الأميركيين من الجوع. وحتى لو تقلّص عدد الأميركيين إلى النصف، فإن الفائض في المواد الغذائية سيزيد، ولكن الجوع لن يزول، وهذا ينطبق على جميع البلدان.
وحسب معطيات الأمم المتحدة فإن 10% فقط من ثروات حفنة من أصحاب المليارات، كافية للقضاء على مشكلة الجوع، وسد حاجات المليار فقير من الغذاء والدواء والمياه النظيفة. وهذه إحدى أسوأ مثالب الرأسمالية، وإليكم الثانية.
في أعقاب الأزمة الاقتصادية العام 2008، شهد معظم السلع (وعلى رأسها الأغذية) ارتفاعًا في الأسعار.. وظلت تلك الأسعار في ارتفاع مطرد، لتبلغ ذروة غير مسبوقة هذه السنة (2021).
في أزمة 2008، فشل المجتمع الدولي في انتزاع تعهّد من الدول الغنية بتأمين مبلغ 44 مليار دولار لانتشال ملايين الناس من الجوع، وبدلا من ذلك خصصت الولايات المتحدة وحدها 747 مليار دولار لإنقاذ كبار الرأسماليين من الإفلاس، وللحفاظ على ديمومة البنوك والشركات المالية الكبرى وضمان تدفق أرباحها. وفي هذه السنة ومع إطلالة رأس أزمة اقتصادية جديدة، وموجة عالية من الغلاء، هل ستتصرف الدول الغنية كالعادة، بحيث تبادر لإنقاذ الأثرياء الذين تسببوا بالأزمة، وعلى حساب الفقراء الذين هم ضحاياها! أم أنها ستغلّب النداء الإنساني على نداء المصالح الرأسمالية؟
مشكلة الأمن الغذائي تمسّ مباشرةً حياة مئات الملايين من الناس، بل وتهدد بقاءهم، إما بسبب الجوع، أو نتيجة الأمراض الناجمة عن سوء التغذية، بما في ذلك سوء التغذية "غير المرئي"، أو "الجوع الخفي"؛ أي عندما تفتقر وجبات الطعام للقيمة الغذائية، وحسب تقارير متخصصة فإن ربع أطفال البلدان النامية يعانون من "سوء التغذية غير المرئي".
والأمن الغذائي لا يتحقق فقط بتوفر كميات كافية من الغذاء، بل وأيضا بإمكانية الحصول عليها بعدالة، أي أن تكون هذه المواد الغذائية متاحة لجميع أفراد المجتمع، وهذا يتوقّف على توافر فرص العمل، وعلى القدرات الشرائية. وهذه مشكلة تعاني منها البلدان المتقدّمة والبلدان النامية على حد سواء (ولكن بصور وتجليات مختلفة).
ويمكن اعتبار النقاط التالية أسباب الأزمة، بحسب ما كتبه د. محمد دياب، في دراسة شاملة وموسعة بعنوان: المشكلة الغذائية في العالم: جوهرها وأسبابها الحقيقية، سنبدأ بالأسباب الثانوية على أن نتناول الأسباب الجوهرية في المقال القادم:
أولاً: النموّ السريع الذي تشهده اقتصادات بلدان كبيرة كالصين والهند، والبرازيل، وتسارع وتيرة التصنيع فيها أدى إلى ارتفاع مستوى المعيشة في هذه البلدان، ودخول شرائح كبيرة إلى مصاف الطبقة الوسطى، والتي صارت قادرة على استهلاك اللحوم مثلا، ومن ثم إلى ازدياد حجم استهلاك المواد الغذائية بشكل عام، كما أدّى، من جهة أخرى، إلى تسارع الطلب على النفط فيها، وبالتالي إلى ارتفاع أسعاره، ومن ثم إلى ارتفاع أسعار مكوّنات أساسية للإنتاج الزراعي، كالوقود وزيوت المحركات والأسمدة والمبيدات. كما أن ارتفاع أسعار الوقود يؤدّي بدوره إلى ارتفاع كلفة نقل المنتجات الغذائية إلى الأسواق، ومن ثم إلى ارتفاع أسعارها.
ثانياً: الاتجاه نحو تطوير "الوقود العضوي" وإنتاجه، ما دفع إلى زيادة الاستثمار في إنتاج أنواع الوقود البديلة من أصل نباتي. فتحولت مساحات شاسعة من الأراضي في العديد من البلدان من زراعة الحبوب إلى زراعات لإنتاج الوقود الحيوي. والمفارقة أن الهند والبرازيل، حيث نسبة الفقر والجوع وسوء التغذية عالية جدًا، هما أكبر مصدر للوقود العضوي في العالم.
