د. سيد شعبان - ذلك سارد أعرفه!

في عالم الأدب علاقات قد تستمر زمنا ثم تنقضي، يعتري بعضها ما يصيب الناس من تغير، غير أن قلم أديبنا عصي على التقليد يأبى أن يكشف عن عالمه إلا أن تقف عند حرفه الذي يشبه نفسه تلك الممزوجة بعبق ثرى هذا الوطن، أكاد أزعم أنني أقف عند سرده متلبثا حتى أعي الدلالات وهي كثر.
تارة تغير من قناعها وآنا ترتدي ثوبا شفيفا من غموض الرمز.
يكتب المقامة فيدل بمعجمه الثري عن سعة عالم وتفرد أديب فيما يمسك بجديلة الحرف فيخرج لنا سردا يقارب ما قدمه الجاحظ في التربيع والتدوير أو هو منه أقرب.
وفي تصرفه في فنون السرد آيات تبهر وتستدعي من المطالع التفرغ غاية الجهد فالقراءة الواعية نوع من الإبداع.
أنت هنا مع قلم امتطى صهوة جواده الذي اتخذه دراجة يقف بها عند عربة بائع الفول فيقدم لك لوحة من واقع غمس رغيفه بعرق الجبين وقد كلت أيدي الذين طحنتهم الحياة.
تقترب منه فتجد عالمه يشبه ما تقدم من فن وقد يفوقك براعة حس ورعة مشهد، هذه البراعة في الكتابة عن الواقعية السحرية تقارب كبار الكتابات في الأدب الروسي الذي عني بالمهمشين والجوعى تطاردهم كلاب السكك الضالة وقد يضحكون في اشتهاء لحوم على أجساد منهكة توشك أن تكون حطاما.
هل تحتاج دليلا على أديب يغمس سنان قلمه في نزيف شريانه؟
أقدم لك قاريء صلاح المكاوي وما هو بالغر أو بالطاريء على عالم السرد وإنما آثرت أن تشاركني القراءة المغايرة، تراه يغضي حياء إذا ما لامس مداده حديث الأنثى، وذلك عتب إن لم يهامس أذنيها أو يقبل بحرفه شفتيها فهي تدلل ورواء في عالم يلفح هجيره وجوه المحبين!
على أنك واجد في سرده يوميات نائب في الأرياف متمثلا ما فعله الحكيم وقد لف البلاد وعركته التجارب ينظر كل هذا وحماره مطيته وورقته سميره.
يحفل أديبنا بالشوارد فيسجلها والخفي فيظهره في سرد أكاد أراه نمطا وحده.
تطاوعه المفردة في سهولة النغم وعذوبة اللحن كأنما هو شاعر آبى الوزن أن يبتعد عنه، لاتعلم من أي نهر يغترف إلا أن يكون النيل عذبا.
وتلك آية فنه التي تطالعها في مجموعته القصصية تلك، لا أقتحم عالمه إلا مترقب الحرف متهيب العبارة، ففي محضره تراكيب جديدة وألوان شتى.
وفي بنيانه لايبتسر المعنى ولايجري وراء اللفظ يجتلبه سدا لعجز أو رهق الحكي وإنما هي موهبة تقترب من فحول السرد المعاصر كما هي عند المازني ويحيى حقي.
ولو كان لي أن أقدم سرده إلى قراء العربية فتلك جناية أقر بها وأتحمل تبعتها؛ وهذا من عجيب الدفوع التي لايعتريها البطلان!
فهو أديب مقتدر يشترع فنونا ويروي غلة الصدي!
أتهيب القول في محضر أدب مغاير لتكون أيها القاريء معي على خطر أن تستهين بجلال الفن وروعة السرد.
كثيرون يشتهون الكتابة متعجلين الأدنى فيأتي ما هرفت به أقلامهم غثاء، تضج الساحة من خفيف التعبير وركاكة التصوير، هذه آطام توقف مسيرة الإبداع وتصم الكتبة بالعجز، وقلة تمسك بمغزلها فتبدع وابن المكاوي أحد المبدعين بل إن شئت واحدهم.
لا أحب لك أن تخدع بمقدمتي حتى تطالع آيات فنه وتفرد عبقريته فتعود محملا بسرد الرافعي وحكمته وبلاغة وحي قلمه.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...