ثالثاً: من الأسباب الإضافية التي ساهمت في تفاقم المشكلة الغذائية التغير المناخي؛ فالجفاف والفيضانات في بلدان منتجة مثل كندا وأستراليا أثّرت على المحاصيل وعلى إنتاج المواد الغذائية. كما أن التغيّرات في العادات الغذائية (وفق نمط الاستهلاك الغربي) نظرًا للارتفاع في معدّلات النمو الاقتصادي والتطوّر في مستوى المعيشة، من شأنه أن يفاقم هذه المشكلة. ونتيجة لذلك، ستضطر بلدان كانت تتميّز بالاكتفاء الذاتي نسبيًا، إلى استيراد الحبوب بسبب فقدان الأراضي الزراعية.
عبد الغني سلامة
2021-12-01
فشلَ برنامج الغذاء العالمي في تحقيق أهم أهدافه، وهي القضاء على الجوع. وهذا ما أكّده تقرير الأمم المتحدة حول مستوى انعدام الأمن الغذائي لعام 2021، والذي أكد وجود نحو 811 مليون شخص حول العالم يعانون من انعدام الأمن الغذائي. وبمعيار آخر، هنالك مليار ومئة مليون نسمة، أي سُدس البشرية، يعانون الجوع وسوء التغذية، منهم سبعة ملايين طفل يموتون من الجوع سنويًا، أي 17 ألف طفل في اليوم، بما معدّله طفل واحد كل خمس ثوان. إنه رقم مرعب، ولكنه حقيقي، ويصفع كل ضمير حي.
كيف، ولماذا تحدث المجاعات؟ رغم أننا (يُفترض) تجاوزنا زمن المجاعات!
سابقا، كانت المجاعات تقترن بانتشار الأوبئة أو بالكوارث الطبيعية وسنوات القحط، إلى أن جاء "مالتوس" (1766-1834) بنظريته حول الانفجار السكاني، والتي اعتبرت أن مشكلة الجوع ترتبط بالمشكلة الديموغرافية، حيث أن نموّ السكّان يجري بوتيرة أسرع بكثير من وتيرة نموّ إنتاج المواد الغذائية. وقد شكّلت هذه النظرية ذريعة للممارسات اللاإنسانية والعنصرية للدول الاستعمارية، وكانت إحدى مبررات الإبادة الجماعية لكثير من الشعوب الأصلية، كالهنود الحمر في أميركا، ولإجراء التعقيم القسري للأقليات العرقية.
وما زالت الرأسمالية المتوحشة تروج لهذه النظرية كلّما واجهت أزمات جديدة؛ فيسعى أرباب المال لإثبات أن البؤس والجوع ليسا وليدي النظام غير العادل، وإنما هما نتيجة لظهور أفواه جديدة وبأعداد كبيرة ومتزايدة، على نحو يعجز الكوكب بموارده المحدودة والمتناقصة باستمرار عن إطعامهم.
نظرياً، بسبب الثورة الصناعية، وتطور العلوم الزراعية صار ممكناً التوفيق بين تزايد عدد السكان، وبين توافر الغذاء، فقد بات الاقتصاد العالمي قادرًا على إنتاج كميات من السلع والغذاء والثروات كافية لتأمين الحاجات الأولية لجميع سكان العالم، وإبعاد خطر المجاعة عنهم. ومع ذلك، مناطق كثيرة في العالم تعاني الجوع، وتفتقر للأمن الغذائي! وفي الواقع أسباب ذلك كثيرة، أبرزها سوء التوزيع وافتقار النظام العالمي للعدالة، واحتكار الموارد والمياه والأرض من قبل الشركات النيوليبرالية العابرة للقارات، وتحكّمها في سلسلة التوريد، وفي بورصات السلع الأساسية.
فالمشكلة، لا تقع في دائرة الإنتاج، بل في التوزيع المتفاوت للموارد والثروات والإمكانات. فمثلا، تنتج الولايات المتحدة مواد غذائية تفيض عن حاجة سكانها، ومع ذلك تعاني شرائح واسعة من الأميركيين من الجوع. وحتى لو تقلّص عدد الأميركيين إلى النصف، فإن الفائض في المواد الغذائية سيزيد، ولكن الجوع لن يزول، وهذا ينطبق على جميع البلدان.
وحسب معطيات الأمم المتحدة فإن 10% فقط من ثروات حفنة من أصحاب المليارات، كافية للقضاء على مشكلة الجوع، وسد حاجات المليار فقير من الغذاء والدواء والمياه النظيفة. وهذه إحدى أسوأ مثالب الرأسمالية، وإليكم الثانية.
في أعقاب الأزمة الاقتصادية العام 2008، شهد معظم السلع (وعلى رأسها الأغذية) ارتفاعًا في الأسعار.. وظلت تلك الأسعار في ارتفاع مطرد، لتبلغ ذروة غير مسبوقة هذه السنة (2021).
في أزمة 2008، فشل المجتمع الدولي في انتزاع تعهّد من الدول الغنية بتأمين مبلغ 44 مليار دولار لانتشال ملايين الناس من الجوع، وبدلا من ذلك خصصت الولايات المتحدة وحدها 747 مليار دولار لإنقاذ كبار الرأسماليين من الإفلاس، وللحفاظ على ديمومة البنوك والشركات المالية الكبرى وضمان تدفق أرباحها. وفي هذه السنة ومع إطلالة رأس أزمة اقتصادية جديدة، وموجة عالية من الغلاء، هل ستتصرف الدول الغنية كالعادة، بحيث تبادر لإنقاذ الأثرياء الذين تسببوا بالأزمة، وعلى حساب الفقراء الذين هم ضحاياها! أم أنها ستغلّب النداء الإنساني على نداء المصالح الرأسمالية؟
مشكلة الأمن الغذائي تمسّ مباشرةً حياة مئات الملايين من الناس، بل وتهدد بقاءهم، إما بسبب الجوع، أو نتيجة الأمراض الناجمة عن سوء التغذية، بما في ذلك سوء التغذية "غير المرئي"، أو "الجوع الخفي"؛ أي عندما تفتقر وجبات الطعام للقيمة الغذائية، وحسب تقارير متخصصة فإن ربع أطفال البلدان النامية يعانون من "سوء التغذية غير المرئي".
والأمن الغذائي لا يتحقق فقط بتوفر كميات كافية من الغذاء، بل وأيضا بإمكانية الحصول عليها بعدالة، أي أن تكون هذه المواد الغذائية متاحة لجميع أفراد المجتمع، وهذا يتوقّف على توافر فرص العمل، وعلى القدرات الشرائية. وهذه مشكلة تعاني منها البلدان المتقدّمة والبلدان النامية على حد سواء (ولكن بصور وتجليات مختلفة).
ويمكن اعتبار النقاط التالية أسباب الأزمة، بحسب ما كتبه د. محمد دياب، في دراسة شاملة وموسعة بعنوان: المشكلة الغذائية في العالم: جوهرها وأسبابها الحقيقية، سنبدأ بالأسباب الثانوية على أن نتناول الأسباب الجوهرية في المقال القادم:
أولاً: النموّ السريع الذي تشهده اقتصادات بلدان كبيرة كالصين والهند، والبرازيل، وتسارع وتيرة التصنيع فيها أدى إلى ارتفاع مستوى المعيشة في هذه البلدان، ودخول شرائح كبيرة إلى مصاف الطبقة الوسطى، والتي صارت قادرة على استهلاك اللحوم مثلا، ومن ثم إلى ازدياد حجم استهلاك المواد الغذائية بشكل عام، كما أدّى، من جهة أخرى، إلى تسارع الطلب على النفط فيها، وبالتالي إلى ارتفاع أسعاره، ومن ثم إلى ارتفاع أسعار مكوّنات أساسية للإنتاج الزراعي، كالوقود وزيوت المحركات والأسمدة والمبيدات. كما أن ارتفاع أسعار الوقود يؤدّي بدوره إلى ارتفاع كلفة نقل المنتجات الغذائية إلى الأسواق، ومن ثم إلى ارتفاع أسعارها.
ثانياً: الاتجاه نحو تطوير "الوقود العضوي" وإنتاجه، ما دفع إلى زيادة الاستثمار في إنتاج أنواع الوقود البديلة من أصل نباتي. فتحولت مساحات شاسعة من الأراضي في العديد من البلدان من زراعة الحبوب إلى زراعات لإنتاج الوقود الحيوي. والمفارقة أن الهند والبرازيل، حيث نسبة الفقر والجوع وسوء التغذية عالية جدًا، هما أكبر مصدر للوقود العضوي في العالم.
ثالثاً: من الأسباب الإضافية التي ساهمت في تفاقم المشكلة الغذائية التغير المناخي؛ فالجفاف والفيضانات في بلدان منتجة مثل كندا وأستراليا أثّرت على المحاصيل وعلى إنتاج المواد الغذائية. كما أن التغيّرات في العادات الغذائية (وفق نمط الاستهلاك الغربي) نظرًا للارتفاع في معدّلات النمو الاقتصادي والتطوّر في مستوى المعيشة، من شأنه أن يفاقم هذه المشكلة. ونتيجة لذلك، ستضطر بلدان كانت تتميّز بالاكتفاء الذاتي نسبيًا، إلى استيراد الحبوب بسبب فقدان الأراضي الزراعية.
عبد الغني سلامة
2021-12-01